فرقة عبد الله والحريات
سعدالدين منصوري
نشرت صحيفة (عكاظ) السعودية في عددها الصادر (السبت
24/11/1429هـ) الموافق 22/نوفمبر/2008 توجيهاً ملكياً
ينص على (ضرورة الإلتزام بما نصّت عليه الأنظمة والتعليمات
من كفالة حقوق الإفراد وحرياتهم، وعدم اتخاذ أي إجراء
يمس تلك الحقوق والحريات إلا في الحدود المقررة شرعاً
ونظاماً. وجاء في التوجيه الملكي لجميع الوزارات والمصالح
الحكومية وإمارات المناطق، بأنه سيتم العرض على متخذ الإجراء
عن أي إجراء خاطئ يمس تلك الحقوق أو الحريات لتصحيحه،
وتحمّل مسؤولية ما قد يقع من تجاوزات في حالة عدم القيام
بذلك). وشدد التوجيه (على إبلاغ جميع الإدارات والفروع
والأقسام كل فيما يخصه بوجوب التقيد بهذه التعليمات).
وقال المقرّبون من الملك عبد الله بأن التوجيه الكريم
يتوافق مع مضمون المادة (7/ج) من نظام المناطق في شأن
كفالة حقوق الأفراد وحرياتهم.
قبل كل شيء، لابد أن نمعن النظر في عبارات التوجيه
الملكي، فقد عوّدتنا الأوامر والتوجيهات السابقة على أن
ثمة ألفاظاً غامضة ومفتوحة على تأويلات متعددة، ولعل أبرزها
عبارة (المقررة شرعاً ونظاماً). وحينما تصبح الحقوق والحريات
مقيّدة بالشرع والنظام، فنحن إذن أمام إشكالية كبرى، لأن
ما جرى من انتهاكات طيلة العقود الماضية كان يتم بإسم
الشرع والنظام. وليس الشرع هنا سوى الإجتهادات الفقهية
لدى علماء المذهب الوهابي، وليس النظام سوى التشريعات
الصادرة عن الدولة، فحينئذ يتطابق مصدرا الحل والمشكلة
معاً، فكيف يرجى من صانع المشكلة حلاً؟
من جهة ثانية، ألا يعني نص التوجيه الملكي إصراراً
على السير وفق نهج كان ومازال مسؤولاً عن انتهاك الحقوق
والحريات، وبالتالي فإن التوجيه لم يأت بجديد، فلن يحدث
أدنى تغيير، سوى أنه صالح للاستعمال الإعلامي خارجياً.
فهل يستحق تصريح الملك عبد الله بشأن حقوق وحريات الأفراد
كل ذلك التطبيل والتزمير، أم أن هذه الاحتفالية تعبير
عن تغيّرات حقيقية على الواقع، وأن الملك جاد في توجيهه
الكريم، لأن هناك حاجة إلى عملية تزيين شامل للصورة السعودية،
ولا يمكن تقديم جزء جميل منها فيما لا تزال أجزاء قبيحة
تغطي مساحة كبير من الصورة.
أم الأمر غير ذلك، فالاحتفالية بالتوجيه الملكي عبارة
عن رغبة داخلية لدى أولئك الذي وجدوا في التصريح مبرراً
للكتابة عن موضوع يمثل بالنسبة لهم قلقاً دائماً بسبب
الإنتهاكات المستمرة لحقوق وحريات الأفراد فأفادوا من
كلام الملك كيما يشيعوا أجواء ضاغطة من أجل وقف التعديّات.
وربما هناك من الضحايا من أراد أن يقدّم التوجيه إما كورقة
إدانة أو درع وقاية من تداعيات جور أصابهم في أيام سابقة.
