دور علماء الوهابية..
جدلية الديني والسياسي في الإصلاح
محمد فلالي
من المشروع أن نسأل عن حقيقة دور علماء الدين في العملية
الإصلاحية سلباً كان أم إيجاباً، خصوصاً وأن كلاماً كثيراً
يدور على ألسنة الناس، وخصوصاً الإصلاحيين عن أن علماء
المؤسسة الدينية يتحمّلون الجزء الأكبر من مسؤولية إعاقة
عملية الإنتقال الى الديمقراطية، فيما لا دليل أو أدلة
ملموسة سوى ما قرأه الناس في الكتب عن معارضة العلماء
لإدخال بعض المنتجات الحديثة في بنية الدولة، أو الإعتراض
على سن قوانين جديدة مخالفة للشريعة..وكل ذلك صحيح، ولكن
هل ما يقال صحيح أيضاً عن أن عالماً أبدى اعتراضه على
الإنتخابات، أو المؤسسات الأهلية، أو الحريات العامة المنضبطة..أم
أن ما يقال لا يعدو ترجيعاً لصدى عبارات كان الأمراء يسرّون
بها إلى بعض زوّارهم الذين يعبّرون لهم عن الرغبة في الإصلاح،
فيسمعون كلاماً من قبيل، أن العائلة المالكة تطمع في القيام
بإصلاحات ولكن العلماء هم من يعطّلون تلك الرغبة، تماماً
كما كانوا يحمّلون المجتمع مسؤولية تخلفه..
لا يعني ذلك بتاتاً، أن العلماء يجنحون للإصلاح، بمعناه
السياسي، أو يمكن أن يضطلعوا بالتنظير له، فضلاً عن قيادة
مسيرة الإصلاح، فتلك رغبة لا تتحقق دونما إحداث تغييرات
جوهرية في بنية تفكير العلماء أنفسهم، ولكن السؤال هنا:
هل للعلماء دور حقيقي في شؤون الإصلاح المتّصلة بالسلطة؟
سؤال كهذا يفترض أن ينبني على سؤال آخر وهو: هل يتقاسم
العلماء السلطة مع أمراء العائلة المالكة؟
وفق مقتضيات التحالف التاريخي بين الشيخ محمد بن عبد
الوهاب والأمير محمد بن سعود، أن الشؤون الدينية تكون
للأول وسلالته من بعده، وتكون الشؤون السياسية للثاني
وسلالته من بعده، وكان يعني ذلك من حيث المبدأ وضع حد
فاصل بين السلطتين الدينية والزمنية، ولكن التجارب اللاحقة
كشفت عن تداخل بين السلطتين في أحيان كثيرة، وبعد قيام
الدولة السعودية الحديثة سنة 1932، باتت سلطة العلماء
خاضعة للسلطة السياسية، التي تهيمن على نشاطاتهم، ومصادر
تمويلهم، وحتى تشكيلاتهم الإدارية..ما جعل العلماء مجرد
جزء من بيروقراطية الدولة. فقد رضخوا لمعادلة تبقي على
القدر المسموح من سلطة دينية يمارسون عبرها أدواراً دعوية
وإرشادية في المجتمع..
