بين القدس ومكةّ
ثقافة الجرّفات بين تل أبيب والرياض
محمد قستي
صورة بالغة تحكي قصة زوال تاريخ وحلول آخر لا ينتمي
إلى التربة التي حضنت صفوة الخلق، وفيما يزحف الحجر المستورد
كيما يشكّل المشهد الجديد في المدينة المقدّسة، تعمل آلة
الدمار بكل شراسة على هدم بقية آثار لنا تركتها أجيال
يتقدّمهم جيل الصحابة الأوائل، وأهل البيت النبوي، وتتلوهم
أجيال من القادة والزعماء والعلماء والوجهاء الذين وضعوا
بصمات لافتة في سجّلنا التراثي وذاكرتنا التاريخية المفعمة
بكل أشكال العز والفخر. كل شيء بات تحت طائل الإندثار
في الديار المقدّسة، حيث تتسلل أذرعة الحقد لطمس كل ما
له صلة بتربتنا، وصخرنا، ومناخنا، ومياهنا، وسنحتنا، وذاكرتنا،
وشمسنا وشجرنا، بمعنى آخر طمس ما هو في تاريخنا التليد
من آثار الرجال العظام، وعبقات الدين المجيد.
صورتان تفاجئان الزائر للمدينتين المقدّستين: الأولى
تتمثل في ارتفاع المبانى وناطحات السحاب التي تكفّلت بناءها
شركات أجنبية بوجوه محلية وعربية، مبانٍ تتربص بالبيت
العتيق، وتحيط به من كل جانب، والأخرى تتمثل في صورة الجرّافات
التي تذّكرنا بجرافات العدو الإسرائيلي وهي تهدم بيوت
السكان الأصلييين، وتزيل الآثار الدينية المحيطة بالمسجد
الأقصى وقبة الصخرة.
منذ أكثر من عقدين، تعمل في قبلتي المسلمين الأولى
والثانية آلتان بلا توقّف، فالجرافات التي تهدم آثار الإسلام
في مكة المكرمة بمثابة رجع صدى لصرير الجرافات الإسرائيلية
وهي تمدّ ذراعها التدميرية لتخترق المساكن من سقوفها وتهدّها
على رؤوس أصحابها أو تضعهم في قائمة المشرّدين..
في مكة المكرمة، الجرافات تمارس وظيفة مماثلة حيث يرغم
فرقاء الشر الأهالي على إخلاء مساكنهم عنوة مع ترضية زهيدة،
أو مصادرة أملاك السكّان، أما ما يخص آثار المسلمين من
بيوت النبي صلى الله عليه وسلم، وبيوت زوجاته، وأهل بيته
وصحابته، فإن الجرافات العمياء تغرز مزنجرة في جذور وعينا
التارخي، فلا يبقى منه إلا ذكريات في صدور الرجال وعقولهم
ممن حوّلوا أنفسهم إلى صندوق أسرار متنقل، وحرّاس على
ذاكرة الأمة، يخافون أن يتخطّفهم الموت من بيننا، فتضيع
آثار ليس هناك دليل على أماكنها سوى هؤلاء الرجال الأوفياء
الذين يفترسهم الألم وهم يشهدون عملية محو منظّمة لتراث
أمة بأسرها.
إن ثمة شبهاً واضحاً بين الجرافات الإسرائيلية ونظيرتها
السعودية، فالوظيفة واحدة، والغاية أيضاً واحدة، فالهدم
دالة على تلك الجرافات المجنونة التي تقتلع كل ماهو راسخ
في تربة الآباء والأجداد، وبقع مشى عليها الأنبياء والصالحون،
تختفي فجأة فتحيل الوجود التراثي الممتد في عمق الأرض
إلى مجرد غبار يتطاير وأحجار تتبعثر لا تلبث أن تتكوّم
في شاحنات أعدّت لنقلها بعيداً تمهيداً لغيابها النهائي
عن الأنظار.
