أجندات متغيّرة أم موحّدة
أمراء في حلبة الصراع على العرش
محمد شمس
أنشأ الملك عبد الله هيئة مخوّلة باختيار نائب للملك
القادم في سياق محاولة لتفادي نزاع داخلي حاد، ولكن لا
تزال الشكوك تحوم حول كفاءة الهيئة في تجنيب العائلة المالكة
العملية الجراحية التي قد تنجم عن صراع دموي، خصوصاً وأن
سلطة الهيئة وصلاحيتها منوطتان بوجود الملك عبد الله على
قيد الحياة، وأن الملك القادم قادر بحكم التقليد الملكي
والصلاحيات الممنوحة له من النظام الأساسي للمملكة (صدر
في مارس 1992)، على إلغاء أو تعطيل عمل (هيئة البيعة)
واختيار خليفة له، حيث أن تأسيس الهيئة لم يعقبه تعديل
في مواد النظام الأساسي، بل جاء من خارجه، الأمر الذي
يضعه في إطار الصيغ الإستثنائية المؤقتة التي لا تحوز
على قوة قانونية أو أولوية على غيرها من القوانين. لا
ننسى بأن الملك القادم (سلطان بن عبد العزيز بحسب التسلسل
الوراثي حالياً)، يتمتع بمهارات فريدة في المناورة السياسية
وتجميع خيوط لعبة الحكم، الأمر الذي تبدو بعض مؤشراته
واضحة في صمته المريب عن موضوع النائب الثاني، وكأنه يبيّت
ما يثير هواجس الأمراء الآخرين من خارج الجناح السديري.
بل إن الملك القادم لن يأل جهداً في إقحام موضوع الخلافة
ضمن عملية المساومة، واستحلاب تنازلات سخيّة قبل نقل السلطة
الى خليفته.
يعود الحديث مجدداً عن أمراض الشيخوخة التي بدأت تظهر
على الملك عبد الله، ونقلت مصادر مقرّبة من العائلة المالكة
بأن الأخير بدا منهكاً وهو يستقبل بان كي مون في زيارته
الأخيرة للمملكة، الأمر الذي يحرّض المراقبين على إثارة
السؤال القديم المتجدد حول الوراثة.
حين دعى الملك عبد الله القادة الأجانب الى مكتبه في
قصره بجده، كان يجلس بجوار لوحة يظهر فيها مواطن وهو يقدّم
عريضة الى الملك عبد العزيز، الذي أسبغ إسمه على الدولة
السعودية الحديثة.
في نظرة حانية من الأب إلى الإبن، فإن لمحاته تأتي
لتستقر على الحاكم البالغ من العمر 84 عاماً الجالس أمامهم
في غرفة مرمرية وفي عبائته الكستنائية. يمكن غفران ذنبهم
في التفكير في الملك القادم، لأن المشهد الضبابي والمشكوك
في المرحلة القادمة يبدو هو السائد إزاء ترنّح القادة
المعمّرين في البيت السعودي الماسكين بخناق بعض، والذين
يطوفون حول ذواتهم كحيوانات محبوسة في أقفاص بانتظار من
يموت أولاً، بحسب آن بينكيث في صحيفة (الاندبندنت) في
السابعة عشر من يونيو الماضي.
من ناحية التسلسل الوراثي، يفترض أن يرث الملك عبد
الله أخوه ومنافسه القديم ولي العهد الأمير سلطان، وهو
الآخر في عقده التاسع. على أية حال، فمنذ عودته من رحلة
العلاج في جنيف في بداية شهر مايو الماضي، فإن ثمة شائعات
تزايدت عن موته الوشيك بالسرطان. وإن إحتمالية موته قبل
الملك عبد الله أثارت مخاوف بأن النزاع المرير بين الجناحين
المتنافسين داخل العائلة المالكة قد يندلع في شكل صراع
على السلطة، بما يجلب الى الواجهة عشرات من المتنافسين
للمطالبة بحصة في العرش، فهناك نحو 60 أخ وأخت للملك الحالي.
