رواية فشل التسوية مع الذات
عودة القاعدة.. أم استمرار تدفق منابع التطرف
عبدالحميد قدس
قلنا بأن من تشتغل (لجنة المناصحة) على تعطيل نزعة
التطرّف، في شكله العنفي، لديهم، مصابون بذات الداء، سوى
أنهم لا يحملون السلاح، ولكنهم يحملون الفكر الذي يمهّد
السبيل للحصول عليه واستعماله، وستبقى الحلقة المفرغة
كذلك حتى يصحو الجميع على منهجية علاج ليست مصابة بعدوى
المرض نفسه. ما أتقنته اللجنة خلال السنوات الماضية، أنها
حرفت وجهة السلاح، ولم تسقطه بصورة كاملة، فبدلاً من توجيهه
للداخل، صار يتجّه للخارج، وبدلاً من الدخول في مراجعة
شاملة للتراث الفكري المسؤول عن التحريض على العنف، أصبح
الهدف يحوم حول تجميد العنف ضد الدولة، وتأجيل الصدام
المسلّح مع فئات المجتمع، باعتبار أن المصلحة تقتضي ذلك.
بعد صمت طويل نسبياً، وإطمئنان كاذب، وتمويه مقصود
حول قوائم المطلوبين من عناصر القاعدة، بحجة التخطيط لضرب
منشآت نفطية، أو مصالح حيوية في البلاد، بدأت تظهر بوادر
الإخفاق مجدداً في وضع نهاية حاسمة للتنظيم الجهادي في
المملكة. ربما لم يلتفت كثيرون الى جديّة بيانات وزارة
الداخلية السابقة حول اعتقال عشرات ومئات العناصر من التنظيم،
كونها تندرج في إطار حملات التهويل المفتعلة لتحقيق مآرب
سياسية أو أمنية معينة، ولربما من أجل إيصال رسالة لرعاة
(الحرب على الإرهاب) بأن المملكة تتعاون بكل ما أوتيت
من إمكانيات في قطع دابر العنف، وقد تكون غطاء لتبرير
تدابير أمنية كانت أجهزة الأمن تقوم بها طيلة السنوات
الماضية. ولكن ما لفت الإنتباه مؤخراً، وخصوصاً بعد خروج
بعض المعتقلين السعوديين من جوانتانامو من السجن، والمتزامنة
مع عودة عناصر أخرى من جبهات أفغانستان وباكستان والعراق،
وخروج آخرين من السجون السعودية، بالرغم من خضوعهم الى
برنامج المناصحة الذي وضعته وزارة الداخلية، أن ثمة ما
يستحق الإهتمام.
لم تشأ أجهزة وزارة الداخلية أن تتحمّل مسؤولية إستئناف
التنظيم القاعدي في السعودية لنشاطه، وكان واضحاً الإشارات
المقصودة في بيانات مسؤولي الأمن الى جهات خارجية، باعتبارها
المسؤولة عن عودة التنظيم. ولم يكن مستغرباً، أن تشفع
وزارة الداخلية بيانها حول قوائم المطلوبين بأنهم على
صلة بالخارج، جماعات أو جهات دولية أو حتى فكر مستورد.
بيان وزارة الداخلية الصادر في الثاني من فبراير تضمن
قائمة بأسماء 83 عنصراً مطلوباً، في خارج المملكة من بينهم
معتقلون سابقون في سجن جوانتانامو. حين توضع الجملة الأخيرة
مع جملة (أن هؤلاء تبنوا الفكر الضال) تصبح القضية في
عهدة جهة مجهولة، حيث ينسب الفكر الضال الى خارج البلاد،
تماماً كما هو مكان اعتقال كثير منهم. عشرة من بين قائمة
المطلوبين كانوا من العائدين من معتقل جوانتانامو.. وتسعة
آخرين كانوا من بين من خضع لبرنامج (المناصحة) قد تم اعتقالهم
مؤخراً.
