المثقفون السعوديون: محاصرون بين نظام تسلّطي وعولمة
ليبرالية
مي يماني
|
د. مي يماني |
ألقت الدكتورة مي يماني كلمة في مؤتمر عن المثقفين
والديمقراطية في الوطن العربي، بجامعة ويستمنستر في لندن
في يومي 4 ـ 5 ديسمبر، شارك فيه عدد من الأكاديميين والمفكرين،
وحضر المؤتمر عشرات من الصحافيين والكتّاب وطلاب الجامعة.
وفيما يلي نص التسجيل للكلمة:
العولمة تمدّد مساحة المناظرة الثقافية السعودية، وتفرض
تحديّاً بالغ التعقيد للنظام التسلطي السعودي. وكان بزوغ
التلفزيون الفضائي، وخصوصاً قناة (الجزيرة)، قد خلق مرحلة
جديدة، ومجالاً عاماً جديداً للمناظرة الثقافية ذات الأهمية
الكبيرة لنمو الإصلاح الديمقراطي. وقد سلّطت النقاشات
السياسية الصريحة على قناة (الجزيرة) الضوء على رقابة
الدولة. فـ (ظاهرة الجزيرة) قد أحدثت ثورة في الإعلام
العربي، لجهة تعبئة الرأي العام بما نجم عنه تهديد لسيطرة
الحكومة. كما ساهمت الموجة اللاحقة من القنوات التلفزيونية
الفضائية المماثلة الأخرى وكذلك الإنترنت في صنع فضاء
عام غير مسبوق على مستوى المناظرة السياسية والإجتماعية.
ولكن اختراق (الجزيرة) هذا لم يتطوّر الى مستوى الإنتقال
بمسرح النقاش الأكاديمي، كما لم يمهّد الطريق للإصلاح
الديمقراطي. وهذا عائد بدرجة أساسية إلى أنه بينما تقوم
العولمة بتمديد فضاءها، فإن الحكومة السعودية تحاول في
الوقت نفسه العمل على انكماش هذا الفضاء. ويواصل القادة
السياسيون استعمال سلطتهم ونفوذهم لفرض حدود على المناظرات
السياسية. ولحد الآن، فإن الحكومة السعودية مازالت قادرة
على تنظيم الحقل الثقافي والسياسي المحلي الى حد كبير.
وقد أبدت الحكومة السعودية قدرة على استعمال وسائل
متعددة بما فيها تلك الصارمة، والتكنولوجية، والقمعية
للسيطرة على وفرة المعلومات وتضييق الخناق على نطاق القضايا
ولغة المناظرة العامة. ويتم فرض القيود بواسطة الملكية
المباشرة من قبل أمراء العائلة المالكة وأيضاً من خلال
السيطرة على الصحف والصحافيين بطرق متعددة. وتشمل هذه
الطرق، التشريعات القانونية وتطبيقها بحزم، وكذلك الترضيات
السياسية والمالية، والتي تستعمل للحفاظ على الحدود الرسمية
وغير الرسمية حيال ما يجب مناقشته بصورة علنية.
ويدرك الأكاديميون والصحافيون بصورة تامة الخطوط المرسومة
المسموح بالوصول إليها، ومتى يصبح تجاوزها آمناً. وحيث
أن معظم المثقفين يتلقون مرتباتهم من الدولة بصورة مباشرة،
فإن حياتهم تعتمد على قدرتهم على المناورة داخل الخطوط
العامة المحدّدة سلفاً. إن تجاوز حدود الرقابة غالباً
ما ينتج عنه مكالمة في آخر الليل لتوجيه (نصيحة) لهم حول
خطأ الآراء التحليلية الواردة في المقالة. وفي حال لم
تكن المكالمات الهاتفية مؤثّرة، فإن وسائل أشد قسوة يجري
استعمالها مثل الطرد من العمل، أو الجلد، أو السجن.
