الحوار بين المذاهب في السعودية
مبادرة تنتظر الحماية
عبد الوهاب فقي
فيما لا تزال أدبيات التدابر والكراهية بين السنة والشيعة
راسخة في الوعي العام لدى سكان هذا البلد وخصوصاً بين
السلفية والشيعة في السعودية، وفيما لا يزال الخطاب الطائفي
وحده الأكثر شعبية بين كل الخطابات على أنواعها الدينية
والوطنية والليبرالية، فإن هناك من يحاول البحث عن كوّة
في جدار القطيعة بحثاً عن خيط ضوء يتسرب إلى الخطابات
البترية التي تبني جدران العزل والقطيعة بين أبناء الأمة
بدلاً من مدّ جسور التواصل فيما بينهم.
وشأن أشكال التوحّد والتقارب الأخرى سواء على المستويين
الوطني والديني العام، فإن التقارب بين الشيعي السلفي
بقي موضوع جدل مفتوح منذ قرابة عقدين من الزمن، وتزايدت
نبرة المناظرة حوله منذ انطلاقة جلسات الحوار الوطني في
2003 بهدف احتواء التوترات السياسية والأمنية الداخلية،
وتحسين موقع المملكة على الخارطة الدولية بعد أن أصابته
هجمات الحادي عشر من سبتمبر بهزّات عنيفة، عقب تكشّف عدد
السعوديين المشاركين في تنفيذ تلك الهجمات.
وقد بات واضحاً، أن التقارب بين السنة والشيعة في السعودية
يمثّل أحد أشكال الإنقسام الرئيسية في هذا البلد، إضافة
إلى أشكال أخرى على المستوى الوطني والثقافي والإجتماعي.
بكلمات أخرى، أن مضادات الوحدة تعمل بدرجة فاعلة بالمقارنة
مع الحوافز المغرية على اعتناقها، بل يمكن الزعم بقدر
ما أن المفاعيل الثقافية والأيديولوجية والسياسية في هذا
البلد مصنّعات ناشطة للإنقسام أكثر من كونها موجّه نزيه
نحو التعايش والتقارب، وكذلك يقال الشيء ذاته عن الحوار،
بعيداً عن تلك الإحتفالية الطفولية المحيطة بمناسبات حوارية
محدّدة الغاية، مثل الحوار الوطني، وحوار علماء المسلمين،
وحوار الأديان.
ليس المرء بحاجة إلى عناء كبير لامتحان جدارة وجدّية
المبادرات الحوارية التي تبناها الملك عبد الله في الخمس
سنوات الماضية، ولا غرابة في أن تنتهي كل مبادراته إلى
مصير واحد، وأن تطوى سريعاً وتسحب من التداول، وكأنها
مبادرات صالحة للإستعمال لمرة واحدة. وحقيقة الأمر، أن
الإنقطاع بين الداخل والخارج هو ما يجعل مبادرات الملك
موجّهة نحو أهداف غير محلية، بل نحو أهداف لا تنتمي إلى
المبادرات نفسها، أي تحقيق أغراض سياسية في الخارج، وليس
تنشئة ثقافة وطنية تمهّد لبرنامج إدماجي.
في واقع الأمر، أن الداخل وحده المختبر لكل المبادرات،
حيث تعيش الجماعات السكانية بكل أطيافها تحت وطأة خطاب
ديني متشدد يتطابق في خاصيته الاقصائية والاستئصالية مع
الخطاب السياسي للدولة. ولذلك، فإن مبادرة التقارب بين
الجماعات تلك لا تبدأ من العقيدة، بل لابد من غطاء سياسي
ليس من جناح في العائلة المالكة فحسب، بل من جميع الأجنحة
الراعية للخطاب الديني المتشدّد. في المقابل، لابد من
تحرّر الجماعات من القيود الثقافية والتاريخية والإجتماعية
التي تحول دون اعتناقها الحر لمبدأ التقارب بكل اشتراطاته
وإلزاماته.