ويأتي بيان وزارة الداخلية بعد يومين من إعلان جناح
القاعدة عن تعيين سعوديين إثنين أفرج عنهما من سجن جوانتانامو
في مركز القيادة. لم يكن هذا وحده الدافع وراء صدور بيان
الداخلية، بل سبقته معطيات أخرى لافتة، من بينها إصدار
تنظيم القاعدة في اليمن تسجيلاً مصوّراً على شبكة الإنترنت
أعلن فيه عن تغيير إسم التنظيم الى تنظيم القاعدة في الجزيرة
العربية، بحيث يضم عدداً من فروع التنظيم في المنطقة،
الأمر الذي أثار مخاوف من عودة القاعدة بزخم أكبر في المرحلة
القادمة، خصوصاً بعد تهديد قائد التنظيم في اليمن أبو
بصير الوحيشي بشن هجمات ضد الغربيين في المنطقة. وظهر
السعوديان سعيد الشهري، ومحمد العوفي في تسجيل على الإنترنت
يرتديان حزامين ناسفين ويحملان أسلحة، وأعلنا عودتهما
لتنظيم القاعدة، وتعهدا بمواصلة (الجهاد)، والشهري هو
نائب زعيم تنظيم القاعدة في اليمن، أما العوفي فهو القائد
الميداني للتنظيم. مسؤول الداخلية قال لصحيفة (الحياة)
في 4 فبراير بأن نائب أمير التنظيم سعيد الشهري الذي كانت
السعودية تسلّمته ضمن الدفعة العاشرة من معتقلي غوانتانامو،
وأطلق سراحه بموجب حكم قضائي، وظهر لاحقاً في الشريط المصوّر،
لا يمتلك القدرات والعلاقات التي تمكّنه من تحمل مسؤولية
القيادة، وقال بأنه (لا يملك العلم الشرعي الكافي، ما
مكن قوى الشر من التغرير به وزميله محمد العوفي بكل بساطة
وسهولة). لا يمكن بطبيعة الحال الوثوق بتصريح من هذا القبيل،
كونه أولاً ليست الحالة التي يظهر فيها عناصر سعودية كانت
قيد الإعتقال وتحت إشراف ومتابعة (لجنة المناصحة)، في
مواقع قتالية في الخارج.
لا تبدو محاولات الإغراء التي تتبعها وزارة الداخلية
في استدراج عناصر التنظيم في الخارج للعودة الآمنة الى
الديار، أنها ذات مفعول كبير، بدليل أن بعض من سلّموا
أنفسهم ظهروا في مواقع قتالية أخرى سواء في العراق أو
لبنان أو أفغانستان، فمن تربى على الفكر الجهادي لا يمكن
أن يتخلى عن مسؤولياته الدينية بسهولة ما لم يحصل على
جرعة دينية مضادة. فبرامج إعادة التأهيل من قبل رجال الدين
لم تصحّح كثيراً من أفكار الذين عادوا بقدر ما أوقفت عملهم
برهة من الزمن، فقد اعترفت الداخلية في يناير الماضي بأن
بعض الذين أفرجت عنهم عادوا للإنضمام الى جماعات متشدّدة،
وأن تسعة منهم أعيد اعتقالهم، ومنهم معتقلون سابقون في
جانتانامو. فالذين كانوا في معتقل جوانتانامو لم يخرجوا
منه للعيش في دول أخرى، بل تم تسليمهم الى بلادهم، ولا
نشك في أن وزارة الداخلية ولجنة المناصحة قد أمضيا وقتاً
طويلاً مع العائدين للتحقيق والتثبّت وإعادة التأهيل قبل
قرار الداخلية بالإفراج عنهم، فلماذا يصرّ بيان الداخلية
على أنهم كانوا من معتقلي غوانتانامو، دون أن يأتي على
ذكر المرحلة اللاحقة، التي قضى فيها هؤلاء شطراً من حياتهم
بين أيدي رجال الأمن وأعضاء لجنة المناصحة..ولماذا يشار
إلى إخفاق غوانتانامو ولا يشار إلى إخفاق جهتين مسؤولتين؟
أم أن الأمر لا يعدو كونه مناكفة إعلامية ومكابرة على
فشل بات واضحاً بالصوت والصورة.
