واشنطن ترجّح الأمير بندر بن سلطان
ملك على ظهر عمليات أميركية قذرة
سعد الشريف
أن يفشي الأمير بندر بن سلطان لأحد الكتّاب الأميركيين
ممن يعرفون القناة الأنسب للحصول على المال السهل، بأنه
يتطلّع ليوم يصبح فيه ملكاً، فتلك لم تكن مجرد دعابة أو
حلم عابر، فالرجل يعمل منذ سنوات على تعبيد الطريق إلى
العرش، وإن كانت طرق العرش تتبدّل مع رحيل ملك وقدوم آخر،
فليس هناك قصر للحكم ثابت. على أية حال، فإن الأمير بندر
يحسب بدقة معادلة الحكم والتبدّلات الطارئة المتوقّعة
عليها، فاقتراب الجيل الثاني من نقطة الفناء، يجعله أقرب
الى جعل الحلم حقيقة، خصوصاً حين يكون المرشّح القادم
مدعوماً من واشنطن، في ظل ضعف كبير في بنية العرش، والتصدّعات
المحتملة في البيت السعودي الحاكم.
بخلاف الأمراء السعوديين، يبقى الأمير بندر الأنجح
في الوصول الى عقول وقلوب المسؤولين في الإدارات الأميركية
المتعاقبة لمدة تربو على ربع قرن، وشارك في كل عملياتهم
السريّة والقذرة في كل أرجاء العالم، وتحوّل إلى مخرج
الطوارىء لدى المسؤولين الأميركيين لتجاوز ضوابط ومحددات
الكونغرس والدستور الإتحادي، من أجل تمويل وتغطية عمليات
سريّة تتسم بالإجرام والخداع.
في سيرة الأمير بندر بن سلطان ما يشي بوجود إشارات
قوية على رغبة أميركية بوجود رجل مثل الأمير بندر يحقق
أفضل تفاهم مع الولايات المتحدة. فقد شارك الأمير في عمليات
على مستوى العالم وضعته في مكان مقرّب من البيت الأبيض،
وبات ينظر إليه المسؤولون الأميركيون وخصوصاًُ في الحزب
الجمهوري المقرّب من عائلة بوش على أنه الرجل الأشد وفاءً
للسياسة الأميركية.
منذ بداية الثمانينات، سعى الأمير بندر الى تقديم نفسه
كأفضل رجل في العائلة المالكة يمكن الإعتماد عليه في تحقيق
أفضل التفاهمات بين واشنطن والرياض. وكان ثمة سباق طويل
بين الأمير بندر واللوبي الإسرائيلي في واشنطن أراد فيه
الطرفان إثبات الجدارة بأنه الأقدر على تحقيق التطابق
التام في المصالح الإستراتيجية.
وفيما كان بعض الدوائر الإسرائيلية يرسم خطة إنقلاب
كبير في الرياض يكون مقدّمة لتفكيك الشرق الأوسط، كان
الأمير بندر بن سلطان يسعى في الإتجاه المعاكس الى صنع
البديل الذي يضمن بقاء العرش السعودي، ويكفل بناء تحالف
استراتيجي مع الولايات المتحدة يقوم على تنفيذ عمليات
نموذجية تعزز من دور السعودية في الاستراتيجية الأميركية
على الصعيد الدولي.
وقبل أن تبدأ خطتها في الحرب العالمية الثالثة، كانت
واشنطن تسعى في المرحلة الأولى إلى وضع نهاية حاسمة للحرب
الباردة عن طريق إخضاع الإتحاد السوفييتي، وجعل أميركا
القوة الأكبر في العالم التي ستواجه العالم الإسلامي.
في يناير 1979، وصف مستشار الأمن القومي الأسبق بريزينسكي
إيران وأفغانستان وشبه القارة الهندية بأنها (قوس الأزمة)،
التي فرضت تحديّاً جديّاً للغرب. وكان الغرض حينذاك هو
استعمال هذا القوس كمبرر لإشعال الأصولية الإسلامية في
آسيا الوسطى، والتي جرى استعمالها لإفلاس وتدمير الإتحاد
السوفييتي ومن ثم استعمال الأصولية الإسلامية ذاتها كمصدر
للإرهاب الذي يخيف العالم الغربي. بطبيعة الحال، لم يتم
الكشف عن الخطة هذه إلا في عام 1998، في مقابلة صحافية
مع بريزينسكي.
وبحسب التاريخ المعلن أي الرواية الرسمية، فإن مساعدة
وكالة الإستخبارات المركزية الأميركية سي آي أيه للمجاهدين
الأفغان بدأت خلال 1980، أي بعد أن اجتاحت القوات السوفييتية
أفغانستان في 24 ديسمبر 1979. ولكن الواقع يحكي غير ذلك،
فقد وقّع الرئيس كارتر في 3 يوليو 1979 على مذكرة أولية
تدعو لتقديم مساعدات سريّة للمناهضين للنظام الموالي للسوفييت
في كابول، ويقال بأن تلك المساعدات هي التي شجّعت القوات
السوفييتية على التدخل المباشر في أفغانستان.