أم لا هذا ولا ذاك، فالتوجيه ليس سوى صوت عابر وتسجيل
موقف غير ملزم، كأن يراد القول أن هناك عملاً يجري في
مجال الحريات والحقوق، وعلى المنظمات الحقوقية أن تكتب
عن التوجيه الملكي في تقاريرها، باعتباره تطوّراً لافتاً
في مملكة نعتت خلال العقد الأخير وقبله بأوصاف (الشر)،
و(الصمت)، و(الكراهية) من قبل منظمات حقوقية دولية.
نشير هنا إلى أن عشرات ضحايا حرية الرأي والفكر مازالوا
خلف القضبان، ومئات من أمثالهم ممنوعون من السفر، أو مفصولون
من العمل، ومحرومون بحسب تعهّدات خطية من الكلام بحرية
لوسائل الإعلام. والسؤال بعد صدور التوجيه الملكي: أليس
حري به أن يبني مصداقيته فور لحظة صدوره بإطلاق سراح العشرات
الذين مازالوا في المعتقلات، أو الذين لم يحاكموا بتهم
جنائية وإنما سياسية، فما ذنب هؤلاء؟.
أليست الإجراءات الرحيمة التي أعلن عنها الأمير نايف
في كلمته أمام منسوبي الجامعة الإسلامية في المدينة المنورة
في 26 نوفمبر الماضي، حيال الموقوفين بتهم تتعلق بأعمال
إرهابية، من مساعدات مالية لهم ولعوائلهم، وتوفير فرص
وظيفية، وبناء مساكن لهم، كان حري بأن تشمل أولئك الذين
زجّ بهم في السجون والمعتقلات، فقط لأنهم مارسوا حرية
الفكر والرأي؟.
وبعد ذلك، لننظر في ضوء هذا التوجيه الملكي ماذا يجري
على الأرض، خصوصاً وأن سلسلة التقارير المتعاقبة عن حقوق
الإنسان في السعودية، قد كشفت عن أوضاع بالغة الخطورة.
فليس هناك فئة وطائفة وجماعة في هذا البلد إلا وتشكو من
الإنتهاكات السافرة والمثيرة للإشمئزاز لحقوقها وحرياتها،
كما تخبر عن ذلك التقارير الحقوقية الصادرة خلال السنتين
الماضيتين.
وليس هناك من مؤسسات الدولة السعودية إلا وتمارس الانتهاك
للحقوق والحريات، ومنها: هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن
المنكر، النظام القضائي، وزارة الداخلية، وزارة الإعلام،
وزارة التعليم..حتى باتت الحقوق والحريات أول الضحايا
وأبرزها في مملكة تشارك في أهم النشاطات الحقوقية على
مستوى العالم وآخرها حوار الأديان، بما يعنيه من حرية،
وتسامح، وتعايش بين المعتقدات..
لا ريب أن المراقبين للأوضاع الحقوقية في السعودية
ساءهم كثيراً اضطلاع الملك عبد الله بمهمة ليست من متبنيات
دولته ولا عقيدته السلفية الاستئصالية. وكان الأولى به
قبل أن يبشّر بحوار الأديان والذي اعتبره في لقاء مع رؤساء
تحرير الصحف المحلية (واجباً على كل إنسان وإنسانة) أن
يرسي أسسه في دولته قبل أن يسوّقه عالمياً. التقارير الدولية
عن الحريات الدينية في السعودية طيلة السنوات الخمس الماضية
لم تلحظ تغييرات جوهرية، فقد كانت نصوص التقارير متطابقة
لأن معدّيها لم يعثروا على ما يفيد بتحسّن ملحوظ في مجال
الحريات الدينية.
ويعتقد مراقبون بأن التوجيه الملكي جاء كرد فعل على
الانتقادات الواسعة التي تعرّضت لها السعودية على خلفية
مؤتمر حوار الأديان، والذي ينظر إليه باعتباره محاولة
خادعة من القيادة السعودية من أجل تغيير الإنطباعات السائدة
عن المملكة في العالم.
