بيان الـ 22 سلفياً
وراء كل حوار إعلام طائفي
فريد أيهم
الحوار الوطني، حوار الأديان، حوار الحضارات.. عناوين
دمغت عهد الملك عبد الله، على أمل أن تخرج الدولة بصيغة
تعايش تمحو صورة نمطية طالما رسمها أقطاب المؤسسة الدينية
الرسمية، وزادت عليها وسائل الإعلام السعودية مؤخراً عنصراً
جديداً يجتمع فيه النزوع النجدي السلطوي الاستئصالي المكتوب
بلغة مذهبية.. محاولات بائسة تسعى من خلالها الدولة إلى
إنقاذ نفسها من أزمة عميقة أصابت عصب وجودها الجيوبوليتيكي
خصوصاً بعد حوادث الحادي عشر من سبتمبر والتي تأسس وقوعها
على رؤية عقدية ترى في العالم كفراً وترى في الذات إصلاحاً
وإن عبر إشاعة الرعب في كل بقاع الأرض.
حتى الآن، لا تبدو أن الصورة قد تغيّرت قليلاً، بالرغم
من المحاولات الشكلية التي قامت بها القيادة السعودية
من أجل توليف معادلة جديدة، تكون فيها السعودية عنصراً
تقريبياً وتوفيقياً، يعوّل عليه في لملمة الساحة العربية
والإسلامية بدلاً من أن تكون، كما هو الإنطباع السائد،
مصدر الفتن. فمهما حاولت الماكينة الإعلامية السعودية
تضييع مكان نشأة الطائفية، حتى لا يشار الى موطنها الأصلي،
أي السعودية، وحتى (يضيع دمها بين القبائل)، فإن ثمة منبّهات
ناشطة تكفّلت بمهمة توفير (الدليل الطائفي)، من خلال البيانات
المتكررة التي يعدّها فريق من رجال الدين المتشددين المقرّبين
من المؤسسة الدينية والمتحدّرين حصرياً من المدرسة الوهابية
كيما يبلغوا رسالة التكفير التي جبلوا على توزيعها بعد
أن تهافت التراث الدوغمائي للمذهب، ولم يتبق منه سوى عنصر
التحريض المذهبي كيما يبقيه حيوياً، وأيضاً مبرر حضور
شعبي محلي وخارجي.
ولذلك، ليس مستغرباً أن يكون التقارب الإسلامي إنتحاراً
سلفياً وتهديداً وجودياً قد يفضي إلى زواله بالكامل، فيما
يبقيه صراخه الغرائزي وحياكته أخطاراً وهمية في موقع رأس
الحربة في معركته المنفردة التي يخوضها ضد الآخر، فالقضية
ليست دينية كما يتصوّر البعض، وإن استعارت في التعبير
عن نفسها معجماً دينياً، فثمة وجود يراد حمايته ولا يتحقق
ذلك إلا بتصعيد النبرة المذهبية الى أقصى درجاتها.
ليس من قبيل المزامنة العفوية أو الصدفة أن يستنفر
الفريق الطائفي في السعودية فور بدء الإعلان عن حوار وطنياً
كان أم دينياً، فمراجعة تاريخ الفتاوى التكفيرية تكشف
بأنها كانت مرتبطة بعمليات تقارب أو حوار سواء داخلي أم
خارجي، فالوجود البيولوجي للوهابية سيبقى رهين قدرته على
الضجيج الدائم كيما يشعر من حوله بوجوده ويبقى على القسمة
الدائمة داخل الدائرة الإسلامية، وهي القسمة الكفيلة بوجوده،
لأن التقارب الإسلامي يعني الفناء الحتمي.
لاشك أن هناك كثيرين تساءلوا عن سر صدور بيان الـ 22
طائفياً سلفياً قبل أيام قليلة من انطلاق فعاليات مؤتمر
مكة، الذي بدأ في 4 يونيو، حيث لا حدث4 كبير يحرّض على
هذا النوع من البيانات، فما مناسبة هذا البيان وفي هذا
الوقت بالتحديد؟، أفكلما جنح المؤمنون الى وحدة الإسلام
القائمة على تنوّع المسلمين إنبرت فئة من هذه الأمة كيما
تقطع ما أراد الوحدويون وصله؟. وهل رحبت آفاق الحوار لتشمل
أديان الأرض قاطبة وضاقت على طوائف من المسلمين تتجاور
فيما بينها، بل وتشكّل جزء حميمياً من النسيج المجتمعي
الذي يقطن البلاد التي حباها الله سبحانه وتعالى بنعمة
الإسلام وجعلها مهبط لرسالة التوحيد، فصارت هذه الفئة
تهوي بمعول الهدم على صخرة وحدتها؟.
أول ما يظهر، أن هذا البيان لم يحمل تاريخاً محدداً،
وربما كتب في وقت سابق وصدر قرار نشره قبل أقل من أسبوع
على مؤتمر مكة الذي عقدته الحكومة السعودية بعنوان (الملتقى
العالمي للعلماء والمفكرين المسلمين) برعاية رابطة العالم
الإسلامي.