وضع ودور المثقفين السعوديين:
دراسة حالات
الجلد والحبس: من بين مئات الحالات، يبرز الحكم الصادر
في فبراير 2008، على الدكتور أبو رزيزه، أستاذ الجامعة
في مكة والذي تجاوزت محاضراته، بطريقة أو أخرى، الحدود،
بالحبس ثمانية شهور، و180 جلدة لالتقائه بطالبة دون محرم،
في مقهى ستاربكس. وقد خطّط أعضاء هيئة الأمر بالمعروف
والنهي عن المنكر هذه المصيّدة. وكانت هذه حالة مشهورة
وجرى النقاش بشأنها على شبكة الإنترنت.
والمطاوعة هم جزء من تطبيق السيطرة والرقابة على المعلومات،
ويمعن القضاء النظر دائماً في الزندقة والردّة. من نافلة
القول، هناك حالات عديدة من الطرد والحبس شملت مثقفين
تقدّم بوصفها قضايا أخلاقية. مثال على ذلك، خالد الزهراني
الذي حكم عليه بـ 600 جلدة والحبس لمدة ثمانية شهور بتهمة
(محادثات تلفونية غير مشروعة مع طالبة)، واتهام الإستاذ
بالردّة لمناقشة موضوعات مثل الزنا مع طلاّبه، وقد حكم
عليه ثلاث سنوات في السجن، و300 جلدة. من جهة ثانية، تلقّى
عدد من المثقفين السعوديين مثل الروائي تركي الحمد فتاوى
بالقتل من قبل العلماء.
وفي 15 مايو 2005، وفي محاكمة مغلقة وبدون تمثيل قانوني،
صدر الحكم على ثلاثة إصلاحيين بارزين: علي الدميني، الصحافي
والأديب المعروف، وعبد الله الحامد، ومتروك الفالح، وهما
أستاذان جامعيان، بالسجن لمدد تتراوح بين 6 ـ 9 سنوات.
وكانت جريمتهم الدعوة لملكية دستورية. وينص الحكم الرسمي
بأنهم هدّدوا الوحدة الوطنية، وتحدّوا أولئك الذين في
السلطة وأثاروا الرأي العام ضد الدولة باستعمال مصطلحات
(أجنبية). وفي أعقاب حوادث الحادي عشر من سبتمبر، إنضمّ
هؤلاء الثلاثة الإصلاحيين الليبراليين إلى 160 أستاذاً
للكتابة وتوقيع عريضة قدّمت إلى عبد الله (ولي العهد آنذاك)
تطالب بالإصلاح. وطالب الموقّعون على العريضة الملك والقضاء
من أجل العمل ضمن الحدود الموصوفة دستورياً. وطالبوا باستقلال
القضاء. وكتب الإصلاحيون بأن ذلك هو السبيل الوحيد الذي
يمكن أن ينقذ السعودية من تهديد الإرهاب، وعدم الاستقرار،
والتفكك.
عبد الله، الذي كان حريصاً على أن يقدّم نفسه رائداً
في الإصلاح، تلقّى تلك المقترحات بترحيب دافىء في يناير
2003. ولكن أخيه غير الشقيق، الأمير نايف، وزير الداخلية،
أصدر أوامر الإعتقالات، حيث تمت محاكمة وحبس 13 إصلاحياً
في مارس 2004. وقد التزم عبد الله الصمت فيما دخلت أجندة
الإصلاح في غيبوبة. الإصلاحيون الذين رفضوا التوقيع على
تعهدات أو الندم على ما فعلوا يبقون في السجن. أما الموقّعون
الآخرون الـ 160 مثل المحامي محمد سعيد الطيب، الذي وقّع
على تعهّد بعدم المطالبة بالإصلاح مرة ثانية، قد تم العفو
عنهم. ولكن هذا العفو يبقى مقيّداً، حيث من غير المسموح
لهم بمغادرة البلاد، كما تمت مصادرة جوازات سفرهم، ومنعوا
من الحديث للقنوات الفضائية والصحف. لم تعد هذه الحالات
سراً. ويستعمل المثقفون المتّهمون والمكتومون وأعوانهم
تكنولوجيات العولمة لتعميم قضيتهم. ومازال متروك الفالح
في السجن، حيث أن الدولة في موقف دفاعي بدرجة متزايدة.
