دسائس الميثولوجيا في العقيدة السلفية
توفيق العباد
إشتملت رسائل مؤسس المذهب الوهابي على انتقادات شديدة
ضد الخرافات الشائعة في مجتمع نجد. ففي رصده لمسائل الجاهلية
السائدة في مجتمعه، جاء من بينها الاعتقاد (في المخاريق
والسحرة)، و(اعتياضهم عما أتاهم من الله بكتب السحر..)
(أنظر: 128 مسألة من مسائل الجاهلية للشيخ محمد بن عبد
الوهاب)، وقد فسّر الجبت بالسحر، وأن الطاغوت قد ينطبق
على الجن والإنس (أنظر: د. أحمد بن عبد الكريم نجيب، فصل
الخطاب في بيان عقيدة الشيخ محمد بن عبد الوهاب).
ما يثير الدهشة أن النزعة الميثولوجية في الكتابات
العقدية السلفية القديمة والجديدة تبدو شديدة بصورة لافتة.
بل إن ما يدعو للغرابة أن التحوّلات الاجتماعية والاقتصادية
والثقافية التي شهدها المجتمع لم تخفف من سطوة العقل الميثولوجي
في الحراك الفكري السلفي. فمالذي يجعل انكباب المدرسة
السلفية في العقدين الأخيرين، وبوتيرة تصاعدية، على موضوعات
ذات طبيعية غيبوية مثل (الجن)، و(تفسير الأحلام) (السحر
والشعوذة)، و(الربط)، و(العمل) وأساليب العلاج التقليدية
مثل (الرقية الشرعية)، أو التعويذة (والحبة السوداء)،
و(كتابة أذكار مخصوصة)، و(النفخ)، و(إبطال السحر بالرموز
والحروف)، و(الاستعانة بالجن)، واللجوء إلى الشيخ.. ظاهرة
بالرغم من جذورها الموغلة في قديم وجديد المجتمعات الشرقية
عموماً، إلا أن إنفجارها بشكل غير مسبوق في هيئة مراكز
متخصّصة، وهيئات دينية، ونشريات، ومؤسسات تجارية متخصّصة
في التداوي بالأعشاب والعقاقير الشعبية، أو حتى بعض المواد
الغذائية مثل العسل، وزيت الزيتون، والحبة السوداء (أو
حبّة البركة) بحسب الثقافة الشعبية يجعل مناقشتها ذا أهمية
خاصة. لاشك أن الثراء الاتصالي ساهم بدرجة فاعلة في رواج
مثل تلك الموضوعات، حيث باتت هناك وفرة هائلة لوسائل البث
ما يجعل التداول الجماهيري بالغ السهولة.
فلا تكاد تخلو المواقع السلفية على شبكة الإنترنت من
إيقونة خاصة بـ (الرقية الشرعية) رداً على الرقية غير
الشرعية والسحرة، إلى جانب أشرطة رقية شرعية لكبار المشايخ
تباع في محلات أشرطة خاصة بالتسجيلات الإسلامية، وهناك
رقية شرعية تتلى على المرضى عن طريق أجهزة الهاتف.
فقد تحوّل الفضاء الاتصالي إلى ساحة حرب بين الشرعي
واللاشرعي من وجهة ميثولوجية سلفية محض، وقد نشر فرع (الهيئة)
في المدينة المنور على موقعه على شبكة الإنترنت خبراً
حول (ساحر الكتروني) في المدينة المنورة كان يتلقى عبر
موقعه على الإنترنت طلبات وتحال له النقود مسبقاً عبر
خدمة الحوالات البنكية ثم يقوم بإرسال العمل السحري لصاحبه.
وهناك عدد من القنوات الفضائية التي ظهرت في السنوات الأخيرة
تمارس السحر والشعوذة عن طريق الخطوط الساخنة المفتوحة
أمام المشاهدين حيث تجري عمليات التشخيص وتقديم العلاجات
بصورة مباشرة.
كما تحوّل الفضاء الاتصالي إلى مجال استعراضي يقدّم
فيه الميثولوجي السلفي أقصى ما يمكنه لتجنيد الاتباع والاحتفاظ
بهم ضمن دائرة تأثير مغلقة. لذلك، لا غرابة في أن يخوض
الذراع الضارب للسلفية، ممثلاً في (هيئة الأمر بالمعروف
والنهي عن المنكر) معارك ضارية مع خصوم يتقمّصون أدواراً
منافسة. في برنامج عرض في 14 ديسمبر 2008 على الهواء مباشرة
على قناة (الراية) للشيخ يوسف الدوس، إتصلت فتاة في العشرين
من عمرها تسمي نفسها أم عمر وقالت إنها مسحورة، وأن أهلها
منعوها من الذهاب لشيخ يقرأ عليها خوفاً من الفضيحه، فقام
الشيخ بالقراءة عليها وقامت الفتاه تبكي، ثم تداخلت الأصوات،
وقيل حينذاك أن الجني الذي يسكن فيها بدأ ينطق على لسانها،
وراح يصرخ (لا .. لا )، ثم كان حوار على وشك أن ينعقد
بين الشيخ والجني إلا أن الاتصال انقطع فجأة، وبرر الشيخ
ذلك بأنه كان يخشى من أن يتفوه الجني بكلام غير لائق.