هناك من يلمح الى أن ثمة صراعاً داخل العائلة المالكة،
وخصوصاً بين جناحي الملك ووزير الداخلية، يتم فيه توظيف
التيار الديني في صراع داخلي، بحيث بات واضحاً كلما خطا
الملك خطوة تتعارض مع التوجهات العقدية السلفية تم تحريض
المتشددين السلفيين لإصدار بيان ما يضعف دور الملك، تماماً
كما حصل في مرات سابقة بدءً من الحوار الوطني الذي جرى
سنة 2002 حيث صدرت فتاوى تكفيرية وبيانات تعارض التوجّه
الحواري الداخلي على قاعدة أن الحوار يبطن إعترافاً بالتنوع
المذهبي والفكري داخل المملكة.
البيان هذا، شأن بيانات سابقة، يلفت إلى ضعف موقع الملك
في الساحة السلفية المتشددة، وفي الوقت نفسه يؤكد أن ثمة
فريقاً من السلفية المتطرّفة بات في عهدة جناح السديريين
ومرتهن لخياراته، بل قد يدخل في لعبة الصراع داخل العائلة
المالكة عبر البوابة المذهبية. مقربون من الملك عبد الله
يهمسون الى أوساطهم بأن جناح الأمير نايف هو من حرّض على
البيان لتخريب جهود الملك عبد الله.
وفيما يؤكد المشاركون في الملتقى العالمي للعلماء والمفكرين
المسلمين في مكة في الأول من يونيو على مفاهيم تقريبية
مثل التعايش والحوار بين المعتقدات الدينية، نجد بأن صوتاً
مدوّياً يخترق هذا المناخ ويتجاوز حدود التشويش الى مستوى
التخريب على أي مسعى حواري سواء كان ذلك بمبادرة محلية
أو خارجية.
على مستوى البيان يمكن القول بأنه من حيث الشكل والمضمون
ليس جديداً، فقد سبقته (بيانات) جمّة، أسهب فيها المنبرون
لكل ما يزيد المجتمع إنقساماً، مستعيداُ تصوّرات أيديولوجية
لتاريخ الإختلاف بين المسلمين، لا تتطابق بالضرورة مع
الواقع التاريخي للمسلمين. ولكن ثمة مناسبة تستدعي صدوره
كما أسلفنا، ولكن السؤال من هي الفئات المستهدفة بهذا
البيان؟. الجواب: بالتأكيد لن يكون من بين الفئات المستهدفة
من يروم التقريب أو يسعى إلى تنشئة أفكاره وتعميمها على
المستويين الوطني والإسلامي.
واذا كان ثمة ما يحمله البيان من دلالات فإن أبرزها
هو تأكيد الموقّعين على أن هذه الفئة ومن يعتنق مواقفها
هي المستهدفة بدرجة أساسية بالحوار الوطني وانشغالاته
الأولى، كما تثبت توصيات اللقاء الفكري الأول والتي أسقطها
البيان من الإعتبار، في الوقت الذي تتبنى القوى الوطنية
والدينية في المملكة رؤية منفتحة تؤكّد على التعايش والحوار
والإنفتاح على الآخر، واحترام حقه في الإختلاف.
نقطة أخرى جديرة بالإهتمام، أن لغة البيان جاءت كعادتها
إقصائية ووصائية وتصادر حق الآخر، وقد بات من الضروري
التأكيد على أن الموقّعين على البيان والمدرسة التي ينتمون
إليها ينزعون نحو إلغاء الغالبية العظمى من السكّان، على
اختلاف انتماءاتهم المذهبية والفكرية، والتي لا تعتنق
معتقد الأقلية المهيمنة، الممثلة في المدرسة السلفية،
حتى وإن أصرّت على تحميل من ليس على خطها العقدي مواقف
لا تراها الغالبية ملزمة لا شرعياً ولا قانونياً ولا حتى
إنسانياً.
بكلمات أخرى، إن الموقّعين على البيان ينتمون إلى مذهب
واحد ومنطقة واحدة، وهما مجتمعان ينصهران في الوهابية
النجدية، حيث لا أطراف أخرى مشاركة من خارج هذين الإطارين،
وبالتالي فإن ما يصدر عنهما لا يخرج عن المجال الحيوي
للسلطة السعودية، بما لا يحمّل من هم خارجها مسؤولية من
أي نوع، بل إن هذا النوع يحمل السمّات العقدية والسياسية
للفئة الحاكمة.
وبعد ذلك كله ينهض السؤال القديم مجدداً: هل بلغ الإفلاس
السياسي حداً فارطاً حتى لم يعد ما يؤكد الذات السلفية
سوى العودة الدائمة والمكرورة للخطاب الطائفي؟ نطرح هذا
السؤال ونحن ندرك بأن هذا الفريق لم يعد يملك مشروعاً
في الإصلاح السياسي والإجتماعي فضلاً عن إصلاح الأمة والدخول
في مشاريع كبرى كالتي يخوض غمارها خصومهم، فلجأوا إلى
لعبة التخريب كسلوة يخدعون بها ذواتهم بأنهم يسدون خدمة
للأمة، ويكشفون من مقابعهم المغلقة (أسرار المؤامرة)،
وكأنهم قد أوتوا علماً لم يؤته أحد ممن كان قبلهم ولا
من يليهم.
|