من اللافت أيضاً، أن وزارة الداخلية مازالت تصرّ على
توجيه أصابع الإتهام لجهات خارجية، فقد أصبح الخارج سيداً
على الداخل، حتى يخيل لمن يقرأ بيانات الداخلية وكأن سيادة
الدولة باتت مستباحة، بما يجعل قطاع كبير من السكّان خاضعاً
تحت تأثير ممليات خارجية، وثقافة خارجية، وقيادات خارجية..فماذا
بقي من السيادة إذاً؟ في الثالث من فبراير، زعم مصدر في
وزارة الداخلية بأن العناصر الأربعة الذين ظهروا في أواخر
شهر يناير الماضي في شريط مصوّر وأعلنوا إعادة إنشاء تنظيم
(القاعدة في الجزيرة العربية)، ماهم إلا (وجهاء لأفرقاء
دوليين آخرين)، ولم يوضّح من هم الوجهاء والأفرقاء الدوليين.
هل يراد من ذلك مثلاً إحباط أية تكهّنات قد يضعها المراقبون
في هذا الشأن، أم أنها رسالة لجهات ما كيما تستدرج للتعاون
أو الرد من الأطراف المقصودة، أم أن الأمر غير ذلك تماماً
أي كونه متعلقاً بأسلوب اعتادت عليه وزارة الداخلية في
الهروب من المسؤولية.
ما تشير إليه التطوّرات الأخيرة، أن فصلاً جديداً من
التعاون بين فرعي التنظيم في اليمن والسعودية، بل وتقاسم
مركز القيادة بين أعضاء التنظيمين. ما حاول مسؤول الداخلية
إثارته بشأن خلافات سابقة داخل تنظيم الجهاد في جزيرة
العرب حول مركز القيادة بين عبد العزيز المقرن السعودي
وخالد حاج اليمني، وعلى فرض وجوده فهو مرتبط بوحدة التنظيم
القاعدي في السعودية في المرحلة السابقة، أما الآن فالحديث
يدور عن تنظيم موسّع يشمل اليمن والسعودية، وربما مناطق
أخرى قد يتم الإعلان عنها لاحقاً. ما يجعل اليمن قاعدة
انطلاق بالنسبة للتنظيم، هو الخبرة الطويلة التي اكتسبها
خلال مشاركتها في حرب شطري اليمن، والنزاعات اللاحقة بما
فيها الحرب على الحوثيين في صعدة، إضافة إلى العلاقات
الواسعة التي بناها التنظيم مع زعماء قبليين ما سمح له
ببناء شبكة من طرق تهريب العناصر والأسلحة الى داخل السعودية
أو الخروج منها باتجاه اليمن. وبلا شك سيجد كثير من عناصر
القاعدة ملجئاً آمناً في اليمن بعد الضربات القاصمة التي
تعرّض لها في العراق، ما يجعل اليمن مرشحاً لأن يكون الساحة
المقبلة لتصفية الحسابات بين القاعدة وخصومها في الجزيرة
العربية، وفي حال فقدت الحكومة اليمنية السيطرة على المناطق
الواقعة تحت سيادتها قد يجلب ذلك تدخلاً دولياً، وإن لزم
الأمر باستعمال القوة العسكرية.
إيران والقاعدة.. لغز أم لمز؟
منذ سنوات والحديث لا ينقطع لدى وزارة الداخلية، ومن
هم على صلة بها من رجال دين وإعلاميين بأن إيران تحتفظ
بعدد من قيادات تنظيم (القاعدة) منذ أن نجحت قوات التحالف
الأميركي ـ البريطاني بإسقاط حكومة طالبان سنة 2001، وفرار
قيادات (القاعدة) إلى إيران هرباً من الموت..وغالباً ما
يذكر سليمان أبو الغيث، كويتي الجنسية، الناطق بإسم القاعدة
بأنه يعيش حالياً في إيران..ولم تكشف أو حتى تعلّق السلطات
الإيرانية على تلك الأخبار، بالرغم من توقيع البلدين على
إتفاقية أمنية مشتركة في أواخر أبريل 2001. ذكرت بعض مصادر
مطلّعة بأن وزير الداخلية الأمير نايف كان بصدد تقديم
عرض على نظيره الإيراني بتسليم قيادات القاعدة في مقابل
إغلاق ملف تفجير الخبر الذي وقع سنة 1996، غير أنه تلقى
إشارات من الجانب الإيراني تنطوي على رفض لهذا النوع من
المقايضات، حيث تصرّ إيران على نفي أي صلة لها بالحادثة.