وقد تكرّرت هذه القصص سواء على (الهواء مباشرة) أم من
خلال وسائل البث والاتصال الأخرى، والتي تنسب الى رجال
دين معروفين.
وقد نقل الشيخ الدكتور محمد العريفي في برنامج بثّ
على الهواء مباشرة وعبر القناة الأولى في التلفزيون السعودي
قصة بأن أحد القرّاء قرأ على شخص مصروع فطلب من الجني
أن يخرج منه ويدخل في الشيخ بن باز، فقال له لا أقدر عليه،
ثم قال له طيب الشيخ ابن جبرين قال لا أقدر عليه، وسأل:
هل هناك أشخاص غيرهما؟ والتسجيل مثبّت على موقع (يوتيوب)
بعنوان (ابن باز وابن جبرين والجني).
والسؤال: متى أخذت النزعة الميثولوجية السلفية هذه
الوتيرة التصعيدية غير المسبوقة؟
يمكن اقتراح تورخة لانفجار خرافي سلفي بدأ متزامناً
مع اندلاع ظاهرة الصحوة الدينية في المجتمع السلفي في
مطلع الثمانينات من القرن الماضي، والذي مهّد أرضية خصّبة
لانتشار واسع النطاق لكل (مستلزمات) العمل الخرافي، من
رموز، وأشخاص، وأذكار مصفوفة بعناية في كتيّبات صغيرة
الحجم، وفصوص حجرية، وسبحات، وقصاصات ورقية خاصة بالتعويذات،
حتى باتت طاولات العرض في المساجد، ومراكز الدعوة، وكذلك
نشاطات بعض الأجهزة الدينية تحتّل مساحة كبيرة من الحراك
السلفي في بعديه الاجتماعي والثقافي.
قبل انفجار الصحوة السلفية في منتصف الثمانينات من
القرن الماضي، كانت موضوعات (الجن)، و(تفسير الاحلام)،
و(السحر) شأناً دنيوياً، وكان الاعتقاد بأن أحكاماً دينية
قد حسمت النقاش فيها، ولكنها ما لبثت أن حظيت بدفعة اهتمام
واسع. كان بعض من يعتقد في قدرة المشتغلين عليها يلوذ
بهم دون سواهم، ولكن تبدّل الأمر قبل أكثر من عقدين حيث
دخل رجال الدين من المدرسة السلفية على خط المنافسة، متسلّحين
بعتاد ديني. ويمكن للمرء أن يلحظ انبعاثاً غير مسبوق لتراث
غيبوي غمر المجتمع السلفي وتمدّد إلى ساحات أخرى، بل جنّد
بعض رجال الدين جهوداً كبيرة من أجل تعميم أحاديث، وروايات
تاريخية، وفتاوى دينية تتصّل بتلك الموضوعات، فيما يشبه
عملية سحب البساط من تحت أقدام الممارسين التقليديين في
حقول الجن، والسحر، وتفسير الأحلام (وقد لجأ بعضهم إلى
توظيف العتاد الديني نفسه للحفاظ على مصادر دخل ثابتة).
أول ما يشهره المشتغلون على موضوعات الجن، وتفسير الأحلام،
والسحر من أدلة هو آيات قرآنية وردت في سورة يوسف، والجن،
وعدد من السور القرآنية التي ارتبطت بظروف استثنائية،
إضافة إلى مجموعة أحاديث وردت في كتابي (البخاري) و(مسلم)
حول الرؤية، والجن، والسحر، وكذلك مصنّفات علماء في المدرسة
السلفية أعيد إنتاجها وتفسيرها كيما تكون صالحة الاستعمال
في الوقت الراهن. ولكن ما يلفت بوضوح أن الموضوعات المخفّضة
دينياً فيما مضى جرى تصعيدها منذ منتصف الثمانينات، وباتت
من حيث الأهمية الدينية منافساً لعلوم تقليدية حظيت بإجماع
المسلمين كافة، كتعلّم الفقه الشرعي، والتوحيد، وعلم الحديث.
يقول أحد مفسّري الأحلام بأن تفسير الأحلام من أشرف العلوم
قبل بعثة الأنبياء، وأن تفسير الأحلام أصبح علماً من علوم
الشريعة، وصنعة وفناً، وأخيراً تحوّلت الموضوعات تلك إلى
قنوات فضائية وأكاديميات (أنظر نص برنامج إضاءات مع مفسرّ
الأحلام د. يوسف الحارثي بتاريخ 3 مايو 2009).