عين حاقدة على المرقد النبوي الشريف
ما فتيء المتشدّدون الوهابيون يعقدون النوايا ويحيكون
الخطط القديمة المتجددة لهدم القبة النبوية الشريفة، وإزالة
المرقد النبوي من داخل المسجد، إنه مخطط شغل ذهن الوهابيين
منذ أن أعملوا آلات الهدم في الآثار الإسلامية بعد اجتياح
المدينتين المقدّستين عام 1804م. حتى اليوم، فإن ثمة نيّة
مبيتة لهدم قبر الرسول صلى الله عليه وسلم، مخطط يبدأ
بهدم القبّة النبوية الشريفة وإخراج قبر المصطفى صلى الله
عليه وسلم من المسجد وتحطيم ضريحه ومنع الناس من زيارة
قبره الشريف. نيّة أعلن عنها الوهابيون صراحة ووقف عليها
كثير من المطّلعين على وقائع الغزو الوهابي للحجاز. فقد
ذكر الجبرتي في تاريخه أنهم حاولوا أن يهدموا قبة النبي
صلى الله عليه وسلم غير أن الضغوطات التي لقوها من قبل
المسلمين حالت دون تنفيذ آل سعود هذا الإجراء الغاشم.
وكتب دوايت دونادلسون في سنة 1933:(..كان علماء الدين
الوهابيون تواقين الى تهديم القبة ـ التي على مسجد الرسول
ـ وإعادة بناء الحرم الشريف من دون إدخال القبر فيه، لكن
إبن سعود إستعمل دهاءه السياسي للحيلولة دون ذلك، لئلا
يثير عليه عداء العالم الإسلامي كله، وبذلك سلم قبر الرسول
من العبث، ولكن حماسة الوهابيين الدينية سمح لها بأن تمارس
ما تريده من العنف في تخريب الأضرحة والقبور الموجودة
في البقيع).
ونقل أحد علماء الحجاز عن خطيبٍ وهابي في الحرم النبوي
الشريف في نهاية السبعينات وهو يتحدث بحرقة وحسرة ويقول
(كان علينا أن نمنع الناس عن هذا المكان ولكن ماذا نصنع
وقد غلب على أمرنا).
ثم تعبر الوهابية صراحة عن موقفها عبر أحد الاقلام
الحاقدة، فقد قامت إدارة البحوث العلمية والإفتاء والدعوة
والإرشاد، برئاسة المفتي السابق الشيخ عبد العزيز إبن
باز، بإصدار إذن تحت رقم 4411/5 بتاريخ 11/7/1400هـ لطباعة
كتاب (تبديد الظلام وتنبيه النيام) لكاتب وهابي مقرّب
من العائلة المالكة يدعى إبراهيم سليمان الجبهان والذي
كشف فيه عن نوايا مبيّتة لدى الوهابيين مؤكداً على المخطط
الوهابي ـ السعودي الرامي الى طمس معالم قبر المصطفى صلى
الله عليه وسلم، يقول هذا الكاتب: (نحن لاننكر أن بقاء
البنية على قبر الرسول صلى الله عليه وسلم مخالف لما أمر
به الرسول) !!، ويضيف قائلاً (وإن إدخال قبره في المسجد
ـ أي المسجد النبوي ـ أشد إثماً واعظم مخالفة)، وينتهي
للقول بأن (سكوت المسلمين على بقاء هذه البنية لايصيرها
أمراً مشروعاً)، (المصدر الطبعة الثالثة ص 389).
إذاً، هكذا يعبّر الوهابيون عن تقديرهم لرسول الله
صلى الله عليه وسلم، ولاندري ماذا يضمر الوهابيون لقبر
اسماعيل عليه السلام وإمه هاجر وهو في قلب المسجد الحرام
وفي جوار الكعبة فهل المخطط الوهابي سيطال الكعبة ايضاً؟!!
أهكذا يكرّم أفضل الإنبياء والمرسلين محمد صلى الله عليه
وسلم وهو ملاذ المسلمين ومنار العالمين ومنبع هداية المصلين
ومنهل للمتعطشين وكهف الحائرين، وفي محضره الشريف يزدحم
التائبون وتتقاطر على مرقده الشريف جموع المسلمين من أرجاء
المعمورة كافة.
من المثير للغرابة والدهشة، أن آل سعود جهدوا في حفظ
بعض الآثار غير الإسلامية، ومنها حصن كعب بن الأشرف رأس
اليهود الذي اغتاله أحد الصحابة والتي كانت تدار في هذا
الحصن المكائد والمخططات ضد رسول الله صلى الله عليه وسلم
وضد الاسلام... قام آل سعود بحماية وحفظ هذا الحصن ونصبوا
جنب هذا الحصن قطعة كتب عليها: ( تحذير. منطقة آثار: يحظر
التعدي عليها تحت طائلة العقوبات الواردة بنظام الآثار
بالمرسوم الملكي رقم و/26 وتاريخ 12/6/1392هـ).
