الإزدواجية ركن في الإستراتيجية السعودية
السعودية ذات الوجهين
د. مي يماني
في ورقة بحثية للدكتورة مي يماني، الزميل الزائر لمركز
سابان التابع لمعهد بروكينز في واشنطن، العاصمة، نشرت
في فبراير ـ مارس من هذا العام، بعنوان (وجهان للسعودية)،
تنطق الدكتورة يماني من حقيقة كون النظام السعودي المدعوم
بالمال النفطي ورعاية الأماكن المقدّسة بدا في السنوات
الأخيرة واحداً من أهم اللاعبين الدبلوماسيين والمبدعين
الفاعلين في الشرق الأوسط. فقد كان الداعم الخفي الأساسي
لقرار الولايات المتحدة بغزو العراق، وكذلك للجهود الرامية
إلى تحقيق تسوية تفاوضية شاملة للنزاع الإسرائيلي ـ الفلسطيني،
وخصوصاً تلك الجهود لكبح طموحات الهيمنة الإيرانية. في
فبراير 2007، تم تشكيل حكومة الوحدة الوطنية الفلسطينية،
رغم قصر عمرها، بعد لقاء مكة. وفي مارس 2007 إلتقى الرئيس
الإيراني محمود أحمدي نجاد بالملك عبد الله في الرياض،
وفي أبريل من نفس العام عقدت قمة في الرياض لجهة إعادة
تفعيل عملية السلام بين العرب والإسرائيليين من خلال مبادرة
الملك عبد الله، حيث يدير السعوديون قناة مفاوضات خلفية
مع العدو الموثوق، إسرائيل.
يبقى أن تدخّلات النظام المتخيّلة في الشؤون الخارجية
تتعارض بصورة حادة مع هدوئها في مواجهة الإنقسامات العميقة
في الداخل. فقد نظر الحكام السعوديون إلى البلاد، منذ
نشأتها سنة 1932، بوصفها زياً ثقافياً، كما ينظرون الى
أنفسهم كحكّام على مجتمع محافظ. العائلة النجدية الحاكمة
لأول حاكم سعودي، عبد العزيز آل سعود (1876 ـ 1953) أرادت
أن تعرّف مع رعاياها، بما يخلق صورة عن أنفسهم باعتبارهم
(آباء الشعب) الكرماء. ولكن هذه الصورة تخفي التنوع بل
والإنقسام. فقد حافظت مناطق، وقبائل، ومذاهب السعودية
على تنوّعها الثقافي، غير المعترف به من قبل النظام، وعوضاً
عن ذلك قام بسلسلة محاولات في سياق الإندماج الوطني، وقد
باءت جميعها بالفشل.
آل سعود منقسمون عبر نظرتين متقابلتين إزاء شكل الإندماج
الوطني الذي يجب إعتماده. الأولى، النظرة الإدماجية العدوانية،
والتي تقوم على إرغام كل السعوديين إعتناق المذهب الغالب،
الوهابية السنية (القراءة الصارمة والحادة للإسلام والمشتّقة
من تعاليم تيولوجي القرن الثامن عشر محمد إبن عبد الوهاب)،
والملتصق بالقيم الوهابية الغالبة في منطقة نجد، مكان
نشأة آل سعود. أما المقاربة الثانية، بحسب اليماني، فتتطلب
إستراتيجية تعددية تنطلق من الإقرار بالتنوّع بين السنة
وبين السنة والشيعة.
وصل الملك عبد الله الى العرش في 2005 بعد ولايته للعهد
دامت عشر سنوات (كل الملوك الخمسة منذ 1953 كانوا من أبناء
عبد العزيز). يبدو أن الملك عبد الله يتبنى نظرة تعددية،
ويفضّل إستيعاباً محدوداً وحذراً للمطالب الشعبية بشأن
الإصلاح الإستيعابي، وقام بمحاولات متكررة لتوسعة التمثيل
السياسي، مستعيداً سياسة الإدماج الوطني الناجحة بصورة
مؤقّتة للملك فيصل في الفترة ما بين 1965 ـ 1975. فقد
أقرّ الملك فيصل بالتنوع الثقافي والديني للبلاد، والذي
يشمل بصورة كبيرة شيعة الأحساء في الشرق، وعسير في الجنوب
الغربي، بامتداداتها القبلية في اليمن، وخصوصاً بين القبائل
الإسماعيلية في نجران وجيزان، وأخيراً مملكة الحجاز، بعاصمتها
مكة. فقد ضمّ سنة حجازيين حضريين من غير الوهابيين في
مكة وجدة في الحكومة السعودية. وعلى أية حال، بعد اغتيال
الملك فيصل من قبل عضو من عائلته، إبن إخيه، في 1975،
لكونه مبتدعاً، فإن سياسة التمييز على قاعدة المذهب، والقبيلة،
والمنطقة، والجنس أصبح القانون اليوم. فقد أرسى آل سعود
وشركاؤهم الوهابيون سياسة هيمنة كاملة على المجتمع عبر
إحتكار سلطة الدولة.