والسؤال هنا: لماذا انتقلت قصص الجن، وسكون الأرواح
في البيوت والأبدان، ودور الأحلام في تقرير مصير الإنسان،
من القرية الى المدينة، ومن الأحياء الفقيرة والفئات غير
المتعلمّة إلى الأحياء الثرية والفئات الحديثة، بل لماذا
تتحول تلك الموضوعات شأناً سلفياً متعالياً، بحيث بات
الإشتغال على مقتنيات متعلّقة بطرد الأرواح، وتفكيك العمل،
وإبطال السحر، جزءً أساسياً من ثقافة المجتمع الديني،
والسلفي على وجه الخصوص، دون نفي ذلك عن مجتمعات أخرى
شرقية، ولكن بنسب أقل. ما يميّز الطابع الخرافي للثقافة
الشعبية في المجتمع السلفي أنه يستند على منظومة واسعة
من المراكز الدينية والإجتماعية، والمطبوعات الدينية (أذكار
وأدعية وبعض السور القرآنية، ورموز مشفّرة)، ومقتنيات
غذائية يملك امتياز توفيرها بعض المشايخ أو مؤسسات مرتبطة
بجهات دينية، أو حتى بعض الأقمشة التي يتم شراؤها خصيصاً
لدفع الشرور، وكل ذلك بحسب معتقدات المجتمع السلفي.
تختزن المصادر السلفية القديمة والحديثة صوراً متنوّعة
عن حالات كان يلعب فيها (الغيبوي) دور البطولة، سواءً
كان هذا الغيب مخلوقاً خفيّاً (الجن) أو حلماً أو رؤية
أو عملاً خارقاً يقترب من السحر، وبالنسبة لبعض آخر يتحوّل
(الغيبوي) إلى عنصر تشويق ولكن بطابع ديني، وهناك من يوظّف
دور (الغيب) في إسباغ صفة استثنائية لرجل الدين، وبلوغه
رتبة الإنكشاف على العالم الخفي، وهناك قسم آخر يستعمله
كوسيلة للسيطرة على أكبر قاعدة شعبية أو كتلة زبائنية
كبيرة لبضائعه المادية أو المعنوية.
فما كان غائباً بصورة شبة كاملة قبل منتصف الثمانينات،
بات حاضراً بضراوة بعدها، وأصبحت قصص الجن، والسحر، والأحلام
والربط، والعلاجات الدينية المقترحة، شائعة بدرجة لافتة
بين الناس. فبالرغم من أن محاربة قراءة الكف أو الفنجان
أو أعمال السحر الأخرى تمثل إحدى الوظائف الاحتسابية لرجال
(هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) منذ نشأتها غير
الرسمية سنة 1903، إلا أننا نعثر في التراث الاحتسابي
لهذا الجهاز ما يشير إلى بطولات ذات طابع خرافي، بما يؤكد
ما عارضه بعض العلماء أي (إبطال السحر بالسحر)، أو الدخول
في مواجهات مع كائنات خفيّة مثل الجن، والأرواح الشريرة،
ونشر قصص خوارق تخالف الذوق البشري وتعصى على التصديق.
نشرت صحيفة (عكاظ) في 29 مايو 2006 خبراً مفاده أن
رجال (هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)، وهو الجهاز
الديني المسؤول عن الحفاظ على السلوك الإخلاقي المنضبط
لدى الأفراد، والدعوة للإلتزام الصارم بالفرائض العبادية،
قاموا بمداهمة ما وصف بأنه أحد (أوكار السحر والشعوذة)
في المدينة المنورة، وفوجئوا بوجود ساحرة أفريقية عارية
تماماً، وحين حاول هؤلاء سترها بغطاء رفضت. وتضيف الصحيفة
أن (المفاجأة الأكبر) تجلّت في قدرة تلك الساحرة على الطيران،
حيث (طارت كعصفور) من الغرفة لتختفي تماماً من الشقة وسط
(ذهول أكثر من 20 شخصاً من أفراد الهيئة)، وكل ذلك بحسب
رواية (الهيئة) التي نقلت عنها الصحيفة.
وتمضي الصحيفة في سرد تفاصيل تلك القصة الخرافية بالقول
أن رجال الهيئة واصلوا البحث عن الساحرة في الدوائر العلوية
والسفلية للعمارة المؤلفة من أربعة طوابق، حيث فوجئوا
أثناء بحثهم بأحد المواطنين وهو بملابس النوم يستغيث وأطفاله
من خلفه طالباً النجدة من المواطنين، بعد أن شاهد إمرأة
افريقية عارية سقطت من سقف الغرفة لتستقر وسط أطفاله وهم
نائمون، ما اثار ذعرهم وطفقوا يصرخون بصوت عال، وأضاف
أنه عندما ذهبت لاستطلاع الوضع في الغرفة أبلغني أبنائي
بما شاهدوه من منظر غريب وبعد تأكدي من الساحرة خرجنا
جميعاً من الشقة هاربين.
|
الشيخ ابن جبرين: الزواج
بالجن متحقق والتوالد مشكوك! |
فصول القصة تنتهي بدور بطولي لرجال الهيئة الذين لاحقوا
الساحرة، ذات القدرات الخارقة، حيث وجدت في شقة المواطن
المستغيث عارية، فرفعوا أصواتهم بالآذان و(آية الكرسي)
ما أدى إلى شلّ حركتها، وقام أحد أعضاء الهيئة برمي قطعة
قماش على جسدها لستر عورتها، وبعد ارتداء ملابسها تم إلقاء
القبض عليها.