ولأن إيران صارت مركز استهداف إقليمي ودولي، فإن وزارة
الداخلية عمدت في تصريحاتها وبياناتها هذه المرة على تحميل
إيران مسؤولية تدريب واحتضان وربما تمويل تنظيم القاعدة.
فقد ذكرت وزارة الداخلية بأن عدد المدرجين على قائمة المطلوبين
موجودن في مناطق قبلية في إيران، وذكرت إسمين من بين هؤلاء
وهما صالح القرعاوي (المطلوب رقم 34)، وعبد المحسن الشارخ
(المطلوب رقم 49)، اللذان يقومان، بحسب تصريحات وزارة
الداخلية، بتوجيه الخلايا النائمة في المملكة، وتسهيل
دخول عناصر أخرى الى منطقة وزيرستان في باكستان على الحدود
مع أفغانستان للمشاركة في دورات تدريبية.
القرعاوي القادم من بريدة، معقل الوهابية ، والطالب
في المعهد العلمي التابع لجامعة الإمام محمد بن سعود،
وأحد مرتادي (المجالس الدعوية) هو من بين كثيرين من رفاق
دربه في التنظيم، الذين لم يهبطوا في ساحة الجهاد بالبرشوت،
فقد تلقوا دروساً دينية في الجامعة والجامع حول التكفير
والولاء لأمير الإسلام والبراء من غير المسلم، وفي إعلان
الجهاد ضد المشركين والكافرين.. وقد نقل عنه أنه كان مستمعاً
جيداً لما يقوله الشيخ سليمان العلوان من آراء فقهية ودعاوى
جهادية، قبل أن يتم إلقاء القبض على العلوان قبل نحو خمسة
أعوام، بتهمة التحريض على سفر الشباب إلى العراق للقتال.
فهل مثل هذا القرعاوي أو غيره بحاجة إلى محرّض خارجي كيما
يصبح متطرفاً وعنفياً؟ أما أنه تلقى تدريبات عسكرية وتنظيمية،
فذاك أمر لم يعد خافياً، على أن تنظيم القاعدة نشأ وترعرع
عسكرياً في أحضان باكستانية وأفغانية، وبالتالي فأن يصبح
القرعاوي عقلاً مدبّراً للتنظيم القاعدي في السعودية فذاك
أمر مفهوم.
لا شك أن زيادة عدد العائدين للفكر (الضال)، بعد الإفراج
عنهم من جوانتانامو وخضوعهم لبرنامج (المناصحة) يكشف عن
إخفاق اللجنة القائمة عليه، والتي باتت تبشّر بنجاحات
أسطورية، دفعت سفراء دول أوروبية للإستعانة بها من أجل
الإفادة من تجربتها في مكافحة الإرهاب والتطرّف في أوروبا،
عبر إدخال برنامجها في إعادة تأهيل عناصر متطرّفة تم القبض
عليها في أرجاء مختلفة من القارة في فترات مختلفة. كما
تتسبب عودة كثير من العناصر التي كانت في السجون السعودية
للإلتحاق بصفوف التنظيم في إحراج وزارة الداخلية التي
ما فتئت تتباهى بانتصارها على خصم لدود، حتى أن الأمير
نايف أراد توظيف ذلك في معركته على ولاية العهد، إضافة
الى الأموال الضخمة التي اقتطعها من مداخيل الدولة تحت
شعار مكافحة الإرهاب.
|