دولة التكفير
إستوقفني تحذير عضو هيئة كبار العلماء، واللجنة الدائمة
للإفتاء في السعودية الدكتور سعد بن ناصر الشثري، من تحول
القضايا الفكرية إلى (شقاق وتفرقة ونزاع، وتوسّع دائرة
التكفير إلى استحلال الدم الحرام). الشثري أنحى، في حوار
له مع صحيفة (الحياة) اللندنية، في 22 مارس الماضي، باللائمة
على الكتّاب والفقهاء مسؤولية (المحاولات السيّئة التي
تقصد تفريق المجتمع وإيجاد العدواة بين أبنائه). كما لفتني
تقويمه النقدي لبرامج الإفتاء الفضائية، كونها تعرّضه
لإشكالات من قبل المتّصلين الذين (قد يكون لهم أغراض ومآرب
إما بالدعاية لشركة أو القدح في أشخاص أو دول بأساليب
خفية).
كلام يعتبر تطوّراً لافتاً، خصوصاً حين يصدر عن شخص
ينتمي لمؤسسة دينية محفوفة بالإنطباعات السلبية نتيجة
الفتاوى التكفيرية الصادرة عن بعض أعضائها منذ نشأتها
وحتى الوقت الراهن، ومازالت الفتاوى مثبّتة في سجلات الهيئة،
ولم يصدر ما يفيد تخلي أصحابها عنها.
فقد دمغت المؤسسة الدينية بنزوعها التكفيري الذي بات،
بحسب الباحثين في التاريخ السعودي، جزءً جوهرياً من مشروع
الدولة، وأحد أهم أدوات تعزيز السلطة. فقد خاض الجيش العقائدي
لابن سعود في الربع الأول من القرن العشرين حروباً دموية
في مناطق الجزيرة العربية على قاعدة أن سكّانها كفّار،
الأمر الذي أملى عليهم واجباً دينياً بغزوها وإدخالها
في الدين عنوة (للتذكير فحسب: بقيت المناطق التي خضعت
تحت الدولة السعودية بالقوة العسكرية محتفظة بعقائدها
الدينية غير السلفية ـ الوهابية).
تنفرد الوهابية السعودية بكونها أول من تبنّت تكفير
المجتمعات، وبالغت الشروحات الواردة على كتاب (التوحيد)
للشيخ محمد بن عبد الوهاب في تصوير الحال الدينية في العالم
على أنها جاهلية عمياء، تستثنى منها حال نجد، التي مازال
بعض كبار السن في العائلة المالكة والعلماء يرون بأن لا
دين خارجها، فقد عمّ الكفر بلاد المسلمين، حسب زعمهم.
ومن نافلة القول، أن فتوى التكفير تنطوي على حكم بالقتل،
غير المنجز، على أساس أن العلماء ليسوا في مرحلة (التمكين)
التي تسمح لهم بتنفيذ الحدود. مثل هذه الأحكام تسمح لمن
رأوا أنهم قد بلغوا مرحلة التمكين، على غرار أصحاب مشاريع
(الإمارة الإسلامية)، في تطبيق الحدود بما في ذلك القتل
والرجم.
بدأت نزعة التكفير، في انزلاقاتها الخطيرة، باستعمال
مفرط لفتاوى التكفير ضد كل من ليس على المذهب الوهابي،
مذهباً كان أم جماعة أم دولة، ثم انتقل التكفير إلى مرحلة
ثانية بحيث يشمل الأفراد الذين يحملون رأياً مخالفاً أو
اجتهاداً خاصاً من خارج المذهب السلفي، فصدرت فتاوى التكفير
ضد كتّاب ومثقّفين وشعراء وأدباء ونقّاد، بتهمة تبني عقائد
ضلال، أو التجديف.
المرحلة الأخطر في نزعة التكفير أنها باتت مشاعة بين
كل من يرى في نفسه مصداقاً للحاكم الشرعي، ما يفسح في
المجال لتوزّع السلطة الدينية على عدد غير محدود من الأفراد،
الأمر الذي جعل النزاع داخل دائرة هذه السلطة مفتوحاً،
ويستقطب المزيد من العلماء. وقد تكون إنتفاضة العلماء
ضد أولئك الذين يحاولون إختراق المقدّس، أي العلم الشرعي،
كمجال محتكر لعلماء المذهب الوهابي، أشد عنفاً لأنها تمثل
تهديداً مباشراً لرمزيتهم الدينية وسلطتهم الروحية.