وتستهدف إستراتيجية عبد الله تفكيك الضغط السياسي:
لتقديم تنازلات كافية لإرضاء الفئات المخفّضة والمقموعة
في السعودية، وتخفيف الضغط من أجل الإصلاح. ويبدو أنه
بصدد بناء تحالف سياسي مركزي مؤهّل للموائمة بين مطالب
التنوّع والإنصهار السعودي.
الإصلاح وضد الإصلاح
محاولات الإصلاح بدت من خلال أشكال متنوعة من المقاومة،
بما في ذلك إحباط تكتيكات من قبل أعضاء كبار من آل سعود.
عبد الله، رأس أكبر عائلة مالكة في العالم، تضم 22 ألف
عضواً، يواجه ممانعة من قبل عشرات من إخوانه غير الأشقاء،
وآلاف من أبناء عمومته، وأبناء إخوته، وخصوصاً من الأخوة
السديريين، وأبناء عبد العزيز من زوجته المفضّلة، حصه
بنت أحمد السديري. وما كان معروفاً سابقاً بـ (السديريين
السبعة)، فمنذ موت فهد في أغسطس 2005، فقد تناقصوا الى
ما يسمى (الثالوث): ولي العهد سلطان، وهو نفسه وزير الدفاع،
والأمير نايف وزير الداخلية، والأمير سلمان، حاكم الرياض.
وهناك أيضاً أعمال خلفية من قبل العلماء الوهابيين الرسميين،
حيث يتعايشوا بحذر مع أمراء آل سعود، ويسيطرون على مجالات
مختلفة من النفوذ.
وقد شكّل السعوديون المتعلّمون من كل زوايا البلاد
تحالفاً للضغط من أجل الإصلاح في نهاية 2001. وشملت هذه
المطالب الحقوق السياسية والمدنية، والمساواة بين الجنسين،
ومحاسبة الحكومة، وإجراءات لمكافحة الفساد، والتوزيع العادل
لمصادر الدولة، وإنشاء المحكمة الدستورية العليا، ونظام
قضائي مستقل، وفوق ذلك، تنظيم سلطة المؤسسة الدينية الوهابية،
وجعلها متوافقة مع حكم القانون.
رد فعل الدولة كان إنفصامياً. وبعد أن التقى عبد الله
بالموقعّين على العريضة الإصلاحية في قصره بالرياض في
22 يناير 2003، أقدم الأمير نايف، في وقت لاحق، على اعتقال
11 من الرموز الإصلاحية وذلك في 16 مارس 2004. بقي ثلاثة
منهم في المعتقل حتى عام 2005، حين أفرج عبد الله عنهم.
مطلب الملكية الدستورية بوجه خاص أثار غضب نايف. أفرج
عبد الله عن الإصلاحيين الليبراليين بعد أيام من وصوله
العرش، ولكن أصواتهم وكذلك الإصلاحيين الآخرين بقوا مجمّدين
عبر مصادرة جوازات سفرهم، ومنعهم من السفر والتصريحات
العلنية وتدابير أخذتها المؤسسة الدينية الوهابية وشركائها
الأمراء لكبح تطوّر المجتمع المدني بين الطبقى الوسطى
المتعلّمة.
وفي بدايات 2007، كانت هناك توقّعات واسعة بأن عبد
الله سيعيد ترتيب السلطة التنفيذية، كخطوة متوقّعة تعكس
بصورة رمزية إعادة تعريف الدولة السعودية ومستقبلها. وكان
هناك، أيضاً، أمل بتمثيل الجماعات المهمّشة، بما يشمل
تعيين أول شيعي عضواً في الحكومة، وكذلك القيام بعمل ما
ضد فساد الوزراء المعمّرين في الجهاز التنفيذي.
على أية حال، أعلن الملك في مارس بأن وقت التغيير لم
يحن بعد، متمسّكاً بحكومة معطوبة.
عطالة السعودية تتجاوز الحكومة. ويبقى النظام القضائي،
الذي يقوده منذ 1983 الشيخ صالح اللحيدان، خاضعة بصورة
كاملة تحت سلطة المؤسسة الدينية الوهابية. كل القضاة (أكثر
من 700 قاضياً)، ووزير العدل هو دائماً عضو رئيسي من التراتبية
الوهابية. وتخضع المحاكم كل القرارات القضائية لتفسير
ضيق وانتقائي للقرآن الكريم والسنة، محكوم بتفسير العلماء
الوهابيين للفكر الإسلامي الوهابي والحنبلي الواسع. إصلاحات
عبد الله غير البارعة واجهت ممانعة عنيدة ومؤثّرة من قبل
اللحيدان، الذي ما زال يحتفظ بعلاقات أساسية ومصلحية متبادلة
مع الأمير نايف.