بات من الضروري الإصغاء الى المناقشة الهادئة التي
أثارها ابراهيم السكران في موقع (السعودية تحت المجهر)
على شبكة الإنترنت في العاشر من أكتوبر الماضي، تحت عنوان
(الاصلاح في السعودية..ليس مسألة فقهية). وتنبع أهمية
مقالة السكران من كونها تنبّه إلى نقطة قد تبدو مهملة
في أغلب المناقشات التي تجري حول الإصلاح السياسي، من
زاوية ما يقال عن دور تعطيلي للعلماء فيه. ويرى السكران
بأن ما يقال عن أن الإصلاح السياسي يتم عبر بوابة الإصلاح
الديني، تأسيساً على تجربة أوروبية سابقة أو كتابات سياسية
ودينية، من قبيل (طبائع الأستبداد) للكواكبي، ليس سوى
تصويراً نمطياً لمشكلة يراد لها أن تخرج على هيئة قضية
شرطية (إذا حدث كذا صار كذا). وبسبب إخفاق العلماء في
الخروج بصورة نزيهة أمام غالبية السكّان في هذا البلد،
بفعل ليس تشدّدهم الديني وخضوعهم لإملاءات السلطان، ولكن
لأنهم دمّروا كل إمكانيات الجذب والإستقطاب وسط الفئات
الإجتماعية التي نالت من فتاوى التكفير على خلفية مواقف
مذهبية أو أيديولوجية، الأمر الذي خلق انطباعاً عاماً
بأن علماء المؤسسة الدينية الرسمية هم المسؤولون عن تعطيل
كل أشكال التغيير في البلاد، وزاد عليها سلوك مؤسسات وشخصيات
على صلة وثيقة بالعلماء، من قبيل هيئة الأمر بالمعروف
والنهي عن المنكر، التي أسرفت في تشدّدها خلال السنوات
الأخيرة، وكشفت تجارب الغارات التي يشنها رجال الهيئة
تحت عنوان (الخلوة غير الشرعية) أو منع المنكر، وتحذير
الناس من الوقوع في الحرام والشبهات، حتى أن بعض من وقع
تحت أيديهم قد فارق الحياة..
لاشك أن الحديث عن نهضة دينية تمهّد السبيل لنهضة سياسية
هو حديث العربة والحصان، أو البيضة والدجاجة، إذ أن هذا
التوالي الإفتراضي يصدر عن عقلية مناكفية وتعطيلية، أي
لأن العائلة المالكة لا تعزم على السير في طريق الإصلاح،
ولا تنوي حتى القبول المبدئي بمناقشته حيثياته، فإنها
ترمي بكرة اللوم على غريمها الودود، أي العلماء..ولأن
الناس كرهت سلوك رجال الدين بسبب تشدّدهم، فقد قبلوا بل
وزادوا على منطق السلطة في تحميل العلماء كل مشاكل المجتمع
الإجتماعية والإقتصادية والسياسية، فيما تهنأ العائلة
المالكة بأنها لم تصب بأي سوء من ذلك كله..
|
حين توفي العالم الكبير السيد محمد علوي المالكي، بادر
الأمراء الى حضور مجالس العزاء في الحجاز، ما يعطي انطباعاً
بأن ليس هناك من مشكلة بين العائلة المالكة وأهالي الحجاز،
وإنما المشكلة مقتصرة على علماء متشدّدين..لا يهم الأمراء
سمعة العلماء، فهم جزء من آلية التوظيف السياسي، وإذا
ما احتملت ولو نسبة ضئيلة من الخسارة فإن لا العلماء ولا
غيرهم في هذا البلد يمكن تقديره حق قدره..ويقال بأنه حين
كان يشكو رجال الشيعة في المنطقة الشرقية من سياسة التمييز
الطائفي، كانوا يسمعون كلاماً موحّداً من الأمراء الكبار،
بمن فيهم حليف العلماء الأمير نايف، بأن تلك ليست سياسة
من الدولة ولا تمثّل وجهة نظر العائلة المالكة، ولكنها
مواقف وتصرّفات من قبل العلماء المتشدّدين..
ينقل عدد من شخصيات الحجاز ونجران والإحساء بأن زيارة
أي من علماء المؤسسة الدينية الكبار يتطلب أحياناً إذناً
من الأمراء الكبار مثل سلطان ونايف وسلمان، حتى قيل بأن
المفتي السابق الشيخ بن باز كان يسأل ضيوفه إن كانوا قد
حصلوا على إذن بالموافقة من هؤلاء الأمراء باللقاء به،
ومن المعروف أن رئيس مجلس القضاء الأعلى الشيخ صالح اللحيدان
مازال يأتمر بما يقوله الأميران سلطان ونايف.
في عهد الملك فهد، وبالرغم من الحظوة التي وهبها للعلماء،
فإنه كان كثيراً ما يهجم عليهم ويشتمهم، ولا يملكوا من
أمرهم سوى الترجيع والتعويذ، وقد غضب على أعضاء في هيئة
كبار العلماء بعد تصاعد نشاط مشايخ الصحوة، فأجبرهم على
تقديم الإستقالة، ووضع آخرين مكانهم..