وهنا تتشكّل الخطوط المتصارعة، حيث يجد (العامة) مرتعاً
خصباً لتحقيق مآرب تخلو، في الغالب، من المقصد النزيه،
والغاية النبيلة. ليس جهراً بالسوء القول بأن كثيراً من
الأحكام التكفيرية صدرت بوحي من أسئلة ملغومة، فقد برع
بعض السائلين في استدراج الفقهاء الى مواطن شبهة حكمية،
عن طريق إثارة الغرائز، وتفجير الحميّات الدينية، ما يدفع
بهم إلى تبني الحكم المدسوس في الأسئلة (الشرعية!). فكم
من أفراد وجماعات أصابها الضرّ من وراء فتاوى التكفير
الصادرة عن علماء لا يعرفون عنها سوى ما ورد في أسئلة
من أفرغوا تشخيصاتهم القاصرة، والمستندة أحياناً على الهوى
والعصبية والجهل.
هؤلاء (الأشباح) الذين يصفهم خالد الغنامي في مقالته
في صحيفة (الوطن) في 24 مارس الماضي، (هم البطالون الركاضون
في اجترار الفتن)، حسب قوله، ومن يعقدون اجتماعاتهم في
(غرف مغلقة يجمعون قصاصات المقالات القديمة بحيث أصبح
عندهم لكل كاتب معروف أو كاتبة معروفة ملف خاص يحوي كتاباته
بهدف محاكمة أفكاره.. فإذا استسلموا لهذه الحقيقة المرّة
عادوا للبحث عن الغاية التي جمعتهم, ألا وهي البحث عن
(مكفّر) للكاتب).
لا تضع الحرب أوزارها لدى هؤلاء حتى ينتزعوا حكماً
بتكفير هذا الكاتب وذاك الشاعر، وحينذاك يمتليء من سهر
الليالي دفاعاً عن حياض العقيدة بحثاً عمّن أساء إليها،
بنشوة النصر المؤزّر، الذي لا تضرّ معه سيئة!.
مهما يكن، فإن المسؤولية ليست مقتصرة على هؤلاء الأشباح،
لما ينطوي ذلك على تبرير لأخطاء الفقهاء الذين أمروا بأن
يحكموا على أساس العلم اليقيني وليس العلم الظني، أو ترجيح
ثقة الإيمان على ثقة العلم في قبول الشهادة، حتى بات بعض
الفقهاء يصدرون أحكامهم على قاعدة (نقل لي ممن أثق به).
ولو رجعنا الى أحكام التكفير الصادرة ضد كتّاب أو مثقفين
أو شعراء لوجدناها مستندة على نقولات موجّهة.
قضية تكفير الكاتبين عبد الله بن بجاد ويوسف أبا الخيل
من قبل الشيخ عبد الرحمن البراك، وتأييد الحكم من قبل
مجموعة من العلماء، ليست نشئاً جديداً، فقد سبقت ذلك تكفير
كتّاب آخرين، ولكن الجديد في هذه القضية أن الكاتبين إجتهدا
داخل ما يراه علماء المدرسة الوهابية المجال السيادي للدين.
وربما كان حكم التكفير ضدهما مدفوعاً برغبة نبذ المنافسين
على سلطة تفسير النصوص الدينية. توصّل الكاتبان في اجتهادهما
إلى نتائج مخالفة لما درج عليه علماء المذهب، وكان ذلك
سبباً كافياً لتكفيرهما. وبالنسبة للزامل، خصوصاً، فإن
لم يتب عما فعل (وجب قتله مرتداً)، بحسب الشيخ البراك.
حاول الكاتب محمد الهرفي في مقالته (كفر وتكفير...
أين حرية التعبير؟!) في (الوطن) في 25 مارس التخفيف من
وطأة النص التكفيري، حين فتح كوّة فيه، نافياً أن يكون
البراك قد كفّر الرجلين، واعتبر ذلك من باب حرية التعبير!.
ولكن هذا التبرير مخيف، خصوصاً حين يتحوّل التكفير مجرد
وجهة نظر، فيما نعلم بالبداهة أن حرية التعبير هي عامة،
والتكفير قضية خاصة، بل ومناقضة لها.
خلاصة الأمر، أن (التكفير) بات سمة الدولة السعودية
ومؤسستها الدينية، حتى أصبح كل حديث عن التكفير كأحد أبرز
تمظهرات الفتنة، إمتيازاً وهابياً محض.
|