بعد فضائح متوالية
تصاعد المطالب بإصلاح القضاء.. وعزل القضاة!
محـمـد الأنصـاري
كانت قضية ما يعرف (فتاة القطيف) القشة التي قصمت النظام
القضائي في السعودية، بعد أن كان يتخفّى خلف إصلاحات شكلية
أريد لها أن تسدل ستاراً سميكاً على فضائح القضاة والقضاء..
لم يهنأ الملك ولا رئيس مجلس القضاء الأعلى صالح اللحيدان
بالنظام القضائي الجديد، بعد أن هتكته (فتاة القطيف) وكشفت
عوراته، وربما ثأرت لضحايا المحاكم القضائية التي انفردت
لعقود طويلة بإصدار أحكام غاشمة، وشهرت ببجاحة سلاح (التعزير)
لتهوي به على كل من يخرج عن إطار تشريعاتها، المصممة لغايات
محددة، ليس من بينها تحقيق العدل وإحقاق الحق.
فالمتظلمون، وهم كثر، كتموا آلامهم، بانتظار إنفراج
يعيد لهم حقاً ضائعاً أو مضيّعاً، وطال الإنتظار، فيما
واصل القضاة في غيّهم، واعتبروا صمت الضحايا إعترافاً
ضمنياً بارتكابات لم يقرّوا بها، إن فعلوا، سوى مكرهين،
الأمر الذي أغرى القضاة بمواصلة الاقترافات الحكمية التي
لا تمّت الى الشريعة أو القوانين المدنية بأية صلة.
كان لابد من حدث إستثنائي مدوّي يقطع دابر الانتهاكات
القضائية، فوجد المتظّلمون قناة جديدة للتعبير، فلجأوا
الى وسائل الإعلام الأجنبية، ومنظمات حقوق الإنسان الدولية
من أجل فضح النظام القضائي وتسفيه دعوى الإصلاح القضائي
الذي أعلن عنه الملك قبل شهرين من إنفجار قضية (فتاة القطيف)،
وكان ذلك فصلاً إستثنائياً في التجاذب الداخلي، يستعين
فيه المقموعون بالعنصر الخارجي من أجل الضغط على الحكومة
السعودية لجهة وقف تعدّيات النظام القضائي المدعوم منها،
والخاضع تحت سلطان الملك والأمراء الكبار.
ساء القضاة ظهور المحامي عبد الرحمن اللاحم في القنوات
الفضائية وكشف الإخترافات السافرة لأحكام القضاء والشريعة
ومقاصدها والقوانين المدنية، ومواثيق حقوق الإنسان التي
وقّعت السعودية عليها.. ولذلك، قرروا معاقبة اللاحم، لا
لذنب إقترفه سوى ظهوره الاعلامي، ما استدعى سحب رخصة المحاماة
منه، ومنعه من مزاولة مهنته، وتوجيه الإهانات له.
ما ذكره سيف الصانع في 26 ديسمبر الماضي بشأن قرار
الملك عبد الله بربط المحكمة العليا في السعودية به، واستقلالها
عن رئيس مجلس القضاء الأعلى يقترب الى حد كبير من إتجاه
الرأي العام السائد في المملكة، وخصوصاً فيما يتعلق بالموقف
من النظام القضائي السعودي، وأحكامه الجائرة. كتب الصانع
بأن ثمة شعوراً متزايداً لدى السعوديين بأن (المؤسسة القضائية
من أكثر مؤسسات الدولة السعودية السيادية تخلفاً، ولاسيما
أن من يتربعون على سدّة قمتها ويديرون شؤونها لا يعون
التغيرات التي تكتنف العالم..). يتحدث الصانع عن الشيخ
صالح اللحيدان، رئيس مجلس القضاء الأعلى بالقول أنه (لم
يتلق أي قدر من التعليم المنهجي وتعلّم على الطريقة الكتاتيبية
القديمة ويصر على إبقاء القضاء على ما كان عليه، ويمانع
في تطويره)، وكان أحد المعارضين بشدّة لأنظمة المرافعات
والمحاماة والإجراءات الجزائية.