وبسبب التصاهر السياسي والثقافي بين بعض المنشغلين
في التنظير لموضوعة الخلافات المذهبية والحكومات، فإن
مبادرات التقارب والتقريب بين المذاهب تنتهي في الغالب
إلى العودة إلى نقطة الصفر التي بدأت منها، ببساطة لأن
عقم النتائج ناشيء بدرجة أساسية من عقم المقاربة. في المقابل،
إن اولئك الذين تحرروا من ملابسات السياسة، واستهدافاتها
الخاصة المناوئة في المجمل لمبدأ التقريب والحوار، يقدّمون
رؤى متوازنة ومتقدّمة في معالجة قضية الخلافات المذهبية.
وكما بدأت مبادرة التقريب بين المذاهب في القاهرة في الخمسينيات
من القرن الماضي بعلماء الدين السنة والشيعة، فإن المسيرة
انتهت بالفشل، ولكن بأيدي الساسة. ولو ترك العلماء وشأن
التقريب دون تدخّل من بعض الحكومات المناهضة لمفهوم الوحدة
الإسلامية فإن النتيجة ستكون على غير ما يأمل الفتنويون،
لا يعني ذلك، بطبيعة الحال، أن ليس هناك علماء من يقاتل
بأسنانه للحيلولة دون التئام شمل هذه الأمة الممزّقة.
ما يلفت ويبعث على الأسى، أن المنشغلين بموضوعة التقريب
أو حتى التعايش بين المذاهب لا عضد لهم لا من تراث تاريخي
عام ولا من تجربة سياسية وعقدية في هذا البلد، فهم يسبحون
عكس تيار التقسيم، ويصنّعون رؤى غير مؤصّلة، بل ينزعون
أحياناً إلى التوسّل بتجارب غير مقروئة وفق منهج علمي،
يدفعهم إلى ذلك الرغبة في تسوية معضلة خطيرة وانسداد تاريخي،
إما يقذف بهم في حمى المعارك الأهلية، أو يحرمهم من مجرد
التعايش الآمن..ثمة حقائق في الواقع لا يمكن البناء عليها،
لأنها مصمّمة لأغراض أخرى، ليس من بينها التقارب والتعايش
دع عنك الوحدة، فكل شيء في هذا البلد ينبىء عن وجود ترسانة
أيديولوجية قادرة على تدمير كل شيء، حتى العيش الآمن،
إذا كان الأخير يخفي تهديداً للكيان. وفي الأصل، فإن من
قام بقسمة وتجزئة المجتمع، لا يمكنه أن يتبنى خياراً غير
متساوق مع تكوينه، وأهدافه.
بالمثل، يسرف صنّاع الخطاب الطائفي في تعميم الأفكار
المتوائمة مع طبيعة النظام الذي ينتمون إليه، ولأنهم جزء
منه فلا يتوقّع ولادة أفكار تقريبية بسهولة. ولكن السؤال:
هل تحول الصورة القاتمة في توصيف الحال أمام طرح قضية
العلاقات السنية الشيعية على الرأي العام؟
بالطبع كلا، فإن أسوأ منتجات الاستبداد في هذا البلد،
أنه حرم أهله حتى من مجرد التداول السلمي للأفكار، خشية
اكتشاف حقيقة أن الانطباعات السالبة ليست ناشئة سوى عن
القطيعة المتبادلة، بوصفها المصدر الرئيسي للجهل المشترك،
والخصومة المتبادلة. فالانفتاح المتبادل من شأنه إطاحة
تصورات نمطية علقت بأذهان الفرقاء من المذاهب المختلفة
عن بعضها البعض، وكان لابد أن تنكمش مساحة المحرّم الخوض
فيه، بقصد الإبقاء على مفاعيل القطيعة والخصومة المتبادلة،
كيما يبدأ الجميع رحلة العبور على جسر التواصل، بهدف الإطلاع
على حقائق كانت متوارية وراء دخان الارتيابات الذي انطلق
في مناخ القطيعة، ونفخت المصالح الخاصة في جذوة خلافات
تاريخية كادت تغمرها الأفكار الجديدة والرشد المعرفي،
ولكن أبى أصحاب المصالح تلك إلا أن يعيدوها تارة أخرى
إلى دورة الانشغالات الذهنية اليومية..