علاوة على ذلك، وبالرغم من الضغط المحلي، فإن الملك
عبد الله لم يعيّن نائباً ثانياً كخليفة لولي العهد الأمير
سلطان، كما جرت العادة بالنسبة للملوك السعوديين. ويبدو
عبد الله غير قادر على تعيين غير سديري. ويبقى ولي العهد
سلطان وزير الدفاع، وهو موقع متوازن داخل العائلة المالكة،
أو تجاوز جيل قادم يختار منه خليفة لسلطان. ونتيجة ذلك،
فإن الشعب السعودي لا يعرف من سيصبح ملكاً حين يغادر الحكام
المعمّرون في النهاية المشهد. وفي البحث عن مصالحة لتسوية
معضلة الوراثة، شكّل عبد الله لجنة ملكية (هيئة البيعة).
ولكن هذه اللجنة لا تملك سوى فرصة محدودة للبقاء في حال
موت عبد الله قبل ولي العهد.
في غضون ذلك، فإن العلماء الوهابيين مسايرون بصورة
مستمرة تماماً كما شأن حكام المملكة.
تسيطر المؤسسة الوهابية ليس على النظام القضائي فحسب،
ولكن أيضاً على هيئة كبار العلماء، واللجنة الدائمة للإفتاء
والدعوة والإرشاد، ووزارة الشؤون الإسلامية، والرئاسات
العامة للإدارة الدولية للمساجد، وهيئة الأمر بالمعروف
والنهي عن المنكر. ويشمل الأخير المطاعة، الذي يديره وزير
في الدولة. ويسيطر الوهابيون أيضاً على التعليم الديني،
والذي يشمل نصف المنهج الدراسي الرسمي، والجامعات الإسلامية
في مكة والمدينة والرياض، ووزارة الحج، ووزارة الأوقاف.
علاوة على ذلك، يمارس الوهابيون نفوذاً على وزارة المالية
عبر السيطرة على الزكاة، ويسيطرون على المجلات، ومحطات
الإذاعة ومواقع الإنترنت، كما يمارسون سلطة على العسكر
عبر التنشئة الدينية.
ديمقراطية بوتمكين
الإصلاح في السعودية هو مصالحة غريبة وشاذة بين قوى
متعارضة للأجنحة الرئيسية لآل سعود، وقوى المؤسسة الدينية
الوهابية الرسمية.
إن الإجماع، في ظل السلوكيات المتناقضة، يبدو مستحيلاً،
وأن تشكيل أية سياسة متماسكة لتلبية حاجات الدولة يبدو
غير قابل للتحقق. وتبقى نتيجة واحدة وهي: ديمقراطية هجينة.
فقد تم إجراء الإنتخابات البلدية في 2005، ولكن كانت
جزئية، وبإدارة سيئة، وبلا نتيجة. ينسحب ذلك أيضاً على
مجلس الشورى وهو بلا أسنان، ويتألف أكثر من 50 بالمئة
منه من الوهابيين، ويرأسه عالم وهابي. فمجلس الشورى المعيّن
من الملك عاجز عن إصدار القوانين، أو مناقشة الميزانية،
أو تخصيص المصادر والإنفاق العام، وسيقى غير منتخب في
المستقبل المنظور. وقد أكّد سلطان ذلك القرار في 2005
لوضع حد للنقاشات التي بدأها الإصلاحيون الليبراليون بهذا
الصدد، حول إمكانية مجلس شورى منتخب، مجادلاً بأن السعودية
ليست جاهزة لبرلمان منتخب لأن المصوّتين قد ينتخبون مرشّحين
أميّين وغير مؤهّلين.
دشّن عبد الله إطاراً دستورياً مماثلاً وهو (الحوار
الوطني) في 2003. وقد تمّت دعوة الوهابيين السلفيين، والشيعة،
والاسماعيليين والصوفيين جميعاً في صالون واحدة للقاء
متلفز وطلبت منهم الحوار. وعلى أية حال، فإن المؤسسة الوهابية
لم تضفِ شرعية على الحوار الوطني، ولم تحدث تغييراً في
الحياة اليومية. وفي واقع الأمر، لا يزال الشيعة عاجزين
عن الإدلاء بشهادتهم في المحكمة، أو يمارسوا مهنة الجزارة
(حيث أن اللحم الذي يقطعه الشيعي ليس حلالاً)، أو أن يتزوج
من سنيّة، وكلها محظورات عمّقت الحواجز الإجتماعية.