وفي الوقت الذي يطلق آل سعود أيدي أنصارهم من الوهابيين
لتهديم جميع الآثار الاسلامية في طول الجزيرة العربية
وعرضها يقوم برصد مبالغ طائلة لحفظ آثار أسرة آل سعود،
فقد انشأوا لهذا الغرض مؤسسة ضخمة تحت إسم (دارة الملك
عبدالعزيز)، لحفظ آثاره الشخصية كسيوفه وخواتمه وساعته
وأسلحته التي استخدمها وسيارته الخاصة وسرير نومه وحتى
ألبسته، وقد أنشئت هذه المؤسسة بقرار ملكي صادر في 5/8/1392هـ..وجاء
في المادة الثالثة لنظام إنشائها ما يلي: ( تقوم الدائرة
تحقيقاً لأغراضها بالأمور التالية:
(وإنشاء قاعة تذكارية تضم كل ما يصوّر حياة الملك عبدالعزيز
وآثار الدولة السعودية منذ نشأتها). وقد رصد لهذه المؤسسة
ميزانية ضخمة ويوجد مقر كبير لها ومجلة بإسمها (مجلة الدارة)،
كما يقام مهرجان سنوي باسمه لمدة إسبوع تحت اشراف المؤسسة،
كما أنفقت الحكومة السعودية مبلغ 12 مليون ريال سعودي
لصيانة قلعة واحدة في الدرعية كان لها دور في قيام الدولة
السعودية.
أما آثار الإسلام في المدينتين المقدّستين فلم يبق
منها الآن حسب المعماريين الحجازيين سوى 5 بالمئة، فقد
أزالت الجرافات الوهابية السعودية الآثار الإسلامية، وأصبحت
هناك مهمة أخرى قديمة تتجدد بمرور الأيام، وهي هدم القبة
النبوية وإزالة القبر الشريف من المسجد النبوي.
وآخر ما صدر عن المتزمتين في هذا الشأن، قد بسطه الكاتب
عبد الله الشريف في مقالة له بعنوان (المسجد النبوي ووهم
الوضع الخطأ!) والذي نشرته صحيفة (المدينة) في 25 أغسطس
الماضي. يعقد الشريف في مقالته مناظرة مع أولئك الذين
مازالوا مسكونين بوهم عقدي. ويقول:
حينما توجَّه الأسئلة لمن يُظَن أنه أهل للفتوى، وهي
تحمل في طياتها إما الإجابة المباشرة على السؤال، وغاية
الطرح أخذ الموافقة عليه ممن يظن السائل أن إجابته أدعى
للقبول، أو تشتمل على موقف هو في حد ذاته فتوى، يوحي به
السائل لما يريد من المفتي له أن يجيبه به، فيتهم تيارًا
أو جماعة بما ينفر عنها وعنه مما يدخل في نطاق المخالفات
الشرعية، ليسمع ممن وُجِّه له السؤال قدحًا فيها وفيه،
فالواجب على من وُجِّه إليه السؤال ألا يبادر بإجابة تحقيق
رغبة السائل، وإنما عليه أن يرشده إلى أدب المستفتي الذي
يسأل عنه ما يجهل أو ما يستشكل من مسائل العلم، ولا يجد
عنده وضوحًا لها، فمثل من يطرح أسئلة كهذه لم يستفتِ في
أمر يجهل الحكم فيه، ولديه إجابة جاهزة له.
فهذا اللون من الأسئلة في ما أظن إنما تفرزه ثقافة
يراد لها أن تسود، عندها لكل سؤال جواب حاضر، مهما كانت
القضية المعروضة شائكة ومعقدة، ومن هذا اللون سؤال استمعت
إليه وأصغيت إلى إجابته في رحاب المسجد النبوي الشريف،
حيث توجهت إلى مكان من المسجد قصي في التوسعة الأخيرة
قريبًا من باب مكة لأداء صلاة العشاء، فتناهى إلى سمعي
عبر مكبرات الصوت صوت شيخ يلقي درسًا، فلما انتهى من درسه
قرب أذان العشاء بدأ في الإجابة على أسئلة رواد حلقته
مستمرًا فيها حتى بعد رُفع أذان العشاء، وقد تكرر ذلك
أيامًا متعددة، بحيث يشوش على المصلين والذاكرين إنتظارًا
لصلاة العشاء، خاصة أنه يأتيهم عبر مكبرات الصوت، فهم
مرغمون على الإستماع إلى ما يلقي الشيخ على تلاميذه، والذين
لا يزيد عددهم على عدد أصابع اليدين إلا قليلاً.