تضيف الصحيفة بأن العملية تمّت بقيادة الشيخ فهيد العريفي،
رئيس مركز هيئة الحرّة الغربية. وكانت عملية المداهمة
لـ (غرفة المشعوذة) قد أسفرت عن العثور على (مباخر ومسابح
وطلاسم وأوراق شعوذة وغرز وأشرطة فيديو لتعليم السحر ورباط
حزام لمريول طالبات الابتدائية..كما عثر على مصحف تحت
مقعدها).
في تعليقه على الحادثة، قال الشيخ عبد المحسن العبيكان،
عضو هيئة كبار العلماء سابقاً والمستشار الحالي في الديوان
الملكي، (ذكر الفقهاء أن بعض السحرة قد يركب المكنسة ويطير
في الهواء وذلك بمساعدة الجن فمثل هذه الساحرة طار بها
الجن من مكانها إلى الشقة العليا لينقذوها من الهيئة..).
وبحسب الرواية الرسمية للهيئة، فإن 19 إمرأة أفريقية
تم القبض عليهن لمخالفتهن نظام العمل وإقامتهن بصفة غير
نظامي في أحد الأحياء الواقعة غربي المدينة، في سياق حملة
الهيئة للحد من انتشار النساء المقيمات بصفة غير نظامي
في المدينة والقضاء على ما يصدر منهن من سلوكيات غير شرعية
تضر بالمجتمع. إلى هنا والأمر يبدو طبيعياً، وضمن مجال
الإختصاصات التقليدية لدى رجال الهيئة، ولكن ما هو لافت
أن خلال حملة القبض على مجموعة من النساء الافريقيات من
قبل فرقة من (الهيئة)، فوجئت، بحسب رواية الأخيرة، أن
(امرأة أفريقية كبيرة في السن تجلس بشكل غريب في غرفة
شبه مظلمة، وهي عارية، والأبخرة تتصاعد حولها، وبمجرد
رؤية الأعضاء لها أمرت بالتستر، وأغلق الباب عليها ليتسنى
لها ارتداء ملابسها إلا أنها اختفت كلياً من الغرفة بعد
بضعة دقائق مع العلم أنه لا يوجد لها أي منفذ سوى الباب،
وقد كان أحد الأعضاء واقفاً بجواره، فتم البحث عنها في
أرجاء المنزل خلال نصف ساعة ولم يوجد لها أي أثر، فأخذ
الأعضاء يجهرون بذكر الله عز وجل وقراءة أية الكرسي، ورفع
أحدهم صوته بالآذان ليطرد الجن من الموقع وليتمكنوا من
ضبط هذه المرأة الساحرة، وأثناء ذلك جاء أحد ساكني الدور
العلوي في العمارة مستغيثاً، ويذكر أن هناك جنياً على
شكل امرأة عارية سوداء البشرة وجدت فجأة بين أبنائه وهم
نائمون، وطلب تخليصهم منها، فانتقل أعضاء الهيئة بسرعة
للشقة، ووجدوا المرأة نفسها مستلقية في إحدى الغرف ، فتم
القبض عليها بعد أن ارتدت ملابسها، واتضح أنها تمارس السحر
والشعوذة وتستعين بالجن في ذلك، ووجد في غرفتها العديد
من الطلاسم والأعمال السحرية، وعدد من القواقع والصدف
والذي يستخدم عادة في أعمال الكهانة والشعوذة ، ووجد لديها
حزام لمريول طالبة ابتدائي وأسورة ذهب لطفلة، وأساور ذهب
أخرى، ويظهر أن ذلك لغرض إعداد عمل سحري لها).
تشتمل القصة ـ الأسطورة على عناصر متعدّدة، يختلط فيها
البعد الميثولوجي في شكلها الخرافي، بالبعد الديني، والثقافة
الشعبية بالرموز الاجتماعية والتقليدية، وسنجد أن تلك
العناصر حاضرة بصورة كثيفة ودائمة في عالم محفوف بالسريّة،
حيث تخوض الوهابية إحدى معارك الجدارة العقدية، للتعويض
عن بعض ما تخسره في العالم المادي البشري. فقد بات الاحتفاظ
بالأتباع داخل المجال المغناطيسي للعقيدة السلفية مشروطاً
بقدرة الأخيرة على اختراق العوالم الخفيّة، كعنصّر تميّز
تنفرد به دون باقي العقائد، وتستخدمه عامل إقناع في حلبّة
الإستعراض الايديولوجي أمام جمهرة المؤمنين بها.
وما انفكت الأجهزة الدينية ذات الوظيفة المزدوجة (وعظ
ديني، وضبط أخلاقي) تزوّد الأنصار بدفق من الأساطير بما
تبطنه من رمزية عقدية، ورسائل مشفّرة موجّهة للجمهور العام.