وعلى أية حال، وبالرغم من غياب أية إجراءات عملية،
كانت هناك ميزة إصلاحية للحوار تشجّع عملية بناء الثقة
الشكلية التي أفضت إلى مبادرات غير رسمية من قبل الناس
الذين لم يتحدّثوا مع بعض من قبل (أو في الواقع لم يروا
ذلك ممكناً). وما يعكس رغبة حقيقية لحوار غير خاضع لكوابح
السلطة، هناك الآن فائض كبير من منابر الانترنت للشيعة
والوهابية ـ السلفية، ومشاركين سنة آخرين، وبالرغم من
أن بعض المواقع ذات الطبيعة الليبرالية قد تم إقفالها.
وبالمثل، فإن الصحف تشتمل بصورة كبيرة على مناظرات
بشأن القضايا الوطنية والدولية. وفي الواقع، أسّست الحكومة
أول نقابة للصحافيين في 2004، وتشمل صحافيتين من بين الهيئة
الإدارية للنقابة المؤلّفة من تسعة اعضاء. رغم ذلك، فإن
حرية التعبير تبقى محدودة بدرجة ضيقة، حيث يخضع الصحافيون
الذين يتجاوزون الخطوط الحمراء المفروضة على الرقابة لحزمة
متزايدة من العقوبات، وتشمل الطرد والتهديد بالجلد (وحتى
الموت). وقد تمّت مواجهة بعض المفكّرين البارزين بهذه
التهديدات مثل حمزة المزيني، ومنصور النقيدان، وتركي الحمد.
إن مقاربة النظام لحقوق الإنسان كانت نفاقية كذلك.
في 2004، صادقت الحكومة على تأسيس منظمة أهلية سعودية
لحقوق الإنسان. وبالرغم من زيارة السجون وإثارة القلق
بشأن معاملة أفضل وتمثيل السجناء، فإن العاملين في اللجنة
يتحاشون التورّط في قضايا مثل حرية التعبير والإعتقال
السياسي. ومن اللافت أن هيئة حكومية أخرى، وهي لجنة حقوق
الإنسان السعودية، الذي يعيّن الملك أعضاءها، تأسسست سنة
2005 وتسلّط الضوء على تطبيق التعاليم الإسلامية. وبدلاً
من مناصرة الإصلاح، فإن الغرض الرئيسي لكل من المنظمتين،
كما يبدو، هو إسدال ستار على سجّل الدولة في مجال حقوق
الإنسان الذي يعتبر متدنياً على المستوى الدولي.
وهن الإسلام النفطي
أصبحت الإصلاحات بالغة الصعوبة بسبب تسييس الهويات
الإثنية والقبلية والمذهبية في مواجهة المستويات المتزايدة
من الإقصاء، والقمع خلال العقود الثلاثة منذ موت الملك
فيصل. القمع من الأعلى، المتزامن مع سقوط أسعار النفط،
وتفاوتات في توزيع المصادر، والإنقسامات الإجتماعية الحادة
والقاسية، فيما الفساد المؤسسي للعقدين الماضيين، وخصوصاً
خلال عهد الملك فهد، كان متجّذراً بصورة عميقة بحيث جعل
من أسعار النفط العالية حالياً غير كافية لدعم الإصلاح.
على النقيض من ذلك، فإن السعوديين يصفون ذلك (كلما
تزايد المال تزايد الفساد). أصبحت الوهابية السعودية مدمنة
على النفط، وأن قوتها تعتمد على اسعار النفط. ففي ظل أسعار
النفط المرتفعة، فإن آل سعود، خدّام الأماكن المقدّسة،
صدّروا العقيدة الوهابية عبر العالم، وبقيت الدولة السعودية
متماسكة وقويّة. ولكن حين تسقط الأسعار مرة أخرى، فإن
السعودية ستواجه تحدّيات دراماتيكية. النزواعات الإنفصالية
الضامرة باقية، وتفرّض تهديداً للوحدة الوطنية السعودية
والوحدة الترابية.
إن قرار المحافظة على تركيبة الدولة الجامدة في ركودها
تعكس الضغط على الحكومة للمحافظة على شكل الإنسجام، متجاهلة
التنوّع الحقيقي للبلاد لصالح الإعتماد المستمر على الوراثة،
القوة، والقمع. ولكن النموذج الوراثي التقليدي هزيل الى
حد كبير ليس بسبب عدم اليقين المتأصل الذي يرمز إليه إعتمادها
على مداخيل النفط، ولكنه أيضاً عائد الى الإنفجار السكاني
والحاجة الملّحة لتخفيض حجم البطالة. يبلغ سكان المملكة
حالياً أكثر من 22 مليون (ويشمل المهاجرين)، فيما يشكّل
50 بالمئة من السعوديين تحت سن 15.