نشير هنا إلى ما ذكره تقرير صادر عن السفارة الأميركية
في الرياض الشهر الماضي عن الحريات الدينية في السعودية،
إذ جاء فيه: (أن الحكومة تحظر على الجمهور نشر تعاليم
الدين الإسلامي التي تختلف عن التفسير المقبول رسمياً
للإسلام). ويضيف (وبغض النظر عن التقاليد الدينية الشخصية،
يتلقى طلاب المدارس الحكومية من كافة المستويات التعليم
الديني الإلزامي الموافق لتفسير الحكومة للإسلم السني.
ويذكر أن الطلاب غير المسلمين في المدارس الخاصة غير مطالبون
بدراسة الإسلم. كذلك فإن الحكومة لا ترخص لغير المسلمين
والمسلمين الذين يتبنون تفسيراً للإسلام يختلف عن تفسيرها
بإنشاء المدارس الدينية الخاصة).
ويتساءل كثير من ضحايا الانتهاكات الدينية عن مصير
التوجيه الملكي، شأن توجيهات مماثلة، وهل سيدخل حيز التنفيذ
أم سيودع في الثلاجة أو ربما سلة المهملات ريثما يستنفد
أغراضه؟. ونحن بدورنا نتساءل هل أن الوزارات والمؤسسات
والهيئات المسؤولة عن انتهاك الحريات والحقوق ستلتزم بممليات
التوجيه، أم ستتعامل معه باعتباره موضوعاً خارجياً لا
يعنيها بشيء، وأنها قائمة على تطبيق ما ترى فيه مصلحة
خاصة؟.
تقرير الحريات الدينية عن الطائفة الإسماعيلية كان،
بحسب تصوّر كثير من المراقبين والباحثين، صورة مكثّفة
عن سلوك النظام السعودي الوهابي إزاء الجماعات الدينية
الأخرى في هذا البلد. فالتجارب المريرة التي عاشتها الجماعات
في ظل سياسات تمييز رسمية شاملة وجائرة، وردود الفعل المقاومة
لتلك السياسة أثبتت أن الحريات والحقوق لم تأت وفق إرادة
عليا بل كان القمع والسجن والتعذيب وربما القتل سبيلاً
وحيداً لإرغام الحكومة على احترام الحقوق والحريات الدينية
وإن جزئياً.
وكان الإحساس المتعاظم بالغبن والاضطهاد باعثاً على
نشاطات اعتراضية داخلية وخارجية من أجل تنبيه العالم إلى
ما يجري في مملكة النفط والصمت، ما يفضح أية محاولات لتضليل
الرأي العام العالمي. ولاشك أن تلك النشاطات وحدها التي
كانت دائماً عامل الضغط الفاعل على الحكومة السعودية.
حتى الآن، لا يبشّر التوجيه الملكي بمرحلة جديدة، فمازالت
الإجراءات القمعية ناشطة، ومازالت الاعتقالات العشوائية
جارية، بل مازال ضحايا الجور قابعين في المعتقلات دون
تمثيل قانوني ودن محاكمات عادلة، فكيف نقنع بجدوى التوجيه
الملكي، إن كان أول من يضرب عنه الذكر صفحاً هو وزارة
الداخلية ونظيراتها في القمع والقهر؟
وإذا كان التوجيه الملكي لم يقطع دابر قمع الحريات
الدينية والسياسية، فما جدوى صدوره، بل ما قيمة التفاؤل
به، فيما تثبث التجارب مرة تلو أخرى بأن لا سبيل لضمان
وإقرار الحريات إلا بالعمل الإحتجاجي الشعبي، وهو وحده
السبيل الذي يرغم الدولة السعودية على التنازل. إن الخيارات
الناعمة ممثلة في كتابة عرائض، والمناشدات، واللقاءات
الوديّة، والتظلّمات لم تسفر عن تغيير من أي نوع، بل على
العكس فقد منحت أجهزة القمع جرأة على استعمال أقصى الخيارات
وأقساها مع المطالبين بالحرية والعدالة والمساواة. في
تجربة التيار الإصلاحي الذي نشط مجدداً في يناير 2003
ما يرسّخ قناعة سابقة بأن هذه الدولة لا تملك قابلية التسويات
الوديّة والقانونية، لأنها قائمة على نقيضها، فلم تكن
في الأصل دولة حريات حتى إذا تعرّضت حرية فئة للإنتهاك
تمت معالجتها بطريقة قانونية أو عبر اللجوء للقضاء، فليست
بهذه الطريقة كانت تسوّى مشكلات الأفراد والجماعات، وإنما
كان الأمر يتطلب على الدوام عملاً جراحياً، أي انتفاضات
شعبية أو حركات تنظيمية إعتراضية، أو نشاطات سياسية إحتجاجية
محلية وخارجية، رغم ما يتخللها من أشكال قمع وقهر متنوّعة.