وشأن القراءات البترية، فإن ثمة نزوعاً إلى استبعاد
العائلة المالكة من مسؤولية تخلف القضاء، وأشكال أخرى
عديدة من التخلف بما فيها النظام السياسي القروسطي الذي
تدير به البلاد، فيما لا شأن للعلماء بتخلف النظام السياسي،
فهم لهم نصيب من التخلف في مؤسسات أخرى منها القضاء والدعوة
والإرشاد والإفتاء ومناهج التعليم الديني..
ما يوصف بأنه مواكبة لعملية الإصلاح التي يديرها الملك
عبد الله، ليس صحيحاً، فالنظام القضائي الجديد وإن انطوى
على إشارات إصلاحية متقدّمة إلا أن المشكلة ليست في مجرد
صيغ قانونية مجرّدة بل تكمن في البنية القضائية بل وبنى
الدولة نفسها التي تتطلب عملية جراحية، فما يغني القانون
الجميل من أجل تحقيق العدل إذا كان القائم عليه فاسداً
وجائراً.
إذاً، ليس النظام القضائي ولا نظام ديوان المظالم خطوة
مفصلية تلبي العصر، أو تواكب مطالب التجديد والإصلاح،
فالإصلاحيون لهم رؤية واضحة وشاملة وفي الوقت نفسه واقعية
في الإصلاح تنطلق من تشخيص دقيق لمشكلة الدولة، وتحدد
محاور الإصلاح وآلياته، بما يتناسب وضوابط المجتمع، وحاجات
العصر.
فصل المجلس الأعلى للقضاء عن النظام القضائي تدبير
ضروري من أجل كبح غلواء القضاة، ولكنه ليس بالتغيير الجوهري،
تماماً كما أن إنشاء محكمة عليا منفصلة عن النظام القضائي
هو قرار ضروري وليس جوهرياً، وإن أدى الى تقليص صلاحيات
الشيخ اللحيدان أو رجال الدين العاملين في النظام القضائي،
الخاضع في جميع مراتبياته تحت سلطانهم الديني. فالمشكلة
تبقى قائمة، وتحوم حول مؤسستين: السياسية والدينية. فقد
شهدنا إعلاناً في مارس 1992 وصف في حينه بالتاريخي، بصدور
الأنظمة الثلاثة: الأساسي، والشورى، والمناطق. ولكن بعد
مرور أكثر من عقد ونصف، مازالت الأنظمة ثابتة لم تتغير،
وفي ذلك جواب لدعاة (التدرّجية) في التغيير والإصلاح.
فحتى الآن، لم يتم إقرار المشاركة السياسية العادلة في
السلطة التنفيذية، ولم يعتمد حتى الآن مبدأ الإنتخابات
في اختيار أعضاء مجلس الشورى (رغم تضاعف العدد)، ولم تتحوّل
مجالس المناطق الى سلطات إدارية قادرة على رسم سياسات
التنمية على أسس متوازنة، وإقرار خطط البناء الفاعل..
كل ذلك لم يحصل لأن النزوع كان وسيبقى هو تغيير الطلاء
الخارجي وترسيخ المضمون.
أن يأتي شخص آخر الى المجلس الأعلى للقضاء أو المحكمة
العليا فذاك ليس المطلوب لذاته، بل السؤال كيف سيأتي ومن
هو الشخص، وماعلاقته بأولياء الأمر!..إن مجرد التفريق
الشكلي بين تقليدي وتجديدي لا يكشف عن إفتراق حقيقي، فقد
يقع التقليدي والتجديدي في مصنّف واحد، وما الفارق بينهما
سوى الرداء الذي يرتديه، وليس القناعات الفكرية والسياسية.