المجال الملكي هو الآخر يتمدد بوتيرة متسارعة، وبمقارنة
الأمراء الى العامة، هناك أمير واحد الى ألف من العامة
(بالمقارنة مع واحد الى 5 ملايين، على سبيل المثال، في
المملكة المتحدة). وهذا يضاعف التحدي في إدارة الإمتيازات
الأميرية، والمرتّبات، والطلبات على الوظائف. على سبيل
المثال، فإن الإمتيازات الملكية تشمل وظائف مدى الحياة،
والهيمنة على الخدمة المدنية، والتي تمكّن الأمراء من
الفوز بالعقود والحصول على عمولات علاوة على مرتباتهم.
ويتنافس الأمراء أيضاً، وخصوصاً الكبار منهم، ضد التجار
المحليين حول العقود.
إرتفاع أسعار البترول هو حل مؤقّت فحسب، لجهة تسدير
(نسبة الى الجناح السديري) الدولة وتركيز السلطة الوراثية.
لتحقيق ذلك، فإن العولمة والحصول على عضوية منظمة التجارة
العالمية كانت مصدر ضغط متوازٍ لتمديد نطاق إقتصاد السوق
الحرة وفصل السلطتين السياسية والإقتصادية. على أية حال،
فإن المطالب من اجل توزيع متكافىء للثروة من خارج النظام
الوراثي الملكي يستمر ليلتقي مع القوة والقمع.
مطالب حقوق الإنسان والتوزيع المتعادل للثروة تعتبر
بالغة الأهمية خصوصاً بالنسبة للشيعة السعوديين، الذين
يشكّلون غالبية المناطق الغنيّة بالنفط في البلاد. فما
لم تحقق مطالبهم، فإنهم قد يميلون إلى دولة خاصة بهم،
بما ينتج عنه سيطرة شيعية على مصادر النفط. حتى اللحظة،
فإن الشيعة راضون بالإعتماد على الحوار لتحقيق طموحاتهم.
تعتبر المجموعات الأخرى الحوار مع النظام عقيماً. وفي
27 أبريل 2007، أعلنت وزارة الداخلية إعتقال 172 إرهابياً
كانوا يخططون لمهاجمة مبانٍ حكومية ومنشئات نفطية، وربما
يكون التهديد الأشد خطورة بالنسبة للنظام السعودي منذ
عقود. في الواقع، قد يكون المخطط محاولة إنقلابية، حيث
أن 61 من المعتقلين يعتقد بأنهم على صلة بالجهاز العسكري،
ويشمل كولونيلات وجنرالات (وهي حقيقة لم يتم ذكرها بصورة
مباشرة في التصريحات الرسمية). وكان من بين المعتقلين
طيارون سعوديون الذين تدرّبوا في الخارج، وكانوا يخططون
للسيطرة على قواعد عسكرية وخصوصاً القاعدة الجوية في الظهران.
تستثني القوات المسلّحة السعودية، وخصوصاً القوة الجوية،
الشيعة فيما تم إبقاء عدد الحجازيين الى الحد الأدنى منذ
حادثة جهيمان سنة 1979 في مكة. ولكن الحادث الأمني الأخير
يكشف عن أن النظام السعودي يواجه تهديدات ليس من قبل المجموعات
الصغيرة، ولكن أيضاً من داخله.
في الوقت الراهن، على الأقل، فإن مثل هذه الحوادث قد
تقوّي موقع المؤسسة الدينية الوهابية، وهي واحدة من القوة
القمعية الأساسية. في مايو 2007، بدأ المطاوعة بهجوم عنيف،
وشنّ الغارات على البيوت، وإحتجاز أفراد لعدة أيام، وتعذيب
بعضهم وضرب آخرين حتى الموت. آل سعود غير قادرين على وقف
العنف الذي تشرف عليه الدولة، والذي ينظر إليه كثير من
السعوديين على أنه شكل من الإرهاب الرسمي.
وفي رد فعل على المطالب المتجددة من قبل المختّصين
السعوديين لجلب المطاوعة إلى العدالة، فإن الأمير نايف
دافع عنهم، مدرجاً مهمتهم في الحرب ضد الإرهاب.
وبالرغم من جهود المتشدّدين، فإن النظام الإجتماعي
والسياسي يبدو، في كل الأحوال، متهاوياً بالإنكشاف على
العالم الخارجي من خلال السفر، والتلفزيون الفضائي والإنترنت
والذي زاد من المطلب الشعبي بشأن الحقوق السياسية، بما
يشمل التمثيل السياسي والذي جحدته تاريخياً أبوية الدولة.