موضوع العلاقة السنيةّ الشيعية في هذا البلد يختلف
في مقاربته عن أي بلد آخر، ولا يمكن بحال استعمال ذات
الأدوات في أماكن أخرى، بل إن استخدام العنوان السني في
العلاقة مع الشيعي يبدو متكلّفاً في هذا البلد، ما لم
نقبل بدعوى التمثيل السلفي لأهل السنة، وهي دعوى مرفوضة
من المذاهب الإسلامية السنيّة في هذا البلد، بل وفي كل
بقاع العالم الإسلامي تقريباً. والسبب في ذلك، أن السلفية
الوهابية تعتنق معتقدات ليست بالضرورة مقبولة أو تحوز
على أولوية في البناء العقدي لدى كل المذاهب الاسلامية
السنيّة.
لأسباب عديدة أيضاً، تبدو مناقشة العلاقة بين المذاهب
الإسلامية عموماً في المملكة، والعلاقة السلفية الشيعية
على وجه الخصوص ذات أهمية استثنائية، لأنها تنطلق متأخرة،
وقد أدرك الجميع الحاجة إلى إطلاقها لكي تصبح مادة جدل
علمي، كمدخل لفهم الآخر، وتلمّس سبل معالجة دقيقة لملفات
لا يزيدها الزمن والمواقف المتشنّجة، والمصالح الفئوية
والسياسية إلا عمقاً واتساعاً، وأخيراً وقف هدر مجهودات
الفرقاء المذهبيين في قضايا خلافية أشبعت إلى حد السفه
بحثاً، والإنتقال إلى مرحلة (إدارة وتنظيم الإختلاف)،
والتعايش معه بدلاً من تحويله إلى خلاف مفتوح والانغماس
في تفاصيله، وإشغال الأتباع فيه، حتى بات بعضهم يستنزف
طاقته الذهنية في صنع قوائم الأعداء، وعقد المقارنات بين
من هو في الخصام أشد وطأة، وفق مقاييس يضعها أتباع كل
مذهب..من عجب ينبري بعض الأقلام ليضع (إسرائيل) كعنصر
في لعبة المقارنات الهابطة، حتى أن بعض البسطاء صار يتحدث
عن أن أتباع هذا المذهب أشد خطراً من (إسرائيل) وتناسوا
ما فعلت الأخيرة بأهلنا في عدوانها على غزة، قتلاً وسفكاً،
وتجويعاً، وهدماً للمنازل وتشريداً للعوائل.
محاولات نادرة جرت في السنوات الماضية لفتح موضوع الحوار
بين المذاهب الإسلامية، بهدف تهيئة أجواء التقارب بينها،
ولكنها دائماً تبوء بفشل، على وقع فتاوى أو بيانات مضادة،
أو حوادث سياسية وأمنية يتم فيها أو بعدها توظيف العامل
المذهبي. وبسبب التشبيع المذهبي على مستوى المجتمع والدولة،
فإن القضايا العامة تخضع دائماً للحسابات المذهبية، التي
هي نفسها الحكم الفصل في العلاقة بين الجماعات السكانية،
وهي أيضاً المعيار الأكبر الذي تعتمده العائلة المالكة
في نظرتها للمواطنين. فالمواطنة، مهما بلغت المدعيات الرسمية،
لا تضاهي في سطوتها وموقعها، في النظام القيمي العام،
المذهبية التي تحدد مواقع الأفراد والجماعات في بناء الدولة
وهياكلها ومؤسساتها.
