صراع الوهابية مع القوى الإجتماعية لازال مستمراً
هل هناك تناقض في مواقف آل سعود من المؤسسة الدينية؟
محمد السباعي
في مواقفها تجاه المؤسسة الدينية من جهة، والقوى الإجتماعية
الأخرى من جهة ثانية، كانت لدى الحكومة السعودية ثنائية
واضحة.
|
عنف وهابي |
تدعم مؤسستها الدينية ومشايخها إن رأت صعوداً لتلك
القوى، التي تتهم بالعلمانية والحداثية والليبرالية والرافضية
والصوفية، خاصة إن كانت نشاطاتها تتضمن أعمالاً تصب في
خانة ثقافية ليست في صالح السلطة.
وتفسح المجال لنقد المشايخ وتجاوزاتهم عبر الصحافة
إذا ما تضخمت المؤسسة الدينية ورجالاتها، أو إذا ما أُريد
من تلك المؤسسة التنازل في قضية أو موقف؛ أو إذا ما أُريد
لفت نظرها بأن قوتها إنما هي بيد آل سعود.
الفاصلة الزمنية في التحوّل من مسار الى آخر، عادة
ما يستغرق فترة زمنية. يسبقها في الغالب أيضاً صراعات
إعلامية وفتاوى وغير ذلك بين الطرفين، بحيث تتدخل السلطة
كحكم، فتلجم الطرفين على السطح وتقوّي أحدهما ضدّ الآخر
بعد أن تبتزّه أو بعد أن تستخدمه لتحصيل ما تريد.
ولو أخذنا السنوات الأخيرة خاصة بعد أحداث 9/11، فإننا
نرى تخبطاً لدى الحكومة السعودية في التعاطي مع الطرفين،
بحيث يمكن ملاحظة فعل الشيء ونقيضه بلا فواصل زمنية، وكأنها
تبحث عن أهداف متناقضة، عبر وسائل متناقضة، وإن كان الخيار
المرجح هو (إبقاء التحالف مع المشايخ) ولكن بدون أُفق
ومعرفة ما إذا كان من الواجب دعمهم أو تقليص صلاحياتهم.
والسبب يعود الى أن آل سعود أنفسهم يفكرون بمنطق (السوق)
اليومي، وليس على أساس استراتيجي لما ينبغي أن تكون دولتهم
عليه.
في التفصيل يمكن قول التالي:
• حين وقعت أحداث سبتمبر 2001، كانت الحكومة السعودية
أمام قضايا شائكة، ومصالح متناقضة، وسياسات متضاربة.
آل سعود، كانوا حانقين من المنتج الوهابي الذي شارك
في تلك الأحداث. كانوا غاضبين لأن ما حدث هزّ علاقاتهم
مع أميركا، وأخافهم من ردود فعلها. وكانوا غاضبين من جهة
ثانية لأن عقيدة الدولة (أيديولوجيتها) ومصدر شرعيتها
أصبحت متهمةً بأنها أخذت تنقض تلك الشرعية، وتحولها الى
عنف ضدهم وضد نظام حكمهم، فضلاً عن أن تلك الأيديولوجيا
أساءت لسمعة الدولة التي يمثلونها.
|
نايف: دولتنا سلفية |
هذا الغضب السعودي، تُرجم أول ما تُرجم، على شكل نقد
للوهابية وفكرها، بصورة من الصور، وبدون ذكر الإسم. فكانت
الصحافة المحلية تشير الى أن العنف محلي الصنع، وكانت
توجه أصابع الإتهام لقيادات المؤسسة الدينية التي لم تحتضن
الشباب، والى رموز الصحوة السلفية الذين لقنوا الشباب
(الفكر الضال!)، وجاء من دخل الموضوع بصورة أعمق، فاتهم
السلفية التقليدية بأنها المفرّخة للعنف، وأن العنف محلي
وليس مستورداً، وأن العنف لن يهدأ بدون مراجعة هيكلية
وشاملة لفكر الوهابية، وبدون تغيير القناعات العقدية،
وبدون إصلاح مناهج التعليم الديني، وبدون ضبط الفتاوى،
وغير ذلك.
كان افساح هذا النقد، في جزء منه على الأقل، تبنياً
لضغوط غربية كانت تطالب بانفكاك السياسي عن الديني، أي
انفكاك حكم آل سعود وتخليه عن أيديولوجيته الوهابية العنيفة،
أو على الأقل ترويضها، رغم أن ترويضها مستحيل، وهي بين
فترة وأخرى تظهر لنا على شكل انفجارات وعنف منذ أن تأسست
الدولة.