ولا غرو، والحال هذه، أن يتم تطعيم (غارات) رجال الهيئة
على أوكار السحر، بجرعة عالية من الإثارة ذات طابع فانتازي
فارط. في 7 يوليو 2008، نشر الموقع الرسمي لـ (الهيئة)
نبأ نجاح رجالها في الرياض في فك طلاسم أحد الأعمال السحرية
المعقّدة. وجاء في النبأ أن شاباً تلقى إتصالاً من شخص
مجهول تلفّظ بعبارات سيئة ثم أخبره بأنه دسّ عملاً سحرياً
ضده في أحد الأدوية خارج الرياض. وتقول رواية (الهيئة)
أن الشباب ذهب بالفعل إلى الوادي، وحفر تحت شجرة وصفها
له المتصّل، ليستخرج العمل من داخل حفرة..وحين فتح الشاب
(العمل) الموضوع داخل كيس صغير وجد بداخله ورقة بيضاء
ملطّخة بالدماء رسمت عليها عقد دائرية ورموز، وطلاسم سحرية،
وبعض الكلمات التي يتعامل بها السحرة، وربطت زاوية الورقة
بخيوط على شكل عقد عديدة موصولة بخصلات شعر يرجح أن تكون
لإمرأة، ثم ربط في طرف هذا الخيط مفتاح لعلبة مشروب غازي
وكتب عليه إسم الشخص الذي عمل له السحر. وتختتم الرواية
بالنتيجة التالية (وبإبلاغ الهيئة تمكن رجالها من إبطال
هذا العمل السحري)، دون أن تبيّن الرواية نوع الآليات
التي لجأت إليها في إبطال السحر. مهما يكن، فإن مجرد تحقيق
الهيئة منجزاً في مجال السحر يعزّز وظيفتها العمومية ويمنحها
صدقية لدى الفئات البعيدة أو المترددة.
قصص متعاقبة تتلى على أسماع الناس بين يوم وآخر عن
منجزات (الهيئة) في عالم خفي لا يملك أحد وسائل خاصة للتحقّق
من صدقيتها سوى التسليم الديني المطلق، بما لا يحتمل التشكيك
أو حتى المسائلة. إنها القدرة على صناعة مخيال جماعي يهدف
إلى تصوّر أحداث غير واقعية، بما يشبه حالة خلط الذاكرة
(Confabulation) حيث يتم التعويض عن الواقعي بالوهمي،
في محاولة لتعبئة الفراغ في الذاكرة الجماعية بأحداث وهمية
وأحياناً غير متسلسلة.
في حادثة مثيرة، وكل غيبوي مثير حكماً، نشر موقع (الهيئة)
في 25 يونيو 2008، خبراً مفاده أنها تمكّنت من فك طلاسم
سحر وجدت في حقيبة ملقاة بجوار قصر السلام الخاص بالملك
عبد الله في مكة المكرمة. وبحسب الرواية المبثوثة بصورة
واسعة في مواقع مقرّبة من التيار السلفي على شبكة الإنترنت،
أن عمال البلدية عثروا على الحقيبة تلك وعندما اقتربوا
منها لاحظوا أنها تتحرك، فقاموا بفتحها حيث وجدوا بداخلها
أكثر من 100 ثعبان (في رواية أخرى ألف ثعبان من عدة أنواع)
موضوعة بداخل أكياس، إضافة إلى طلاسم وصور لثلاثة أطفال
(وفي رواية أخرى عثر أيضاً على تذكرة لإحدى شركات الطيران).
وتنتقل الرواية لاحقاً إلى ذروة الإثارة بحضور عضو الهيئة
الشيخ سعيد الأحمري الذي حمله معه السحر إلى مركز الهيئة
لفك طلاسمه. وهنا تبدأ الميثالوجيا فعلها الاستثنائي بعيداً
عن عالم الشهود، ولكن استخراجها للرأي العام يبدو متضارباً،
فبينما تحدّثت رواية عن أن عملية إعدام جماعية طالت الثعابين،
فيما تم التحفّظ على محتويات الحقيبة وإعداد محضر لضبط
الواقعة وتسليم المستندات للجهات المختصّة، فإن رواية
أخرى تقول بأن المحتويات نقلت الى المركز للتأكّد من نوعية
تلك الأعمال وإتلافها من خلال الحرق، وتضيف هذه الرواية
بأنه تم اكتشاف أمر مالكها رغم إنكاره وإحالته للجهات
المختصّة لإكمال التحقيقات معه.