المهم أني استمعت معهم مرغمًا إلى العديد من الأسئلة
التي لها ذات الصيغة التي تحدثت عنها آنفًا، والإجابات
المؤيدة لها، وكان أعظمها جرأة ما طرحه أحدهم كسؤال على
الشيخ مستفتيًا عن ما نعته بالخطأ الجسيم الذي وقع قبل
نهاية القرن الأول الهجري بإدخال قبر الرسول الكريم سيدنا
محمد بن عبدالله إلى المسجد.
وتساءل: ألم يحن الوقت لتصحيح هذا الخطأ؟ وهو سؤال
كما ترى اشتمل على جواب اقتنع به السائل وهو أن إدخال
القبر إلى المسجد خطأ، وأن الخطأ يجب أن يزال، وإنما وجَّه
السؤال ليحظى بما يؤيد موقفه المسبق من المسألة، ولكن
من وُجِّه إليه السؤال لم يعترض على صوغه بهذه الصورة،
وإنما وافق فوراً على مضمونه معتبراً أن إدخال حجرات أزواج
النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ خطأ، وأن وجود القبر
الذي هو في إحداها وهي حجرة أم المؤمنين عائشة رضي الله
عنها، بدعة إجترحها الأولون، وزعم أن من توافر آنذاك في
المدينة من فقهاء التابعين إنما سكتوا دفعًا للفتنة، وذكر
معلومة لم أسمع بها من قبل أن بعضهم قد قُتل لاعتراضه
على ذلك، بل وطالب ولاة أمر هذه البلاد بأن يصححوا وضعاً
اعتبره خطأً فيخرجوا القبر من المسجد، ودعا لهم أن يوفقوا
إلى ذلك، وهكذا أسئلة والإجابة عليها بهذه الصورة أمر
غريب يُسمح بطرحه في أحد الحرمين الشريفين؟ وهو يمتلئ
بضيوف ووفود من جل أقطار العالم جاءوا للعمرة والزيارة
ويسمعون ذلك عبر مكبرات الصوت فيظنون أن هناك توجيهًا
رسمياً وشعبياً في هذا الوطن لتغيير وضع الحرم النبوي
الشريف، الذي ظل عليه ما يقارب ثلاثة عشر قرنًا ونصف القرن،
خاصة وأن الشيخ المتحدث زاد حديثًا عن ما أسماه بدعة القبة
الخضراء، ونادى بتصحيح كل هذه الأخطاء المزعومة.
ونحن نعلم يقينًا أن بيننا من يعتنق مثل هذه الأفكار
ولكننا نجزم أنهم أقلية، وهذه الأفكار إذا طرحت علناً
في الحرمين الشريفين تناقلها زوارهما وبلغت الآفاق، وتكرار
طرحها باستمرار أزعم أن صداه غير مرغوب فيه، ولا أحد في
هذا الوطن يسعى إليه، فهلا كف هؤلاء عن ترديد مثل هذه
الأقوال التي ضررها ـ ولاشك ـ على بلادنا عظيم، ونصيحتنا
لهم أن يتداركوا أخطاءهم حتى لا يثيروا فتنة، فلعلهم يقبلون
النصيحة، فقضايا الأمة التي يحتاج العلماء أن يتحدثوا
فيها لا حصر لها مما له نفع يعود على المسلمين.. فهلا
شغلوا أنفسهم بها؟ ذاك ما نرجوه والله ولي التوفيق.
ما لم تسمح به مساحة التعبير في الصحيفة، وما انطوت
عليه عبارات الشريف في مقالته وهو يستعرض ما جاء على لسان
السائل والمجيب في موضوع القبة النبوية الشريفة وقبر المصطفى
صلى الله عليه وسلم، هو أن الهدم تحوّل الى ثقافة لدى
الأقلية الوهابية، ومن الغريب أن سيرة السلف الصالح لم
يتم اعتمادها في هذا المقام، بالرغم من أن وجود القبر
داخل المسجد كان منذ القرن الهجري الأول، فهل الموقف الوهابي
يبطن تخطيئاً وتأثيماً لصحابة رسول الله صلى الله عليه
وسلم!
|