المفتي الحالي، وبالرغم مما يقال عن أنه يتشبّث بموقفه
المبدئي ولا يكترث للنتائج، فإنه بقي ملازماً للملك عبد
الله مشرعناً لمؤتمراته، وخططه، وسياساته..بعد ذلك، لنعود
ونتساءل مع السكران حول دور علماء المؤسسة الدينية في
ملفات الدولة، فهل العلماء هم اللاعب الأساسي في ملف التنمية،
وهل البعد الديني في الأصل على صلة حميمية بهذا الملف؟
نعم إذا أريد اختزال التنمية والإصلاح في قضايا مثل (قيادة
المرأة، وبطاقة المرأة، وتوسيع الاختلاط، والحفلات الموسيقية،
والسينما، وحرية التجديف السردي، الخ) بحسب السكران فهنا
تصبح القضية دينية، بالرغم من أن البعد السياسي ليس مستبعداً،
فقد اعلن الأمير نايف مرات عدة بأن قيادة المرأة للسيارة
مخالف لأحكام الشرع، ولم يقل ذلك اعتماداً على فتاوى علماء،
كما أن إقرار المقترح بالسماح للمرأة بقيادة السيارة لم
يناقش في مجلس (هيئة كبار العلماء)، وإنما في مجلس الشورى،
الذي تداول أعضاؤه الحديث فيه وأصدروا لائحة أولية لتنظيم
العملية.. وكذلك السينما، فقد كانت قضية سياسية قبل أن
تكون دينية، لأن الأمراء يمقتون التجمّعات، ولولا ما ترجوه
العائلة المالكة من الرياضة لمنعتها بكل صنوفها الجماعية..صحيح
أن فساد العائلة المالكة المالي والأخلاقي قضية منبوذة
دينياً وإجتماعياً، وليست متوقفة على موقف محدد من العلماء،
إلا أن للأخيرين مطلق الحق في وضع ضوابط أخلاقية على ممارسات
الدولة وسياساتها خصوصاً تلك التي تعرّض قيم المجتمع وتراثه
للإنتهاك..
ولكن أن يقال مثلا، بحسب السكران، أن قضايا التنمية
والإصلاح مثل (الإسكان، والتعليم، والصحة، والمواصلات،
والتضخم، والدين العام، والفساد الاداري، الخ) هي مورد
اعتراض العلماء، وهم من يقفون ضد إمكانية وضع حلول لها،
فذلك تبرير غير مسبوق..نعم، قد يرى بعض العلماء بأن الإصلاح
السياسي بالطريقة المقترحة من قبل قوى سياسية مثل حركة
الإصلاح الدستوري، أو التي تدعو الى شراكة شعبية في صنع
السياسات والبرامج المتعلّقة بالدولة، بأن ذلك يتعارض
مع مبدأ ولاية الأمر، التي خصّصت، بحسب تفسير ما، بالأمراء
والعلماء معاً، ولكن هل يعني ذلك رفض علماء المؤسسة الدينية
لمطلق الإصلاح السياسي؟
لاشك أن الصورة التي يرسمها السكران تتسم بالواقعية
نسبياً، وهي تعبّر عن مشكلة المواطن التي تتطلب حلاً جذرياً،
ولا دخل للعلماء في التسبّب بوقوعها. يقول : يشارف الفرد
السعودي اليوم على التقاعد وهو لم يتمتع بمسكن خاص.. وحين
يصل الابن لمرحلة الثالث ثانوي تعلن حالة الطوارئ بحثاً
عن قبول جامعي.. وحين يتخرج شقيقي تبدأ العائلة كلها في
استجداء كل العلاقات حتى الجد العاشر بحثاً عن واسطة توفر
له أية وظيفة .. أية وظيفة .. وحين تمرض والدتي لا ألجأ
إلى الواسطة فقط .. بل ألجأ إلى (الواسطة بالأسانيد) يعني
واحد يعرف واحد، وهالواحد يعرف آخر، لين نصل إلى شخص مقرب
من مدير المستشفى ليوفر لها سريراً.. وتنخفض القوة الشرائية
لراتبي مقابل ازدياد قيمة السلع .. وراتبي هو هو لم يتغير
.. وتزداد الطرق كل صباح اختناقاً مرورياً ..