والسبب الثاني في إفساح النقد للفكر الوهابي المتطرف،
بدون ذكر كلمة وهابية طبعاً، هو التنفيس عن الشارع السعودي
المحتقن ضدها في كل مناطق المملكة، خاصة وأن هناك الكثير
من المتضررين منها، إما بشكل شخصي أو معنوي ومادي عام.
والسبب الثالث هو أن الحكومة كانت تريد الضغط على المشايخ
الكبار لكي تستثمرهم في سياستها المقبلة من جهة تنقية
التراث الذي لا يخدمها ولا يخدم أسيادها أيضاً. وحتى يرضخ
المشايخ لآل سعود، فإنهم لا بدّ وأن يقفوا معهم سياسياً
ويعلنوا براءتهم من العنف والفكر التكفيري، ويحملوا دعاة
العنف والتفكير (غيرهم!) مسؤولية ضغط الدولة على المشايخ
ونشاطاتهم، أو هذا ما بدا للوهلة الأولى.
• لكن آل سعود ـ ومن جهة أخرى مناقضة ـ لم يكونوا يريدون
إضعاف الوهابية بشكل جاد وحقيقي، ولا تجاوزها. فالوهابية
توأم آل سعود السيامي، وإضعافها يعني في المحصلة النهائية
إضعاف للحكم السعودي نفسه. وآل سعود ليس لديهم ايديولوجية
أخرى أكثر فائدة من الوهابية، ولم يكونوا بصدد تغيير في
الأيديولوجيا عبر الإنفتاح وغيره، وكانوا يرون في تقليص
دور الوهابية دفعاً لهم لتبنّي خيارات جديدة كانت مطروحة
لإعادة تعريف شرعية النظام، أو أعادة صناعته، عبر خطاب
وطني مختلف يتبنّى الإنتخابات ووضع دستور وغير ذلك. ومثل
هذا الأمر لم يكونوا يقبلون به ولازالوا، ووجدوا أن تضخم
مثل هذه المطالب، خاصة بعد تحفّز القوى الوطنية جميعاً
للضغط على الحكومة مثلما حدث ابتداءً في عريضة الرؤية،
لا حلّ لها إلا بالمعول الوهابي، ولا سلاح قادراً على
مواجهتها إلا سلاح الدين (الوهابي) ايضاً.
فالوهابية ـ حتى وهي تفجر في شوارع الرياض، وفي مدن
العراق والمغرب وأفغانستان وعواصم غربية ـ كانت مطلوبة
للعمل ضد ذاتها، أو إعادة تعريف نفسها، خدمة للسلطان السعودي
أولاً، وخدمة لنفسها ثانياً، وخدمة للغرب الذي طالما امتدحها
قبل تفجيرات سبتمبر ثالثاً.
ولكي تكون الوهابية ومشايخها في خدمة السلطة، أو إعادتها
الى الحظيرة، عليها أن تفتي ضد دعاة العنف، وأن تقبل ورأسها
مطأطأ (بعض) اصلاحات المناهج، وأن تصمت على مضض فيما يتعلق
بجبايتها للأموال ودفعها للإرهابيين من خلال مؤسسات خيرية
تم إغلاقها بقرار أميركي، وعليها أن تتحمّل بعض النقد
من الداخل والخارج، ريثما تنجلي الأزمة عن آل سعود وعنهم.
|
المفتي: دعم آل سعود |
إذا كانت الوهابية مطلوبة للعمل عند النظام السعودي،
وأنه لم يستغن عنها، ولا يلوح في الأفق اي اشارة الى ذلك..
فمن الطبيعي أنه لن يسمح لها بالإنهيار، وإلا خسر. ومن
الطبيعي أن لا يسمح بنقدها إلا بحدود سواء داخلياً وخارجياً.
ولهذا انبرت السلطة للدفاع عن الوهابية باعتبارها أنقى
ديانة في العالم!، وألقت اللوم على المتشددين الشاذّين
عنها! أما هي فقمة من التسامح والإعتدال، بل أن تاريخها
ـ كما يكذب علناً وزير التعليم العالي ـ ومنذ ثلاثة قرون
لم يرَ منها سوى التسامح والإعتدال!!
إذن لا بد من نقد المتشددين الوهابيين، وهم الممثلون
الصادقون بحق للوهابية وفكرها، وفي نفس الوقت لا بدّ من
تبرئة الوهابية من العنف والدموية والأحادية والجمود وغير
ذلك من الصفات الملتصقة بها. السعودية ورموزها السياسيون
النجديون، أجازوا نقد الفكر الوهابي، ولكن دون الوهابية!
