دولة (طـقـم)
ثمة خصائص متضامنة للدولة السعودية تجعل إمكانية الفصل
فيما بينها مستحيلاً، إذ أن كل خاصية تعضد أخرى، وهي أشبه
ما يكون بمثلث متواز الأضلاع، يضطلع كل واحد منه بوظيفة
متكافئة. وقد اخترنا اختصاراً لهذه الخصائص كلمة (طقم)،
أي أنها دولة: طائفية، قبلية، مناطقية، حيث تدار الدولة
على قاعدة مذهبية وهابية، وقبلية سعودية، ومناطقية نجدية.
وتحقق هذه المكوّنات مهمة مشتركة، إذ لا يمكن تخيّل أن
تستعير الدولة القائمة من خارج هذا المثلث مكوّناً جديداً
يسلب منهاا هويتها التي ولدت معها منذ النشأة.
ومن غريب أمر هذه الخصائص أنها تبطن وتطلق في الوقت
نفسه عوامل مضادة أمام أي تقارب أو تعايش دع عنك اندماج
مع المكوّنات الأخرى، فثمة ثقافة عميقة تؤسس لكل خاصية
تحول دون المساكنة مع نظيراتها من خارج هذا المثلث المتعاضد.
من جهة ثانية، تملك هذه الخصائص خاصية العمل المشترك ضمن
حدود هذا الثالوث فحسب، بحيث تتأهب أفرادياً أو جماعياً
بصورة دائمة لدرء أخطار التقارب، فلو ضعفت خاصية عن مقاومة
مناخ التقارب مع الآخر، الداخلي بدرجة أساسية، يضطلع المكوّنان
الآخران بمهمة (تفشيل) مفعولات المناخ التقاربي. على سبيل
المثال، لو أن الخاصية المناطقية خضعت تحت تحدي التغيرات
الديموغرافية، بحيث أصبح العنصر النجدي مهدّداً أمام النزوح
السكاني، ينبري العلماء، بوصفهم ممثّلين عن المذهب الوهابي
الرسمي، والأمراء بوصفهم ممثلين عن القبيلة الحاكمة، لتحصين
المثلث عبر تعميم ثقافة طائفية نبذية ضد القادمين الجدد،
فيما تتولى القبيلة الحاكمة سنّ تشريعات تمييزية تحول
دون تمكين القادمين الجدد من الحصول على إمتيازات متكافئة
كتلك التي يحصل عليها الرعية الوهابية النجدّية. والحال
نفسه ينطبق على أمثلة أخرى، فلا غرابة أن ينشط علماء المذهب،
والمتشدّدون منهم بدرجة أساسية وهم الأقرب الى قلب وروح
وسياسة الأمراء، فور الإعلان عن مبادرة حوارية داخلية
أو خارجية، فذلك تعاضد مصيري جبل عليه الثالوث لتحصين
نفسه قبالة ما يصفه بالمتسلّلين.
قوة الثالوث تكمن في أن أضلاعه تشترك مجتمعة في تشكيل
الذاكرة التاريخية والسياسية والثقافية للمنضوين بداخله،
إلى درجة أن كل ضلع يحمل السمات الوراثية للضلعين الآخرين،
كما يمتلك صفة تمثيلية عنهما أيضاً، فلا يمكّن، على سبيل
المثال، تصوّر الخاصيّة النجدية بدون الخاصيتن الوهابية
والسعودية، وكذا الحال بالنسبة للمكوّنين المذهبي والقبلي.
وهنا يرد مثال بالغ الوضوح: أن المواقف المذهبية ذات الطبيعة
الحكمية لا تستند بالضرورة إلى أسس دينية محض، بل تحرّكها
أحياناً عوامل أخرى دنيوية، وتحديداً قبلية ومناطقية.