ولذلك، وبالرغم من أن العولمة قد مدّدت الحدود، فإن
النظام السعودي يطبّق مروحة من الاستراتيجيات لتقليص حدود
المناظرة والجدل السياسيين. وينتج الوضع الحالي خليطاً
من الطموح والخوف. وماهو غائب بصورة خاصة هو منظومة من
المنظمات المدنية لصون ومراقبة حكم القانون، وحقوق الإنسان،
والتعليم. ويحاول النظام السعودي تدجين لعبة العولمة عن
طريق الإنخراط فيها حيث يمكنه حينذاك صناعة القوانين.
ويملك الحكّام السعوديون قنوات فضائية في عدد كبير
من البلدان العربية، كما يملكون حصصاً كبيرة في الصحافة
العربية التي تنشر خارج العالم العربي، وتشمل (الموارد)
المملوكة من مجموعة شركة إرسال الشرق الأوسط (إم بي سي)،
التي تأسست سنة 1991، والتي تتخذ الآن من دبي مقرّاً لها،
وتملك ست قنوات تسلية ومحطتين إذاعيتين. وفي 2003، أضيفت
قناة (العربية) الأخبارية الى باقة إم بي سي في محاولة
لمواجهة تأثير قناة (الجزيرة). وبالمثل، فإن وكالة الصحافة
السعودية (إس بي أيه)، وكالة الأخبار الرسمية، تملك شركات
نشر رئيسية مثل شركة التسويق والنشر السعودية، والتي توزّع
صحفاً قومية خاصة مثل (الحياة) و(الشرق الأوسط) ومقرّهما
في لندن. ويملك الأمراء السعوديون أيضاً قنوات فضائية
تشمل أيه آر تي ـ أوربيت (بالشراكة مع إل بي سي الدولية
في لبنان)، ومجموعات المستقبل وروتانا أيضاً في لبنان.
وفي مركز اهتمام الإمبراطورية الإعلامية السعودية ،
يتبوأ هدف تعزيز وترسيخ النظام السياسي السعودي، محلياً
وكذلك فيما يرتبط بسياسته الخارجية. وفي واقع الأمر، فإن
معركة السعودية للسيطرة على القلوب والعقول تتركز على
العالم الخارجي، بنفس القدر على الشؤون المحلية.
وقد أنفق النظام مليارات الدولارات على شركات العلاقات
العامة، والتبرّعات للجامعات الغربية وتأسيس نخبة فكرية
لتعميم صورة (الاعتدال، والتحديث، والعدل).
وبالسيطرة على المناصب العليا في الجامعات ومراكز الإستشارة
بالنسبة لصانعي السياسة الغربية، ـ ومن المثير أن النظام
يركّز على الغرب فحسب، وخصوصاً الولايات المتحدة أكثر
من تركيزه على القوى الناهضة مثل الصين، والهند وروسيا
ـ وقد اشترت الحكومة السعودية لنفسها درعاً فاعلاً ضد
الإنتقادات الدولية. ونفس الشيء يقال عن الإعلام الغربي
منذ أن سمح له بالوصول الى السعودية، ولكن على أساس إنتقائي،
حيث يتم اختبار بعضهم بصورة حذرة قبل اختيارهم للتأكّد
بأنهم متوافقون مع الرواية الرسمية.
يضاف إلى ذلك، فإن القوة الإقتصادية السعودية، وخصوصاً
في شراء أنظمة أسلحة بتكنولوجية متطوّرة، قد جعلت الحكومات
الغربية متحمّسة للإحتفاظ بـ (علاقة خاصة) مع المملكة.
وعلى أية حال، فإنه بدلاً من برنامج بناء وطن حقيقي
مع دور حقيقي للمثقفيين السعوديين، يظهر آل سعود أكثر
نجاحاً في تسويق رؤيتهم عن السعودية للقوى الغربية. بإمكانهم
فعل ذلك، لأنهم أسكتوا أو استوعبوا المثقفين.