لا مكان، إذاً، لاحتمالات التدخل المباشر من العنصر
البشري في مشاكل الأفراد والجماعات، فلا بد أن يكون ثمة
(غيبي) يدير شؤون المجتمع، فالمشاكل الزوجية، على سبيل
المثال، تعبر الجلي لتعوم في عالم مستور، لا يتقن أحد
سبل التعاطي معه سوى الفئة المحدودة التي خصّت بقدرة فريدة
على اختراقه والخروج بمنجز غير قابل للتحقّق بوسائل عقلية
وبشرية مجرّدة. فحين يعجز البشري عن حل مشكلة زوجية، مهما
كانت، فإن كائناً آخر غير بشري يتحمّل المسؤولية. كثيرة
هي القصص التي ينقلها رجال (الهيئة) عن أعمال السحر التي
تحكم المعادلات الزوجية، بما يجعل مناطق عمل الجهاز الديني
وحدها الأشد خصوبة للأعمال السحرية في كل أرجاء العالم،
وفي الوقت نفسه يتحوّل رجال (الهيئة) إلى ما يشبه المنقذين
بقدرات فائقة وخصائص فريدة، فهم وحدهم الأقدر على حل المشاكل
الزوجية عبر إبطال مفعول السحر. في إحدى الوقائع في منطقة
حائل، ذكرت (الهيئة) في 3 مايو الماضي بأن الفريق المتخصص
لمكافحة أعمال السحر والشعوذة في (الهيئة) عثر على عمل
سحري مخصّص لتفريق زوجين، ويطلق عليه مسمى (الصرف)، وضع
تحت إحدى مداخل أبواب منزل الزوجين الذين تم، بحسب رواية
الهيئة، تفريقهما وانفصالهما الروحاني بسبب العمل، حيث
(دبّ الكره والبغض بينهما قرابة ثلاث سنوات مما نتج عنه
فشل حياتهما الزوجية). وتمضي الرواية للقول أنه بعد الكشف
عن العمل السحري من قبل (المختصّين في معمل الكشف في الهيئة
وبعد التأكد من محتواه السحري وإتلافه بالطريقة الشرعية
إنتاب الزوجين حال عملية الإتلاف نشوة حنين لبعضهما والتفكير
الجدي لإرجاع حياتهما الزوجية إلى ما كانت عليه بعد نزوح
هذا الكابوس..) بحسب مدير عام الفرع الشيخ سليمان الرضيمان.
تجدر الإشارة إلى أنه في 11 مايو الماضي، أعلن الرئيس
العام لـ (الهيئة) الشيخ عبد العزيز حميّن الحميّن، عن
إنشاء وحدة جديدة تابعة للهيئة بإسم (وحدة مكافحة السحر
والشعوذة)، واعتبر الحميّن ذلك بأنه (إجراء إستراتيجي
طويل المدى لمكافحة السحر والشعوذة والمشعوذين في هذه
البلاد بالقبض على السحرة والمشعوذين وتوعية المجتمع بخطرهم
ومنع استخدام الأساليب المخالفة في الرقية من خلال تطوير
أساليب قدرات العاملين في الرئاسة والتعاون الإيجابي مع
الجهات الأخرى وتفعيلها لمكافحة هذا الخطر حماية لجناب
التوحيد من مظاهر الشرك والتعلق بغير الله).
ولأن المنافسة بين المشتغلين في مجال السحر تتطلب توظيف
كل أدوات التشويق والجذب، فقد أصبحت نزعة التديين مطلوبة
بقوة، فقد دخلت الآيات القرآنية، والذكر الديني، والأدعية
المأثورة، والعبارات المدجّجة بشحنات روحية عالية، بل
حتى الجان المسلم وربما السلفي مشاركاً في حل المشكلات
الإجتماعية.
في العالم الخفي، يبدو عنصر الإثارة الفنتازوية بطابعه
الديني حاضراً بكثافة، حيث يتم استخدامه بتساهل فارط.
ولأن فصول التجاذب في العالم الخفي يدور حول قدرات خارقة
وفريدة، فإن استحضار الغيبوي يكتسي في المجتمعات الدينية
مشروعية خاصة. تفيد رواية (الهيئة) في 8 مايو 2008 أن
رجالها تمكنوا من الإيقاع بأحد السحرة الأفارقة يدير عيادة
خاصة، بمساعدة (ممرضين) من الجان. وتضيف (الهيئة) أن هؤلاء
(الجان) يقومون بتشخيص الحالات المرضية للزبائن، ويصرف
هو العلاج المناسب لهم بعد أن يستحضر صديقة الجني الآخر
ويدعى عبد الله، الصيدلي الخاص. وكان لدى الساحر، بحسب
الرواية، ثلاثة من الجن، أصبحوا كلهم مسلمين، ويدعى أحدهم
عبد الله. رد فعل (الهيئة) كان مثيراً هو الآخر، حيث نفى
مدير عام فرع الرئاسة العامة لـ (الهيئة) بمنطقة مكة المكرمة
الشيخ أحمد بن قاسم أن (الاستعانة بالجان والشياطين في
أمور العلاج والرقي وغيرها باطل)، على قاعدة أن الجان
لا يمكن أن يصدر عنهم سوى الشر، وليس نفي دورهم بالمطلق
في حياة البشر.