ولعل هناك من يستدعي أمثلة لافتة من قبيل الإشادة المفرطة
بنجد، ولي عنق الأحاديث المنسوبة إلى المصطفى صلى الله
عليه وسلم في ذم نجد، بوصفها قرن الشيطان وأن منها تخرج
الفتنة وإليها تعود، حيث يحمّل العالم الوهابي النجدي
تلك الأحاديث على غير مرادها، بما يحيل نجد المنطقة إلى
نجد الوصف، ليسقط الوصف على العراق. مثال آخر يبرزه الإكتراث
المبالغ بالعنصر القبلي، حيث تخضع النخبة الدينية السلفية
إلى عملية تفاضل على أساس قبلي، فيفقد من ليس نجدياً ولا
قبيلياً، وإن بلغ من العلم مرتبة عليا، جزءً من صدقيته
ومكانته. لا ننسى هنا الإنفراد الوهابي بين بقية المسلمين
بموضوع (عدم تكافؤ النسب)، غير المؤسس على اعتبارات دينية
راسخة.
السؤال ماذا يعني ذلك كله؟
من دلالات هذا التعاضد الثلاثي، أنه لا يؤسس بحال لدولة
وطنية ما لم يتم تقويض الثقافة المؤسسة لكل خاصية منها،
بمعنى فتح (القفل) المفروض على المذهب والقبيلة والمنطقة،
بكونها خصائص الدولة السعودية، بما يمهّد السبيل لإندماج
واسع لمجمل الخصائص الأخرى وصولاً إلى تشكيل دولة وطنية
حقيقية.
دلالة أخرى لافتة أيضاً، أن ممثلي هذه المكوّنات يشعرون
بالتحرر التام من أية مسؤولية إزاء نظرائهم في الأرض التي
يعيشون عليها، ولا يجدون ضيراً في تحميلهم ما يقع عليهم
من حيف وعسف بفعل سياسات تمييزية ينتجها التضامن الثلاثي،
على قاعدة التجاوز، وطلب ما لايحقّ لهم، فالحقوق والواجبات
هي ما يقرّره الممثلون لهذه المكوّنات، وليس دستور الدولة
الوطنية.
لا غرابة، والحال هذه، في أن يعبّر الوهابي والنجدي
والسعودي لفظاً أو سلوكاً عن نفوره من مفاهيم الدولة الوطنية
ومتطلباتها القانونية والحقوقية، يعكسه الإزدراء من مصطلحات
مثل الوطن، وتفسيراته الخاصة والضيقة لحقوق الإنسان، والحريات
العامة بما في ذلك حرية الإعتقاد.
وبالعودة إلى كلمة (طقم) التي تختصر وصف الدولة ومكوّناتها،
ثمة عصبية جامعة تربط بين الوهابية ونجد وآل سعود، بما
يحول دون انفراطها بسهولة، فهناك لغة مشتركة لا يدركها
غير المنضوين داخل الرابطة التضامنية بين هذه المكوّنات.
فقد ضغط الأمير عبد العزيز بن فهد على العصب النجدي عند
الإصلاحيين الدكتور متروك الفالح والدكتور عبد الله الحامد،
على أساس أن الإصلاح سيمنح الحجازي والشيعي والإسماعيلي
موقعاً في الدولة على حساب النجدي، وضغط الأمير محمد نايف
على العصب الطائفي عند المشايخ السلفيين المطالبين بالتغيير
في عقد التسعينيات (الشيخ العودة، والشيخ الحوالي، والشيخ
العمر، والشيخ إبن جبرين)، على أساس أن معارضتهم للدولة
سيضعفها بما يجلب الفرحة لـ(الصوفية) و(الرافضة).
يدرك الوهابي والنجدي والسعودي بأن مصيراً مشتركاً
يشدّهم لبعض، وأن انكسار أحدهم يعني انكسار الركنين الآخرين
بصورة متزامنة، فلا وهابية بدون آل سعود والعكس صحيح حتى
الأن، وكلاهماً لا يعيشان إلا على تربة نجديّة.
|