وإذ لا يمكن إغلاق حدود المملكة أمام الأفكار، أو الاستقواء
ضد رغبة التغيير، حيث يشاهد الناس بحماسة عالية قناة الجزيرة
(المحظورة رسمياً في السعودية حتى وقت قريب)، حيث أنها
تبث تقارير حول النقاشات الديمقراطية في البلدان المجاورة:
البحرين، الكويت، قطر، وعمان. كانت إستراتيجية النظام
السعودي المجادلة بأن البلدان الأخرى مختلفة، لأنها لا
تضم مكة والمدينة، وأن الإصلاح يجب أن يضبط بصورة حذرة
ليتوافق مع اللمسة الفريدة والمسؤولية الخاصة برعاية الأماكن
المقدّسة. على أية حال، فإن العولمة لم تعترف بالقداسة
الإنتقائية ولها تأثير مدمّر على تعريف المملكة للتقليد
والدين.
تهديد الشيعة
بالمقارنة مع الوارثين المحبطين للحلم القومي العربي
السني الذي جسّده جمال عبد الناصر في مصر، وصدام حسين
في العراق، وحافظ الأسد في سوريا، فإن السعودية تعتبر
إقليم النظام الأكثر إعتدالاً. فقد باتت الرياض متحمّسة
بصورة أكبر لتطوير هذه الصورة من الإعتدال في مواجهة (الهلال
الشيعي) الذي تقوده إيران، وهو مصطلح أفصح عنه أول مرة
الملك عبد الله الأردني في 2005، بعد سقوط نظام صدام السني،
بالرغم من أنه كان ببساطة يعبر عن صدى قلق جاره السعودي.
تهديد الشيعة كان أيديولوجياً بصورة رئيسية، فيما يعتبر
المذهب الوهابي، الذي تستمد منه الدولة السعودية مشروعيتها،
أقلية في البلاد. وعليه فإن الإحياء الشيعي يهدد بفضح
تآكل المشروعية، والفجوة المتزايدة بين الحكام الوهابيين
السنة وشعبهم. يقرّ الحكام السنة العرب المعمّرون بأن
بروز قوى شيعية حظي بافتتان الشباب العرب، الذين انجذبوا
للجيل الصاعد من القادة مثل أحمدي نجاد، وحسن نصر الله،
قائد حزب الله.
فهؤلاء القاعدة الشيعة الشباب يملكون القدرة والحيوية
لتعبئة الشارع العربي، بمن فيهم السعوديين بصرف النظر
عن المذهب.
لقد حذّر سفر الحوالي، العالم الوهابي السعودي البارز،
المسلمين في المنطقة للخطر الداهم المتمثل في (القوس الرافضي)
سنة 1991، عقب انتفاضة الشيعة في جنوب العراق. الرافضة،
وهو المصطلح السلفي ـ الوهابي للشيعة، يصنّفون في خانة
الهراطقة والمرتّدين. في الرؤية العالمية لـ (القوس)،
فإن الشيعة في أفغانستان وباكستان، وكذلك العلويين في
تركيا وسوريا، يدرجون في خانة الشيعة في جنوب العراق ولبنان.
خشي الحوالي من القوة الأيديولوجية هذه بما قد يؤثر على
الشيعة في الخليج، وخصوصاً في السعودية، وأن التشيع قد
يغمر المجال السني.
وفيما يضطلع عبد الله بدور قيادي وحيوي في شؤون المنطقة
المضطربة ويستعمل لهجة (الحرب على الإرهاب) لوضع دوامة
غير مذهبية في مبادراته المختلفة لاحتواء شيعة إيران،
فإنه غير قادر على تضييق العجز الديمقراطي الحاد للسعودية
بالمقارنة مع جيرانها وخصوصاً فيما يرتبط بالسياسة الاستيعابية
للسكان الشيعة، الذين يمثّلون 75 بالمئة من المناطق الشرقية
الغنية بالنفط في السعودية.
إلتقى عبد الله بأحمدي نجاد ولكن تلك الصور المطمئنة
كانت من المستحيل أن تحدث تغييراً في الداخل، حيث أن عبور
حاجز الإنقسام المذهبي لن يكون مقبولاً.
عبد الله غير قادر على وقف القناة الفضائية الوهابية
(المجد)، التي تبث من الإمارات العربية المتحدة والتي
توصم الشيعة بـ (المبتدعة)، أو حتى المئات من المواقع
الوهابية على شبكة الإنترنت والتي تنادي الى إزالة شاملة
للشيعة (التوجيه الديني يفيد بأن قتل المسلم الشيعي يضاعف
الأجر، ويكافىء عليه في الجنة، بأكثر من قتل المسيحي أو
اليهودي).