تفسير كثير من الأمراض العضوية والنفسية والاجتماعية
يكتسي بعداً غيبوياً، إذ يغيب دور الطب الحديث، وتحضر
بكثافة العلاجات الغيبوية. في سؤال وجّهته المجلة العربية
بتاريخ 19 ذي الحجة 1416هـ إلى المفتي السابق الشيخ عبد
العزيز بن باز عن (علاج صرع الجن للإنس) فأجاب أن المس
هو صرع الجن للإنس، وعلاجه بالقرآن الكريم، وبالإدعية
النبوية، وبالوعظ والتذكير والتغريب والترهيب). وهكذا،
فإن تصعيد البعد الميثولوجي في الحراك السلفي بدا واضحاً
من كثافة الوقائع التي تدور حول إنجازات الأجهزة الدينية
السلفية في الحقل الغيبوي.
وللمرء تخيّل كيف أن العاملين في مجال السحر مارسوا
(المهنة) طيلة عقود وبصورة علنيّة، حيث كان المرتادون
لبيوت المشعوذين يدلفون إليها مثنى وفرادى دون محاذير
أمنية أو دينية دع عنك اجتماعية، ولكن في لحظة ما، أي
فور تفجّر الظاهرة السلفية في منتصف الثمانينات بدأت الاختراقات
تمتد إلى كل مجالات المجتمع، وتزايدت، هذه الاختراقات،
بصورة ملحوظة في السنوات الأخيرة. فلماذا، على سبيل السؤال،
تقع ساحرة مشهورة في أبو عريش في قبضة رجال (الهيئة) بعد
مرور ثلاثة عقود كانت فيها النساء تأتي إليها طلباً للعلاج
من السحر، بحسب بيان للهيئة في 8 إبريل 2008؟ بالرغم من
أن هذه الساحرة، والتي تبلغ من العمر 70 سنة، تستقبل زبائنها
الإناث بصورة علنية مدة ثلاثين عاماً، ولها سوابق مسجّلة
لدى الشرطة، بحسب صحيفة (عكاظ). لابد أن يلفت ذلك التحرّك
المتأخر من رجال (الهيئة) إلى أن بعداَ جديداَ بدأ يندمج
في أجندة هذا الجهاز، وإذا كان من إشارة إلى تنامي ظاهرة
الشعوذة في هذا البلد، فإن ثمة إشارة أخرى إلى كون التيار
الديني بات يستوعب مجالات أخرى كانت مغفولة، أو غير ذات
أهمية، يعكس ذلك أيضاً حجم العتاد غير المسبوق المستعمل
في مواجهة ظاهرة السحر والشعوذة واستخدام الجن واستحضارها،
كما يشير الى ذلك تخصيص وحدة لمكافحة السحر والشعوذة التابعة
لـ (الهيئة).
حادثة أخرى مشابهة، نقلتها صحيفة (الجزيرة) في 12 فبراير
2008، أن رجلاً اعتاد التردد بزوجته طريحة الفراش على
من يطلق عليهم بـ (القرّاء) بغية شفائها من مرض فجائي
أصابها، وفشل الوصفات الطبية التي أعطيت لها من جهات طبية
عدّة. وحين يخفق العلاج الطبي يتدخل (الغيبوي) كعلاج بديل،
ولذلك فإن الخيط الذي يؤدي إلى كشف الغموض في مرضها يأتي
من مكان آخر حيث (اكتشف المشايخ الذين تناوبوا على القراءة
على زوجته أنها مسحورة وقد وضع لها عمل..)، بحسب نتائج
تحريّات لجنة ضبط السحر التابعة لـ (الهيئة). المفاجئة
بحسب اللجنة تمثّلت في عثورها على (طلاسم وكتب عن السحر
والشعوذة وبعض العقد) كانت موجودة في حقيبة الخادمة الأندونيسية.
وبحسب رواية اللجنة، فإنها نجحت في فك العقد (فيما قام
أعضاء الهيئة بالقراءة على الزوجة المريضة).
هذه الواقعة ومثيلاتها، التي تتكرر بصور متقاربة، تستحضر
على الدوام أطرافاً ثلاثة: الساحر، عدّة السحر، إبطال
السحر على يد الهيئة. فكل ما يصعب حله في عالم الشهود
ينتقل إلى عالم مستور يحقق فيه الديني ما يعجز عن تحقيقه
في الواقع المرئي، وفي كل الاحوال تنتهي النتيجة في العالم
الخفي بانتصار الديني السلفي، ليس لأن الحقيقة تنبىء عن
ذلك، ولكنها الحقيقة الإفتراضية التي يراد تقديمها، فليس
المهم أن تتطابق النتيجة مع الواقع، ولكن ما هو أخطر أن
يبدو الوهمي في هيئة حقيقة واقعية، وكأنه إعادة إنتاج
لشكل جديد من أشكال السحر الذي يراد منا تصديقه.