وحسناً لفت سيف الصانع الى نقطة جوهرية وهي أن (أغلبية
القضاة الذين يعملون في المؤسسة القضائية 'مؤدلجونب، إذ
ينتمي الكثير منهم إلى التيار الحركي الإسلامي 'صحويونب،
والذين يتعاملون مع القضايا منطلقين في تصوراتهم، وبالتالي
في أحكامهم، من أطر أيديولوجية حركية تجعل حياديتهم وبالتالي
عدالتهم أمراً تكتنفه الكثير من الشكوك كما يؤكد ذلك كثير
من المحامين الذين يعملون ومازالوا في ردهات المحاكم السعودية).
إذاً الأمر ليس مجرد وضع أنظمة قضائية جديدة، تركّب على
أجهزة متخلّفة، كمن ينصب ماكينة مرسيدس على بعير!
يلفت الصانع أيضاً الى معاناة المتظلّمين من خارج المذهب
السلفي، ويقول (أكثر من يعاني أحكام المؤسسة القضائية
في السعودية هم الأقليات الطائفية، مثل الشيعة الإثني
عشرية في شرق السعودية، وكذلك الإسماعيليين في الجنوب،
وبعض الفرق المنتمية إلى الطرق الصوفية في منطقة مكة والمدينة،
حيث يشكو أصحاب هذه المذاهب الإسلامية من الممارسات التعسفية
من قبل القضاة، إذ يعتبرونهم ذوي عقائد منحرفة دينياً،
ومثل هذه الاعتبارات ـ كما يؤكد كثيرُ من أتباع هذه المذاهب
ـ عادة ما تنعكس على أحكام هؤلاء القضاة بشكل سلبي وجائر).
تركي الحمد، الكاتب الأكاديمي السعودي، كتب في 27 ديسمبر
الماضي مقالاً بعنوان (أما آن لنا أن نكون من المقننين؟)،
ولفت الى ما أحدثته قضية (فتاة القطيف) من تشويه كثير
لصورة السعودية، بفعل إنكشاف مايجري فيها على الخارج.
وجّه الحمد إنتقاداً للقضاة السعوديين، على أساس اعتمادهم
الإجتهاد الفردي في إصدار الأحكام القضائية، دون وجود
نصح واضح ومحدد يقيد هذا الإجتهاد، بما يقلل الأخطاء الى
حد كبير. ويبدي الحمد إستغراباً من الاستعمال المفتوح
لقاعدة شرعية دارجة (المجتهد إذا أصاب فله أجران وإذا
أخطأ فله أجر واحد) ويقول (من غير المعقول مثلاً أن يحكم
أحدهم بالإعدام على أحدهم، ثم يتبين خطأ الحكم، ونقول
بعد ذلك أنه كان من المجتهدين) ويشرح ذلك بالقول (مهما
كان الإنسان عالماً ومتعلماً، ومهما بلغ من درجات الكمال،
فإنه يبقى بشراً يصيب ويخطئ. فالقرارات والأحكام والتقييمات
التي يتّخذها الإنسان تجاه هذه القضية أو تلك، هذه المسألة
أو تلك، إنما تعتمد على عوامل كثيرة، ولذلك نجد إختلاف
المواقف والأحكام في القضية الواحدة، مهما حاول الإنسان
أن يكون موضوعياً متجرداً من غلبة الذات على الموضوع).
ويشدد الحمد في انتقاده لسلوك القضاة، على الإنطلاق
من طبيعة الحياة والبشر، باعتبارها قائمة على التنوع،
ما يمنحها زخماً وحيوية، ولكن لا يسحب هذا التنوع على
المبادىء العامة للبشر، مثل كون العدل قيمة مشتركة متوحدة
في ذاتها لا يختلف أحد عليها، كما لا يختلفون على نبذ
الظلم، رغم أن الحمد يفتح أفق الإختلاف في تحديد مفهوم
العدل للشعوب وتطوّرها عبر مراحل التاريخ وحتى في حقبة
زمنية محدد ولكن في مكانين متباعدين، أو أيديولوجيتين
متباينتين، ولكن يستنثي من ذلك الحقوق فـ (هناك أمور لا
يجوز فيها التعدد واختلاف المواقف من القضية الواحدة،
وذلك عندما تكون الحقوق هي القضية، وعندما يكون القضاء
بين الناس هو محل النقاش. فاختلاف المواقف، أو الإعتماد
على رأي الفرد في هذه القضية أو تلك، يعني إنتفاء العدل،
حين يختلف الحكم في القضايا المتشابهة، أو حين يُترك تحقيق
العدل بيد فرد، مهما كان نزيهاً أو محايداً أو ساعياً
للعدل، فتلك العوامل المتحدث عنها آنفاً، تبقى فاعلة على
الرغم من نية صاحبها الظاهرة، وهنا في ظني تكمن علة القضاء
في المملكة).