يحظى الملك عبد الله، الذي أصبح ملكاً في نهاية أغسطس
2005، بدعم من البعض بكونه ملكاً إصلاحياً بحسب تقييم
سابق لدى قطاع كبير نسبياً من السكّان والنخب السياسية
والفكرية في البلاد. ويشار الى إجراءات تم إتخاذها لتأمين
خلافة سلسة واستقرار للمملكة التي تعدّ المنتج الأكبر
للنفط في العالم، إلى جانب كونها الحاضنة لأقدس بقعة لدى
المسلمين في العالم ممثلة في مكة المكرمة، وبالتالي فإن
للمعضلة السياسية التي قد تواجه البلاد مفعولاً عالمياً.
بعد خلافته للملك فهد الذي توفي بعد مرض طويل منذ إصابته
بجلطة دماغية سنة 1996 أقعدت به عن ممارسة شؤون الحكم،
وتحوّل الى ملك صوري مهّد السبيل أمام الأقطاب الفاعلة
في الجناح السدري من أجل ترسيخ وجودها في مؤسسة الحكم،
أصدر الملك عبد الله أمراً ملكياً يقضي بتشكيل (هيئة البيعة)
أبناء وأحفاد مؤسس الدولة، عبد العزيز آل سعود لتقرير
مستقبل الخلافة بعد أن يصبح سلطان ملكاً.
الهواجس الطازجة بشان الوضع الصحي للأمير سلطان، الذي
خضع سابقاً لعملية جراحية معوية، قد تترك تأثيراتها المباشرة
على الخطط المقررة بحذر من قبل الملك.
بالنسبة لشخص تقف على بابه شائعات بالموت الوشيك، بدا
ولي العهد بصحة متردية في لقائه بالأمين العام بان كي
مون. المشاركون في المحادثات في قصر الخالدية بجدة قالوا
بأنه يبدو في وضع صحي جيد، وأن صوته كان مدويّاً. وحسب
أحد المشاركين (كان صوته أعلى من أي شخص آخر).
الملك عبد الله نفسه يبدو أيضاً متماسكاً بالنسبة لرجل
في عمره، بذقنه الذي يبقى داكناً بصورة دائمة. ترك الملك
إنطباعاً لدى وفد هيئة الأمم المتحدة بمناصرته العاطفية
وخصوصاً لمشروع رهانه على الحوار بين الأديان: الإسلام،
المسيحية، اليهودية، خلال أحاديث دامت أكثر من ساعة.
السعودية، ذات التقليد القائم على تعدد الزوجات، ليست
ملكية عادية حيث الخلافة تنتقل الى الإبن الأكبر. فالعائلة
المالكة تضم ما يقرب من سبعة آلاف أمير. ولكنها منقسمة
بين الجناح السديري والجناح الأكثر ليبرالية من آل فيصل.
ويعتبر الملك عبد الله واحداً من 25 أخاً غير شقيق
للملك السابق فهد. ومنذ إصداره أمراً ملكياً بخصوص الوراثة
في العام 2006، للحيلولة دون اندلاع نزاع داخلي في البيت
السعودي، لم يكن هناك إجراءً رسمي سابق يحدد الطريقة التي
يتم من خلالها تعيين نائبٍ ثانٍ للملك، ما يشبه ترحيلاً
لمشكلة قد تبدو عويصة في المستقبل، فيما يصف بعض المراقبين
المشهد القادم بأنه شديد الغموض كونه يضع الأجنحة في مواجهة
بعضها.
وإذا ما مضت الأمور كما هو مخطط لها، فإن موت عبد الله
سيعيد العرش الى الجناج السديري وإلى العصبة السديرية
التي كانت مؤلفة من سبع أقطاب كبار، قبل أن تقع تبدّلات
عددية ونوعية في المعادلة بعد موت الملك فهد وتنامي قوة
كل من الأمراء سلطان، ولي العهد ووزير الدفاع، ونايف،
وزير الداخلية، وسلمان حاكم الرياض.
أما بالنسبة لآل فيصل، فإن العضو الوحيد من هذا الجناح
بموقع متميز في الحكومة اليوم هو الأمير سعود الفيصل،
وزير الخارجية، وهو في السبعينيات من عمره. وقد رافقته
شائعات المرض منذ سنوات طويلة. وكان ألغى فجأة موعد غداء
مع بان كي مون بالرغم من أنه كان حاضراً في استقباله بالمطار،
بل وقاد بنفسه السيارة التي أقلّت الأمين العام للأمم
المتحدة لمقابلة الملك عبد الله، حيث اضطلع بدور بارز.