دعم السي آي أيه لحرب المجاهدين في أفغانستان كانت
العملية السريّة الأكبر في تاريخ الولايات المتحدة، والتي
جرى تمويلها عن طريق سلسلة معقّدة من النشاطات السريّة
وغير القانونية، والتي عرفت بقضية إيران ـ كونترا سنة
1987، والتي كشفت عن التداخل بين الأخوان المسلمين والنظام
السعودي أيضاً. ومن الناحية الجوهرية، فإن الثروة الضخمة
التي تجمّعت لدى السعودية عبر إدارة أزمة البترول، قد
جرى تثميرها كمصدر تمويل لعميات السي آي أيه السريّة.
وحين أصبح ريغان رئيساً، تورّطت إدارته في توسيع العلاقة
القائمة منذ عهد الرئيس روزفلت، حيث تقوم السعودية ببناء
شبكة واسعة من التجهيزات الدفاعية البحرية والجوية والتي
ستعزز من القوات الأميركية، تحت ذريعة بأنها ستكون مورد
حاجة لحماية المنطقة أو شن حرب ضد المعتدي. وكان يشتمل
البرنامج على تفاهم جديد يقضي بأن تصبح السعودية شريكاً
في العمليات السرية، ولكن ليس في الشرق الأوسط فحسب. وافق
السعوديون على تمويل المنظمات المسلّحة في أفغانستان وأنغولا
ومناطق أخرى، التي تدعمها إدارة ريغان بما فيها الكونترا
في نيكاراغوا.
وإلى جانب إيران ـ كونترا، حين اندلعت الحرب بين إيران
والعراق في سبتمبر 1980، قامت الولايات المتحدة بتقديم
الدعم بصورة سرية إلى طرفي النزاع، كما أصبحت منخرطة في
العمليات المعروفة بعراق جيت. وقد استعملت إدارة ريغان
فوائد مبيعات السلاح الى إيران لتمويل الجناح اليميني
في الكونترا، بهدف كسر الجناح اليساري في نيكاراغوا، رغم
أنها حكومة منتخبة ديمقراطياً. على أية حال، كلا العملين
متناقضان مع قوانين الكونغرس التي منعت تمويل الكونترا
أو بيع الأسلحة إلى إيران، التي تعتبرها (دولة إرهابية)،
إضافة الى أن كلا العملين مخالفان لقرارات الحظر الصادرة
من الأمم المتحدة.
|
بندر المرشح أميركياً
|
وخلال هذه الفترة، وحتى وفاة السيد الخميني في 1989،
كانت إيران تقود المنظمات السياسية المعارضة للغرب وتحرّض
كل المسلمين، السنة والشيعة لمحاربة البلدان الغربية،
المصنّفة في خانة الشيطان الأكبر والأصغر. وقد ساعدت إيران
وموّلت عدداً من حركات التحرر والجماعات المسلّحة من فلسطين
الى إيرلندا الشمالية الى السودان وساحل العاج.
في البداية، ومن أجل تجاوز إجراءات الكونغرس، تقرّبت
الولايات المتحدة من الأمير بندر من أجل ضمان الدعم السعودي
في تمويل الكونترا. الأمير بندر، الذي تم تعيينه سفيراً
في الولايات المتحدة في سنة 1983، وكان يبلغ من العمر
آنذاك 34 عاماً، وهو منصب خدم فيه لأربع وعشرين سنة. وكان
للأمير بندر بن سلطان نفوذ غير مسبوق على الرؤوساء وكبار
المسؤولين الأميركيين منذ عهد ريغان. وكان صديقاً مقرّباً
لعائلة بوش، فقد أطلقت عليه باربرا، والدة الرئيس الحالي
جورج بوش، إسم (بندر بوش).
وبعد أن فجّر حزب الله المواقع الأميركية في بيروت،
واختطف مسؤول محطة السي آي أيه في بيروت ويليام بكلي،
كان وليام كيسي، مدير الوكالة، وبندر بن سلطان من وافقا
على إغتيال الزعيم الروحي الشيعي في لبنان السيد محمد
حسين فضل الله. تم تسليم إدرة العملية للسعوديين، الذين
اعتمدوا على خدمات عملانية من قوات النخبة الخاصة البريطانية.
الخطة فشلت، على أية حال، حين أفضى انفجار السيارة إلى
انهدام شقة في بناية بالقرب من بيروت، وأدّت الى مقتل
ثمانين من المدنيبن الأبرياء. وفيما نجى الشيخ فضل الله
من العملية، فإن السعوديين ومن أجل التغطية على ضلوعهم
في المؤامرة قاموا بتزويد فضل الله بمعلومات تتعلق بالأشخاص
الذين جرى تجنيدهم لهذه العملية. وعلى أية حال، فإن فضل
الله لم يغفر للسعوديين ما وصفه جريمة بحق سكان الضاحية
الذين سقطوا بفعل سيارة مفخّخة دفع الأمير بندر ثمنها
بصورة كاملة وهو عبارة عن عشرة ملايين دولار.