كيف يكون ذلك؟!. وحاولوا ولازالوا أن يقولوا للعالم بأن
الوهابية معتدلة، وأن الإرهاب طارئ خارجي، مستود من مصر،
من الإخوان المسلمين!! وهم في هذا أكذب خلق الله، فالوهابية
دموية وعنيفة قبل أن توجد حركة الإخوان المسلمون بأكثر
من قرن ونصف! وعموماً فإن المواطنين أنفسهم لم يصدقوا
ـ وهم المكتوون بنار الوهابية ـ أن عنفها مستورد!
كانت الحكومة في فترة ما بعد أحداث سبتمبر تريد حماية
الوهابية ونقدها. وتريد إعادة إخضاعها وضرب عنفييها في
نفس الوقت. وكانت تلمّعها وتدافع عنها داخلياً وخارجياً
(كما في تصريحات نايف وسلمان) طمعاً فيها وفي استقرار
حكم آل سعود، وفي نفس الوقت كانت تخاف منها.
وهنا جاء التناقض، فما كانت الحكومة تأخذه منها بيد،
كانت تسلّمه لها باليد الأخرى. المهم أن يبقى التحالف
الوهابي السعودي، كما هي سياسة الجناح السديري.
ولذا لم يفهم المواطنون ولا الغربيون سر التناقض القائم
في السياسات والإعلام. فالفواصل الزمنية القديمة لم تعد
موجودة، فكان أن ظهر التناقض واضحاً على الأرض من جهة
وفي الإعلام المحلي من جهة أخرى.
اليوم ترى قوّة هائلة لدى مؤسسات الوهابيين الدينية،
ودعماً بالتصريحات متكرر من قبل آل سعود للمشايخ. مؤسسة
القضاء، وهيئات الأمر بالمعروف، والوجود الوهابي في مؤسسات
الدولة التعليمية وغيرها، والنشاطات الإعلامية الدينية
وغيرها.. يمكن ملاحظة تصاعد نشاطها. وفي اتجاه معاكس،
يستطيع المواطن العادي متابعات آخر تجاوزات هيئات الأمر
بالمعروف والنهي عن المنكر؛ وآخر صنوف نقد فتاوى أو مواقف
المشايخ الكبار (لازلنا نعيش قضية توسعة المسعى، وآثار
تصريحات رئيس القضاء الأعلى، وفتاوى بن جبرين بضرورة جلد
الكتاب الذين ينقدونه وأمثاله).
لأول مرة تضطر العائلة المالكة لجمع الطرفين (الوهابية
ومخالفيها) في معركة متواصلة لمدّة طويلة عمرها أكثر من
ست سنوات. فلا هي قادرة على إسكات هؤلاء، ولا هؤلاء. إذ
في كل يوم هناك ما يقال وما يرد عليه.
واضح هنا أن المشايخ لم يعودوا يهتمون بموقف آل سعود
كثيراً. هم يشعرون بأن أجهزة الدولة صارت ضدهم!!، وأن
العملاء وأعداء الدين والمملكة من العلمانيين والليبراليين
والحداثيين قد قاربوا السيطرة على آل سعود وعلى الدولة!،
وبالتالي لا بدّ من الصدع بالأمر علناً، وإبراز خلاف العلماء
وأتباعهم مع نهج العائلة المالكة، خاصة نهج الملك، الذي
يتهمه الوهابيون ومشايخهم بأنه يعمل ضد الإسلام، وأنه
مكّن أعداءه من السيطرة على مرافق الدولة الحساسة!
وفي الطرف المقابل، تجد عند الطرف الليبرالي محاولة
لتجاوز ممنوعات الدولة ايضاً، مثلما يفعل غريمه الوهابي،
وبسبب التكنولوجيا التي وفرت عوامل تجاوز ممنوعات السلطة،
وايضاً بسبب ضعف الأخيرة الذي يشعر به كل المواطنين، استمر
الصراع والمناوشات ولازالا.
شيء واحدٌ لم يتغيّر، وهو أن سياسة آل سعود في إنهاك
القوى الإجتماعية/ السياسية والدينية جرت بشكل أكبر. ذلك
أن آل سعود أبعدوا أنفسهم عن الصراع، وتركوا الطرفين يكسرون
بعضهم بعضاً. بيد أنه خلاف ما كان يبدو سابقاً، فإن كلا
الطرفين ـ هذه المرة ـ يرى أن النظام قد تغيّر كليّاً
لصالح غريمه. والصحيح أن آل سعود ليسوا إلا مع أنفسهم،
ولا ينحازون إلا لمصالحهم ومصالح أسيادهم الأميركان، وما
عدا ذلك مجرد تفاصيل.
|