باختصار، فإن مشكلة عبد الله ليست مع أحمدي نجاد أو
نصر الله، ولكن مع الوهابيين في الداخل. إن تمذهب الشيعة
يقدّمه آل سعود بوصفه تهديداً إقليمياً، ولكن نموذج الإسلام
لدى آل سعود هو مصدر تهديد أكبر وأعظم للمملكة، وللمنطقة،
وللعالم.
إنبعاث السياسة الخارجية
بالنظر الى الإنقسامات الداخلية، فإن طاقة الدبلوماسية
الخارجية للمملكة هي مثيرة للإنتباه. فقد باتت لدى عبد
الله يد مطلقة لتطوير تحالفات في السياسة الخارجية، والتي
يستعملها إلى حد لم يكن يُرَى منذ عهد الملك فيصل. في
الواقع، بات ينظر الى الملك عبد الله على أنه قائد معتدلي
المنطقة، جنباً إلى جنب الرئيس المصري حسني مبارك وملك
الأردن عبد الله الثاني.
بالنسبة للولايات المتحدة، فإن هؤلاء القادة جاءو ليمثّلوا
ثالوث الشرق الأوسط، حيث يضطلع مبارك وعبد الله الثاني
دور المعتدلين الثابتين، فيما ينظّم الملك عبد الله بصورة
فاعلة جبهة مقاومة سنيّة إقليمية في مقابل إيران الشيعية.
كان ذلك كله واضحاً بدرجة كبيرة بالنظر الى، عقب الهجمات
الإرهابية على الولايات المتحدة في 2001، أن المملكة عانت
من سلسلة صدمات لمكانتها. فمن جهة، أصبحت تعرّف بالتطرف
الإسلامي والإرهاب، ومن جهة ثانية فإنه حليفها وحاميها،
وقد أسقطت الولايات المتحدة طالبان وصدام حسين ـ وكلاهما
نظامان سنيّان وهما درعان ضد إيران. وفي المحصلة، في الفترة
ما بين 2001 ـ 2006، تركت المملكة بمفردها في البرد، وكانت
السياسة الخارجية السعودية قد وضعت في حالة تجمّد، وعكست
عجزها عن القرار بخصوص العراق، ودورها المتردد في لبنان،
وعجزها عن لعب دور في النزاع الإسرائيلي الفلسطيني.
ولكن بقدر الفوضى التي تغمر الشرق الأوسط، هناك قدر
مماثل من الفرص بالنسبة للسعودية لتأكيد موقعها. ومع استقواء
الشيعة في العراق، وصعود حزب الله في لبنان، وبروز حماس
في فلسطين، وجميع هؤلاء أفادوا من الدعم السياسي والمالي
الإيراني، رأى الحكام السعوديون فرصة لمشروع دبلوماسي.
وفيما تتراجع السياسة الخارجية الأميركية عن (الحرب
على الإرهاب)، بالنظر الى هدفها الباسق لنشر الديمقراطية
في الشرق الوسط، الى تركيزها التقليدي على دعم الأنظمة
المعتدلة في المنطقة بهدف المحافظة على النظام والإستقرار،
فإن السعودية تبرز كقلعة إستراتيجية للعالم الإسلامي.
إن إستعمال المملكة لمكة كأداة في سياستها الخارجية
منذ 2006 قد عزّزت موقعها: المدينة ـ مكة هي الرمز غير
المتوفّر لخصومها الكامنين، بمن فيها ليس إيران الشيعية،
ولكن أيضاً الدول العربية السنيّة الرئيسية مثل مصر والأردن.
يضاف إلى ما سبق، أن القلق الرئيسي لدى السعودية هو
احتواء (تهديد الشيعة) الإيراني، وبروز (الهلال الشيعي)
الذي يمتد من إيران الى لبنان، منسجماً، أي الإحتواء السعودي،
مع المصالح الأميركية. فقد دعمت الرياض حكومة فؤاد السنيورة
اللبنانية سياسياً ومالياً في مسعى لإضعاف القوى الحليفة
لسوريا وإيران، وخصوصاً حزب الله. وقدّمت السعودية أيضاً
دعماً ضمنياً لإسرائيل في حربها ضد حزب الله في 2006،
من خلال إدانة نصر الله، وهي أول دولة عربية تقوم بذلك.