ولذلك، فإن فتح ملف العلاقات السنيّة الشيعية، يستوجب
استدعاء قضايا كثيرة ترد في هذا الملف، بسبب الترابط الوثيق
بينها والتأثيرات المباشرة التي تتركها قضية ما على الأخرى.
فالمراكمة الطويلة لممارسات وسياسات ورؤى في القطيعة والتدابر
تفرض فيضاً من الأفكار الجديدة لتأسيس بنية تحتية وثقافية
بجهود جماعية، أي بكلمات أخرى تشكيل مرجعية تقريبية لكل
الجماعات، تدفع للوراء مرجعية تنابذية مازالت تضخ أفكاراً
وفتاوى في الكراهية الدينية والخصومة المتبادلة..
ولا يغيب عن بالنا هنا النجاح الباهر الذي حققته مرجعية
التنابذ في مواجهة مبادرات التقريب طيلة العقود الستة
الماضية، حتى أنها استدرجت رموزاً كباراً الى الانقلاب
على خط التقريب لصالح خط التنابذ.
من يشارك الآن في التأسيس النظري لأفكار التقارب أو
التعايش بين السنة والشيعة في المملكة لا ينتمون الى طبقة
علماء الدين من الفريقين، بل هم أقرب إلى النخب الفكرية
الحديثة، ما يجعل النتائج المرجّوة متواضعة، لاسيما أن
المناقشات البينية لا تحظى بمباركة رسمية. فقد تخلّص الملك
عبد الله من كل أعباء الحوار كما تحرر من قبل من استحقاقات
الإصلاح، ولا ينتظر كثيرون أن يضطلع الملك بمهمة (الرعاية)
وفق الطريقة القديمة، وهذا ما يعزّز أيضاً موقف الخط المناوىء
للحوار والتقارب الذي كان يصوّب فتاويه التكفيرية من منطلق
مذهبي، ضد أي مبادرة حوارية وطنية أو إسلامية أو إنسانية.
ولحد الآن، لم نسمع عن مبادرة تقريبية من أي نوع وعلى
أي مستوى صدرت من أي من كبار علماء المؤسسة الدينية، ببساطة
لاعتقادهم بأن لا سبيل إلى ذلك، إذ لا يمكن التقريب بين
الحق والباطل، بحسب وجهة نظرتهم، ولذلك نأى علماء السلفية
عن أي مشروع تقريبي منذ الخمسينيات وحتى اليوم. نعم، بدت
زحزحة طفيفة في الموقف السلفي على مستوى الصف الثاني من
الهرمية الدينية في السنوات الأخيرة، ولكنها لا تعكس تطوّراً
داخل الرؤية السلفية، فأولئك الذين يعتنقون أفكاراً في
التقريب ما يلبث أن يقذف بهم خارج السور بتهمة خرق الإجماع،
والمساس بثوابت السلف الصالح. لقد لحظنا بأن مبادرات مشتركة
في التقريب طمست مع أول مواجهة.
مهما يكن، إن مناقشة الموضوع المذهبي بقدر حساسيته
البالغة، فإن طرحه ودخوله ضمن دائرة المفكر فيه، بل تحرره
من ربقة (التابو)، يجعله كائناً قابلاً للحياة رغم الصعوبات
المنظورة وغير المنظورة التي تستهدف وجوده، فهذا النوع
من الموضوعات يثير بكل تأكيد حرّاس العقيدة من كل الأطراف.
ومن الطبيعي، في ظل مناقشات من هذا القبيل أن تستنفر
قوى التدابر من كل الفرقاء، وحتى من فريق السلطة، طاقاتها
لإفساد طبخة التقريب، إن لم يكن تسميمها عبر إخراج التراث
التنابذي من آبار الفتنة. ولكن لأن كل الخيارات مفتوحة،
فليبدأ المتدابرون نقاشاً مفتوحاً لعلهم يتقابلوا في منتصف
الطريق، رغم صعوبة رفع سقف التوقعات إلى حد الوصول الى
نتائج حاسمة في جولة واحدة.
|