تحدث الملك عبد الله باللغة العربية، بالرغم من أنه كان
يقاطع المترجم بين الحين والآخر لتصحيح لغته الإنجليزية.
في لقاء آخر، بدا الأمير سعود الفيصل يعاني من بعض
الألم، بالرغم من محاولته إخفاء أوجاعه عن طريق توزيع
الإبتسامات والنكت على ضيوفه الأجانب.
يتفق المحللون على أنه في حال توفي ولي العهد قبل الملك،
فإن التخمين يبدو صعباً بخصوص من سيخلفه، بالرغم من أن
الأمير نايف ينظر إليه كأحد المتقدمين في السباق نحو العرش.
ويسري إعتقاد بأن سيتم دعوة هيئة البيعة للإنعقاد. في
نهاية عهد الملك فهد، كانت هناك توقّعات بأن السعوديين
بحاجة الى تجاوز الجيل القديم من أجل تجديد موقع القيادة،
ولكنها واصلوا التمسك بالطراز القديم عبر نقل الشعلة الى
أحد الإخوة. وقد يتطلب وقوع ذلك عقد آخر قبل أن يحصل الأحفاد
على فرصتهم في التناوب على العرش.
ومن بين هؤلاء أبناء الأمير نايف والأمير سلمان. وهناك
إسم آخر يرد ذكره في هذا السياق ويتمثل في الأمير الوليد
بن طلال، المموّل السعودي الثري وهو أيضاً حفيد للمؤسس،
ولكن تبدو صورته مجروحة الى حد ما كونه من أم غير سعودية،
وأن جدته من أبيه ليست من عرق متميز في التراتبية القبلية
المعتمدة في العائلة المالكة. ومصدر القوة الوحيد الذي
يتمتع بها الأمير الوليد بن طلال، رغم كونه ليبرالياً
متقدّماً، أنه يستطيع بالمال الذي بحوزته شراء الولاء
السياسي، خصوصاً في بلد يعتمد نظام الرعاية حتى داخل دائرة
الحكم، حيث يحصل عدد من الأمراء على هبات ثابتة من الوليد
بن طلال.
موت الملك عبد الله، حين يحن وقته، سيكون نقطة تحوّل
فاصلة في السعودية. وبالرغم من أن العائلة المالكة تعتبر
وبصورة واسعة في نظر السعوديين بأنها فاسدة أخلاقياً،
وأنها تتعرض لانتقادات من قبل الخارج بسبب مناصرتها المطلقة
للمذهب الوهابي الراديكالي، فإن الملك عبد الله يحظى بميزة
خاصة تتمثل بكونه أول من شق درباً في الإصلاح، بالرغم
من لا نتائج عملية على الأرض، ولكنه يبقى أول من قدح شرارة
نقاشات داخلية حول الإصلاح وقابلة لأن تشيع أجواء عامة
بالحاجة إلى ترجمة الأقوال إلى أفعال.
نجح الملك عبد الله في سحق تمرّد القاعدة وشجع التعليم
كطريق لمواجهة العنف على قاعدة دينية. وعاد الإزدهار الى
المملكة، حيث يبلغ أكثر من 50 بالمئة من السكّان أقل من
15 سنة، بفضل إرتفاع أسعار البترول والتي عزّزت نظام الرعاية
وبعثت مبادرات التغيير. ولكن تبقى الأحزاب السياسية محظورة.
سعى إلى إرساء أسس التقارب مع شركاء العقيدة المسلمين
من المذاهب الأخرى، في مسعى لإنهاء عزلة السعودية، التي
تدهورت بعد هجمات الحادي عشر من سبتمبر 2001، حيث كان
15 من أصل 19 مهاجماً إنتحارياً من جنسيات سعودية.
وكانت البلاد في حالة توتر مع إدارة الرئيس جورج بوش،
حليفها الوفي، الذي إتهمها بكونها ناعمة في مواجهة الإرهاب
وذلك بعد تفجيرات أبراج الخبر في يونيو 1996. ولكن العلاقات
مع بريطانيا والولايات المتحدة تبقى متوترة بعد وقوع شركة
بي أيه إي لبيع الأسلحة الدفاعية في قضية فساد وتداعياتها
المتواصلة.