وبالنظر إلى التحالف الداخلي لآل سعود مع المتشددين
الوهابيين، فإن الرؤية المعلنة للسعودية لمنطقة هدأت بفعل
(سلام المعتدلين) تفتقر للمصداقية. ومن خلال تعميم الإعتقاد
بأن الشيعة يفرضون التهديد الأخطر على استقرار الشرق الأوسط،
فإن النظام نجح في تبديد الفكرة، التي ولدت من هجمات الحادي
عشر من سبتمبر، بأن المقاتلين السنة الوهابيين هم المشكلة
الحقيقية. وبالرغم من أن القاعدة وجماعات سنيّة أخرى يمثّلون
تهديداً حقيقياً للمملكة وكذلك للمنطقة، فإن الحكام السعوديين
طردوا الإرهابيين الذين صنعوهم كرجال ملتحين، مختفين في
كهوف رطبة.
كانت هذه المناورة السياسية ناجحة جزئياً بسبب جرح
أميركا الذي لم تتشافى منه، والذي سبّبته ثورة آية الله
الخميني الإسلامية سنة 1979.
ثمة إنسجام بين القلق الرئيسي لدى السعودية و المصالح
الأميركية في إيران، وكذلك تصنيف إيران الولايات المتحدة
(الشيطان الأكبر). في غضون ذلك، فإن وصول أحمدي نجاد الى
السلطة متزامناً مع لهجة طنّانة حول إزالة إسرائيل من
الخارطة، أعطت الحكّام السعوديين فرصة لأن يصبحوا معتدلين
مثاليين، وأن يستضيفوا قمم السلام وحتى مصافحة أحمد نجاد
في سبيل السيطرة عليه.
أكثر من ذلك، فإن البرنامج النووي الإيراني قدّم رمزاً
قوياً لتنامي تهديد الشيعة. نتيجة واحدة يمكن أن تكون
هي سباق التسلح الإقليمي، حيث تبحث السعودية ومصر ودول
عربية سنية أخرى، مدعومة بواسطة الحصول على كميات كبيرة
من الأسلحة من الولايات المتحدة، لموازنة النفوذ الشيعي
الإيراني.
النظام السعودي، الذي يواجه عبء تحديات وتهديدات محلية،
إعتنق أجندة سياسة خارجية واضحة وصارمة. فالنخبة الحاكمة
في المملكة حصلت على راحة نفسية من السعر المرتفع للبترول،
والذي استعملته لدعم ثقافتها حيث ناضلت للتغلب على جرح
11 سبتمبر وإعادة بناء علاقاتها مع الولايات المتحدة.
وباستعادة أصداء مبدأ نيكسون، فإن واشنطن، المكبّلة في
العراق والعاجزة أو التي لا تريد أن تسلّط الضوء على النزاع
الإسرائيلي ـ الفلسطيني، كانت سعيدة جداً في أن تدع السعودية
تطبق إستراتيجيتها في الدبلوماسية الإقليمية. وزارة الشؤون
الخارجية في الرياض، وبطريقة صغيرة، ملأت الفراغ الدبلوماسي
فيما أفرغت وزارة الخارجية الأميركية طاقتها في بغداد.
وهذا يفرض مخاطراً لكل من واشنطن والرياض، مشابهة لتلك
التي واجهها شاه إيران، باستعمال الجولات الإقليمية لنفي
المشكلات السياسية المحلية العميقة، التي برزت وجهاً لوجه
في 1979.
إمتلاك النفط ورعاية الأماكن المقدّسة لا تقدّم أساساً
لأمن حقيقي طويل المدى. على العكس من ذلك، فإن الاعتماد
المستمر على هذه المصادر لتفادي تشخيص التحديات المحلية
سيجعل الضعف الخارجي للسعودي أشد سوءً. وإذا ما أراد النظام
التقليل من شأن التهديد الذي تراه من الشيعة في إيران،
والعراق، ولبنان، فإن الفصل الأشد حساسية ليس إنشاء تحالف
مناهض للشيعة مع الولايات المتحدة واسرائيل. وبدل ذلك،
فإن من الحكمة تحسين الظروف الإجتماعية والسياسية للشيعة
في الداخل. وهذا يتطلب مواجهة المؤسسة الدينية الوهابية
لاحقاً. ويكمن الخطر في أن ذلك قد يقوّض بصورة قاتلة أحد
أعمدة حكم آل سعود. ويواجه النظام بخيار لا يحسد عليه.
فالملك عبد الله يقدر على السير بصورة صارمة في طريق التفكيك
السياسي، وحتى اللبرلة، بمنح السكان السعوديين حرية تعبير
أكبر والتأثير على الحكومة. وهذا بالتأكيد سيجعل الشعب
بجانبه. ولكن يبدو أن النظام مقدّر له الميل نحو الجمود
المستمر، منشغلاً في دبلوماسية إقليمية رمزية كبيرة على
أمل أن تهبها مصداقية في الداخل.
|