ويمضي السكران في رسم الصورة اليومية لحياة المواطن:
ويتناقص الأمن بصورة مرعبة تبدأ بالأحياء الفقيرة والمكتظة
حتى تصل إلى أحياء الطبقات الوسطى.. ليصبح كسر السيارة
والتهام كل محتوياتها بما فيها حاسوبك الشخصي الذي يحوي
كل ملفاتك وأعمالك أمراً عادياً لايستدعي من الضابط الذي
يتلقى البلاغ إلا أن يشعرك ببرودة أن قضيتك عادية جداً،
وتصير كل يوم كم مرة، ولاتكبر الموضوع يعني..
وأكثر ساعات قراءتي هذه الأيام تكون في اليوم الذي
أراجع فيه وزارة من الوزارات.. لأن ساعات الانتظار الطويلة
تتسع لجرد أغلب الكتاب ومشاهدة المارة بالقدر الكافي جداً..
وحين أصل المطار قبل نصف ساعة .. يشيح الموظف بوجهه
عني ويقول 'الرحلة قفلت'.. وفي الرحلة التي بعدها يؤخروننا
ساعة كاملة لأن أحد أبناء الذوات اتصل بهم من جواله الشخصي
وقال إنه في الطريق ..
بالله ياسادة .. إشرحوا كيف استطاع الصحيحان وابن قدامة
وابن تيمية خلق كل هذه الأزمات؟
ويخلص للقول بأن (أكبر خديعة معاصرة ابتلعها الشاب
السعودي المثقف هي إيهامه أن مصادر التراث هي التي صنعت
أزمة التنمية!) ويضيف (وهذه الخديعة بالذات هي أكبر خدمة
تلقاها المتنفذون على مر تاريخنا المحلي ..حين يستطيع
المتنفذون تصريف طاقة النضال في الشاب من الشجاعة في الصدع
بالحق في وجوه الظلمة إلى الشجاعة في التجرأ على عقيدة
المجتمع ذاته.. فهذا مكسب سياسي لامحدود.. فأفضل وسيلة
للاحتفاظ بالنفوذ (تغذية النزاعات الخفيفة المحدودة والمحكومة
استراتيجياً) كما كان يقول العم كيسنجر (Low intensity
conflicts).
ولذلك فإن التصوّر الشائع حول العلماء والمشايخ بأنهم
قادرون على تحريك خيوط اللعبة كلها.. وأنهم لو ضغطوا باتجاه
ما.. لسارت الدولة في هذا الاتجاه .. وتفريعاً على تغولهم
السياسي هذا فالمسؤولية مسؤوليتهم .. وأن المشائخ لو أججوا
الشارع للمصالح الشعبية لتحققت ثورة نهضوية، ونحو هذه
التصورات البسيطة جداً ..
ويرى بأن ذلك تصوّر طفولي، لأن الدارس للحالة السعودية
يوقن بأن (الدولة هي اللاعب الرئسي والحقيقي..وأن كل القوى
الأخرى ثانوية جداً). ويرصد السكران قضايا عارضها العلماء
وصارت واقعاً ملحوظاً: مثل المعاملات الربوية والبنوك
الربوية، التنباك والشيشة، الحفلات الغنائية، عقود التأمين
التجاري الذي أصبح إجبارياً، توسعة المسعى..
إذا كان الحال كذلك، يصبح السؤال مشروعاً: أين يكمن
إذاً نفوذ العلماء؟ فإذا كان هذا النفوذ لم يأتٍ أكله
في الموضوعات ذات الطابع العقدي، فهل سيأتي أكله في الموضوع
السياسي الذي هو في الأصل حكراً على آل سعود وحدهم دون
بقية خلق الله في هذه الأرض.
ليس في ما قلناه هنا تنزيهاً لدور العلماء في العملية
الإصلاحية، لإدراكنا في ضوء التجارب السابقة جميعاً بأن
رؤيتهم في الإصلاح تتعارض جزئياً أو ربما كلياً مع رؤية
غالبية الإصلاحيين، ولكن أن يتم تحميل العلماء مسؤولية
التعطيل، لتخرج العائلة المالكة سالمة بل ومتبجّحة بأنها
سبقت المجتمع بمراحل في تفكيرها الإصلاحي فتلك كذبة سوداء.
|