بمرور الوقت، بلغت المساعدات السعودية للكونترا نحو
32 مليون دولار. وكان بندر يقوم بدور الوساطة مع صدام،
حين علم في وقت ما عن استعداده القبول بالمساعدة الأميركية.
وكانت الولايات المتحدة تساعد أيضاً الإيرانيين، وبصورة
أساسية من أجل ضمان نفوذهم لدى الجماعات التي تحتفظ برهائن
أميركيين في لبنان، والذين يدعمون التفجيرات في البلدان
الأوروبية الغربية. على أية حال، فإن الولايات المتحدة
كانت مهتمة بدعم صدام، لحماية السعوديين والاحتياطات النفطية.
وبالرغم من عدم موافقة الكونغرس، فإن إدارة ريغان سمحت
بصورة سريّة للسعودية والكويت ومصر بنقل أسلحة أميركية
بما فيها مدافع، وطائرات هيليكوبتر، ومتفجّرات لصدام.
وأيضاً، فقد تم تحويل جزء من فوائد مبيعات الأسلحة
لإيران لتمويل المجاهدين. وكانت صحيفة الواشنطن بوست قد
ذكرت في تقرير لها في بداية الثمانينات بأن الأرباح المقتطعة
من مبيعات الأسلحة لإيران كانت تودع في حسابات تديرها
وكالة الإستخبارات المركزية الأميركية حيث وضعت الولايات
المتحدة والسعودية 250 مليون دولار فيه. ولكن المال جرى
توزيعه ليس فقط على الكونترا في أميركا اللاتينية، ولكن
أيضاً على الثوّار المحاربين للقوات السوفييتية في أفغانستان.
تعقيدات عملية إيران ـ كونترا، وتسليح المجاهدين الإسلاميين
الأصوليين في أفغانستان كانت تدار من قبل وليم كيسي، مدير
السي آي أيه، المعروف بكونه غير شفاف وغير مرئي، وقد شملت
عمليات كيسي تجارة الأسلحة للكونترا مقابل الكوكائين،
وأن أرباحها تأتي من بيعها الى مجموعات تعمل في السوق
السوداء في لوس أنجلس، وهذه المبالغ جرى استعمالها لاحقاً
لحملات السي آي أيه السريّة والمتنوّعة.
تورّط حكومة الولايات المتحدة في تسهيل تجارة المخدّرات
لتمويل النشاطات السرية تعود للوراء على الأقل الى مكتب
الخدمات الإستراتيجية (أو إس إس)، سلف السي آي أيه. وكان
وليام كيسي، وبالتعاون مع ريتشاد أرميتاج في البنتاغون،
كان يدير الحرب السريّة للمجاهدين. صواريخ ستينجر، والكهوف
الجبلية المعدّة كمراكز عمليات، ومعسكرات التدريب العسكري
للمقاتلين الإسلاميين المجنّدين على نطاق دولي، وكذلك
التدريب والتجنيد داخل الولايات المتحدة، كانت جزءً من
عمليات التمويل، باستعمال فوائد مبيعات الأفيون، والمخدرات،
والتي كانت تنقل عبر بنك الإعتماد (BCCI) بموافقة الحكومة
السعودية التي كانت تعمل بصورة وثيقة مع وكالة الإستخبارات
المركزية سي آي أيه والتي تستعمل غطاءً ما لتغليف ضلوعها
في هذه العمليات.
بقي الأمير بندر عنصراً ناشطاً في العمليات السريّة
للولايات المتحدة، وخاض بحماسة عالية في الصفقات القذرة
التي جرت في عقدي الثمانينات والتسعينيات سواء مع الصين
أو كوريا الشمالية أو ليبيا والسودان وغيرها، وبلغت مغامراته
حد الدخول على خط الأزمات في المنطقة مثل الملف النووي
الإيراني وكان يراهن على إقناع الإيرانيين بوقف التخصيب
مقابل مكافأة مغرية من قبل الغرب، إلا أن الإيرانيين سخروا
من محاولاته ونجحوا في إقناع الملك عبد الله في الحد من
دور بندر بسبب نتائجه العكسية.
على أية حال، الطموح المضطرم داخل الأمير بندر، والعقد
السابقة التي عانى منها داخل عائلته تدفع به لنوع من الثأر
الذي يقلب من خلالها معادلة الحكم رأساً على قلب، حيث
لا يعود العرش محتكراً من الأمراء ذوي العرق الأنقى داخل
العائلة المالكة وخصوصاً من جهة الأم.
|