يصل الحمد في إنتقاده للقضاة الى مطلب التقنين، بوصفه
حلاً لا يتعارض مع الشريعة ونصوصها. ويعرّف التقنين بأنه
تحديد للنص القانوني، بما يدرء عنه التضارب في التفسيرات
والتأويلات، والأهم الإجتهادات الفردية. وفيما يستبعد
الحمد أن تكون ثمة مشكلة في النظام القضائي استقلالاً
ونزاهة، فإنه يميل الى حصرها في (فردية الحكم والقرار)،
القائم على الاجتهاد الشخصي البحت، دون وجود مرجعية واضحة
ودقيقة من القانون تحكمه، ويمثّل لذلك (أن الحكم في القضية
الواحدة يختلف من قاض إلى قاض، بحيث يكون الحكم هنا هو
السجن المؤبد مثلاً، فيما يكون هناك مجرد بضعة أشهر، وهو
أمر يخل بالعدالة، ولا يستقيم مع ذات الشريعة، التي هي
المرجعية الكبرى للنظام القانوني السعودي).
يستدرك الحمد مراراً، ويضع منبّهات لاستجلاء نيته الخيرة
في مقاربة هذا الموضوع الخلافي، ما يدفعه الى تنزيه القضاة
والنظام القضائي السعودي في أكثر من مرة، ويضيّق شقة الخلاف
في حدود (بشرية القاضي) الذي يخطيء ويصيب، و(هو في النهاية
فرد تتحكم فيه عوامل الغايات والانتماءات والاعتقادات
وغيرها، مثله مثل أي فرد آخر من البشر، حتى وإن كان نزيهاً،
ساعياً للحق والعدل بكل ما أوتي من قوة، وبكل صفاء نية).
ويكرر على بشرية المشكلة، وفرديتها بعد عبارات التنزيه
للنظام القضائي والقضاة المستندين في أحكامهم، حسب كلامه
(إلى النصوص الشرعية).
ويخلص الحمد في قراءته النقدية للقضاء السعودي الى
أن الصفة البشرية وغياب نص قانوني واضح وملزم تفتح الباب
على قراءة مختلفة ومتضاربة للنص الشرعي، بين قاض وآخر،
حتى في أحكام الحدود الواضحة. والحل، في رأي الحمد، هو
التقنين، حيث لا جريمة بغير نص، ما يتيح لمواطن معرفة
ما له وما عليه، فيشعر بالطمأنينة من حيث أن يعلم ماهو
سلوك إجرامي وما هو غير ذلك. ويرى الحمد بأن ذلك من شأنه
ترسيخ الإنتماء للوطن، من حيث ثقته بالعدل.
ويختم الحمد مقالته النقدية بالتأكيد على أنه في ظل
التقنين، يتقلّص هامش الاختلاف في الحكم، بخلاف ماهو حاصل
اليوم، (إذ يظل اجتهاد القاضي في حدود ما يقرره القانون
من عقوبة قصوى وعقوبة دنيا، ولكنه لا يترك الأمر كله للاجتهاد
الفردي للقاضي، الذي هو بشر في الأول والآخر. القانون
هو القيد الذهبي، كما ذهب إلى ذلك فلاسفة الإغريق العظام،
وبغيره لا فرق بين عالم الإنسان وعالم الحيوان، ونحن في
النهاية من يختار..).
|