وكوني أكاديمية، لم يجر احتواؤها ولست معارضة، تعرّضت
لأشكال مختلفة من الرقابة على كل شيء أقوم بنشره.
أمضت إدارة بوش في السنوات الخمس الماضية الوقت في
التلويح براية الديمقراطية في الشرق الأوسط. ولكن الولايات
المتحدة ليست كما هو واضح معنيّة بتسوية المشاكل الحقيقية
لشعوب المنطقة، وبالتأكيد ليس على حساب استقرار حلفائها.
ولذلك، واصلت تنفيذ سياستها الانتقائية الداعمة للأنظمة
التسلّطية التي تضمن مصالحها، جنباً الى جنب مع السعودية
كونها المستفيد الرئيسي. في منطقة مضطربة ومتطرّفة، تأتي
السعودية، بالرغم من تعصّب المؤسسة الدينية الوهابية المهيمنة
التابعة لها وسجّلها الحقوقي المزري وانعدام الشفافية
والمحاسبة، لتمثّل الحليف النموذجي.
ولكن، وكما أخبرني مثقف سعودي: (كنا نناقش الإصلاح
الديمقراطي منذ زمن طويل قبل أن يبدأ الأميركيون بالحديث
عنه، وسنبقى على ذلك طويلاً حتى بعد أن فقدوا الإهتمام
به). ليس لدى معظم المثقفين السعوديين اعتراض على الحماية
الأميركية للنظام السعودي، ولكن يطالبون بكسر الرابطة
بين الدفاع عن السيادة الدولية والقمع المحلي بإسم (محاربة
الإرهاب). وفي واقع الأمر، تم اعتقال عديد من الإصلاحيين
في فبراير 2007 بتهم تمويل الإرهاب وبقوا بدون تمثيل قانوني،
وهو تكتيك جرى اعتماده لتمكين، جزئياً، صانعي السياسة
في الولايات المتحدة الذين يتجاهلون إنتهاكات العدالة
بإسم الأمن.
وقد ساهم الإنترنت في زيادة الطلب الشعبي على الحقوق
السياسية، بما في ذلك التمثيل الديمقراطي الذي تنكره تاريخياً
أبوية الدولة.
ولا يمكن أن تغلق حدود المملكة على الناس الذين يشاهدون
بحماسة عالية قناة (الجزيرة) القطرية ونظيراتها، قناة
(العربية) المموّلة سعودياً. ومن الناحية الرسمية، فإن
قناة الجزيرة ممنوعة في السعودية ولكن العربية ما زالت
تبث تقارير عن الإنتخابات في الكويت والمناظرات الديمقراطية
في بلدان الخليج الأخرى. وقد تكون الإستراتيجية من أجل
خلق انطباع لدى السكان في السعودية بأن الآخرين مختلفون
كثيراً حيث ليس لديهم مكة والمدينة، ولذلك فإن الإٌصلاح
السعودي يجب أن ينظّم ويهندس بصورة حذرة كيما يتوافق مع
خصوصية البلد الذي خصّ بمسؤولية عظيمة برعاية الأماكن
المقدّسة.
ولكن بدلاً من ذلك، فإن العولمة لا تعترف بهذه القداسة
الإنتقائية. فللعولمة تأثير تدميري على المملكة التي حدّدت
نسختها الخاصة بها من التقاليد والدين.
ونخلص مما سبق، هناك دون ريب مثقفون بعقلية ديمقراطية
في السعودية ولكنهم يواجهون عقبات متنوعة. فهم يدركون
إمكانية حرية أكبر للكلام، ولكن كثيراً منهم تعرض للترهيب،
والفصل من الوظيفة، والتهديد بفتاوى الموت، واعتقلوا أو
جلدوا. وهناك صراع محتدم يدور بين الحكام والمحكومين.
وقد مدّدت العولمة الفضاء بالنسبة للمثقفين، وأن الحكام
يقومون بعمل الحرس الأمامي لاستعادة المنطقة الخارجة عن
سيطرة الدولة. ولكن السؤال: إلى متى يمكنهم فعل ذلك؟ وماهو
الثمن المطلوب دفعه؟
|