وكانت السعودية فاعلة في ملفات المنطقة وخصوصاً لبنان
والعراق وفلسطين. وقد استقبل الملك والأمير سلطان الشهر
الماضي الزعيم الدرزي وليد جنبلاط، لمناقشة تطوّرات الوضع
في لبنان بعد خسارة السعودية لدورها الفاعل في المعادلة
اللبنانية، وخصوصاً بعد إتفاق الدوحة الذي نجحت المعارضة
في الحصول على الثلث الضامن في حكومة الوحدة الوطنية.
كما لعبت السعودية دوراً محورياً في الحصول على قرار
وقف إطلاق النار من قبل الأمم المتحدة في الصومال. وكان
يأمل الملك عبد الله في استضافة القادة الصوماليين لتوقيع
الإتفاق في يونيو الماضي، والذي سيكون مفتاحاً لإقناع
دول إسلامية عدة للمشاركة في (قوة تثبيت الإستقرار) لتدعيم
الإتفاق الصومالي.
بالإضافة الى الدفع باتجاه إنشاء دولة فلسطينية بحسب
الجدول الزمني الذي وضعه الرئيس بوش، فإن السعوديين تقرّبوا
الى هيئة الأمم المتحدة بتقديم نصف مليار دولار الى برنامج
الغذاء العالمي لمساعدة الوكالة الدولية للوفاء بالتزاماتها
تجاه فقراء العالم في وقت تتصاعد فيه أسعار المواد الغذائية.
المعاملة التي حظي بها بان كي مون خلال زيارته للسعودية
كانت ملكية بامتياز، بدءً من الطائرة الملكية من طراز
بوينغ 777، حيث كانت كعكة عيد ميلاده بانتظاره، الى السجادة
الحمراء للترحيب به. يقول بان كي مون في تعليقه على دور
السعودية (إنهم يريدون المساعدة، ولا يريدون أن يكونوا
في موضع اللائمة)، قال ذلك في طريقه الى لندن وقد تبلّغ
بأن السعوديين سيزيدون إنتاج النفط على أمل تخفيض السعر
التي تركت تأثيراتها على أسعار الغذاء العالمي. ويعلّق
أحد الدبلوماسيين الأجانب (كانوا في حالة صدمة بعد الحادي
عشر من سبتمبر، وهم الآن في حالة هجوم ساحر، إنه لأمر
من الوضوح رؤيته الآن).
وسواء كان الهجوم سيستغرق عهد الملك عبد الله يبقى
أمراً مفتوحاً على المستقبل من أجل مشاهدة وتيرته. ومن
المتوقّع أن يكبح ولي العهد سلطان الإصلاح، وكذلك الأمير
نايف المحافظ الذي رفض في بداية الأمر الإقرار بتورّط
سعوديين في تفجيرات الحادي عشر من سبتمبر.
ولكن كمحافظين بإمكانهم أن يكيّفوا أنفسهم مع المزاج
العام في البلاد، وخصوصاً في المناطق القروية. وتشرح الباحثة
الحجازية مي يماني في كتابها (هويّات متغيّرة) بأن العودة
الى الطرق الإسلامية، مع أنها أكثر مرونة في تفسير الإسلام،
هي الحل الأكثر قبولاً لدى معظم السعوديين.
ولكن السؤال الكبير هو: هل تبقى العائلة المالكة؟ المحللون
الغربيون يعتقدون ذلك. فقد عزّزت العائلة المالكة حكمها
عبر القبيلة والمنطقة والمذهب. فهم في الوقت الراهن أمّنوا
وضعهم، ونجحوا في احتواء السخط، وأن الجهاديين غالوا في
قوتهم الى حد الفناء، حسب جيرد نونمان، من نخبة التفكير
في تشيتام هاوس بلندن، والذي أشار الى أن مصدر التهديد
الأساسي للنظام يأتي ليس من الجانب الليبرالي ولكن من
الإسلاميين. ولكن التغيير في السعودية يتحرك بصورة كسولة.
|