أولئك الذين يباركون التوجيه الملكي الجديد قد يكونوا
من غير المضطّهدين وبالتالي هم من فرقة الطبّالين الذين
يعملون في وظيفة (تلميع) الصورة الشوهاء للعائلة المالكة
وللدولة السعودية بصورة عامة، وبالتالي فهم غير معنيين
بتجسيدات التوجيه الملكي إن كانت لصالح المتضررين أو لسواهم.
لا يجب القبول بدخول الحرية في بازار التوجيهات الملكية
ولا المزايدات الإعلامية، وليس المعتقلون الذين يتضوّرون
ألم الحبس، وألوان التعذيب النفسي والجسدي بانتظار خدعة
جديدة نساهم جميعاً في تمريرها عليهم، وقد تشكّل غطاءً
جديداً لمزيد من وجبات القمع ضدهم، تحت مسوّغ التوجيه
الملكي.
كما لا يجب أن نفصل بين التوجيهات الملكية وأداء الدولة
بصورة عامة، فقد أدمن السكّان على السماع عن توجيهات فارغة
في المضمون وأحياناً في الشكل والمضمون حتى صاروا يعرفون
مدة صلاحية التوجيه ولأي غرض يستعمل. ولذلك، إن موضوعة
الحرية كما قضية المعتقلين السياسيين ومعتقلي الرأي والضمير
لا تتطلب توجيهاً ملكياً قابلاً لأن يوظف سياسياً في الخارج،
ولكن تتطلب تحرّكاً شعبياً يرغم الدولة على وقف تام لكل
أشكال الانتهاك لحريات وحقوق الإنسان، بصرف النظر عن انتمائه
المذهبي والسياسي والإجتماعي، ولا يمكن تحقيق ذلك إلا
بتحرير الدولة من القيود التاريخية والمذهبية والتي مازالت
تحول دون توفير شروط انتقالها إلى دولة وطنية حقيقية.
فالحرية لا تنمو في بيئة تشجّع على التمييز بين السكّان،
وتقسّم الأرزاق على أساس إنتماءاتهم القبلية والمناطقية
والمذهبية.
وماجرى في نجران، ليس استثناءً في مجال الحريات والحقوق،
بل هو القاعدة في المشكلة والحل سواء بسواء، مع التذكير
بأن الحل لا يكون باستبدال أمير مكان آخر، طالما أن أسس
المشكلة لا تزال كما هي عليه، وترتبط بسياسات الدولة وبرامجها
وخططها التنموية، والتعليمية والبيروقراطية. هذا يعني،
بكلمات أخرى، أن مشكلات الحرية والحقوق في هذا البلد لا
يحسم أمرها توجيه ملكي، بل منظومة تغييرات جوهرية في بنى
الدولة كيما تكفل الأخيرة حقوق وحريات السكّان، والذين
يرجى تحوّلهم مواطنين متساويين في الحقوق والواجبات.
|