إشراك المجتمع في مكافحة السحر يتجاوز حدود المهمة،
ويهدف، في جانب منه، إلى إدماج هذا المجتمع في بيئة عمل
الديني، فيما يشبه إعادة تشبيك في نسيج السلطة وأيضاً
تعزيز دور أجهزة الضبط الديني والإجتماعي. الخطوط الساخنة
التي وفّرتها (الهيئة) لأهالي الرياض من أجل الإبلاغ عن
السحرة ليست مجرد تدبير تقني، بل تمثّل محاولة شرعنة عمل
الهيئة. فماذا تعني أن الخطوط الساخنة تلك ساعدت في القبض
على أكثر من 100 ساحر في الرياض خلال 12 شهراً، بحسب تصريح
لعضو في (الهيئة) لصحيفة (الوطن) في 21 يوليو 2007، والذي
قال بأن أكثر من 200 إتصال ترد يومياً إلى مركز الفاروق
والفيصلية وحده في الرياض، وتبلغ عن السحرة والمشعوذين
في مقابل مبالغ مالية لمن يساعد في القبض على ساحر.
|
الشيخ ابن باز: الاحترام
المتبادل بين الجن والإنس! |
وإذا ما تم خفض عدد الإتصالات الوهمية، أي تلك التي
يقوم بها أناس لمجرد الحصول على مكافأة مالية، فإن عدد
السحرة وحجم الاتصالات والامكانات المخصّصة لمكافحة السحر،
يشير إلى ظاهرة إجتماعية وثقافية غير مألوفة وغير مسبوقة،
وكأننا أمام مجتمع يعيش نصفه، تقريباً، تحت وطأة تأثيرات
لعالم السحر بإملاءاته المداهمة، وقد يوحي، على الأقل،
أن هذا البلد قد بلغ مستوى الإنفلات فيه حداً خطيراً وبات
مرتعاً لأشكال شتى من النشاطات غير القانونية.
يذكر مدير عام فرع الرئاسة العامة لـ (الهيئة) بمنطقة
المدينة المنورة الشيخ سليمان بن صالح التويجري أن (الهيئة
تضبط عشرين شخصاً في قضايا سحر وشعوذة خلال ثلاثة أشهر)،
وأن مراكز الهيئة تستقبل كثيراً من الشكاوى من ضحايا السحرة
والدجالين والمتضررين. ولهذا السبب تم إنشاء لجنة متخصّصة
في مكافحة قضايا السحر والشعوذة والدجل على مستوى المدينة.
وفي 23 مايو 2005 تم الإعلان عن إلقاء القبض على أكثر
من مائة ساحر، من الرجال والنساء، خلال عامي 2006 ـ2008.
وتثير قصص السحرة فضولاً عالياً، لكون كثير منهم بات يستعمل
اللغة الدينية في توفير (العلاجات) للزبائن، ما يزيد الأمر
تعقيداً سواء بالنسبة لمن يأملون في الحصول على وصفات
مثالية لأمراضهم، أو حتى بالنسبة للأجهزة الدينية التي
تمارس ذات الدور. في واقعة يرويها فرع (الهيئة) في المدينة
المنورة أن طبيباً أوروبياً من أصل عربي تقدّم ببلاغ اليها
بعد ملاحظته كثير من المتردّدين على (عيادة سريّة) لأحد
السحرة في فندق (خمس نجوم) بالمدينة. وكان الأخير يقدّم
نفسه لزبائنه على أنه (شخص متدين آتاه الله علما وقدرة
على علاج الحالات المرضية المستعصية)، ويزعم بأنه على
اتصال (بالأنبياء ومقابلتهم في اليقظة والمنام..ورية الملائكة
وسائر الأنبياء). وتبيّن لاحقاً أن الطبيب ـ الساحر لم
يكن مسلماً بل كان نصرانياً، وأنه يقيم في المدينة المنورة
بصفة غير رسمية لأكثر من سنتين. وعثرت (الهيئة) على (عدد
كبير من الرسائل التي يوهم بها الناس بأنها من رسول الله
صلى الله عليه وسلم إلى أشخاص يعانون من بعض المشكلات..).
ولحظ رجال الهيئة بأن (كثيراً من المشعوذين والدجالين
يتسترون تحت غطاء الطب الشعبي والرقية، ويتظاهرون بأنهم
رقاة وأطباء شعبيون.. تم ضبط عدد كبير ممن يمارس الشعوذة
والدجل بدعوى ممارسة الطب الشعبي أو الرقية الشرعية..)،
فيما وجّه رئيس فرع للهيئة في المدينة حديثه (للمواطنين
والمقيمين بأن يحرصوا على التحصن بالأوراد والتحصينات
الشرعية، وعدم الذهاب إلا لمن يوثق في دينه وأمانته من
الرقاة الشرعيين أو الاطباء الشعبيين). وكانت أحياء واسعة
من المدينة المنورة قد تحوّلت خلال الأعوام الثلاثة الماضية
مسرحاً لنشاط السحرة، وعمليات مداهمة لمقرّات إقامتهم،
التي يتوافد عليها الزوّار. وبحسب تفسير (الهيئة) فإن
كثرة من يمارسون أعمال السحر في المدينة المنورة يعود
إلى أن هؤلاء يريدون النيل من عقائد الناس وتشكيكهم في
دينهم باعتبار أن المدينة المنورة منبر للإيمان. ولكن
ما لا يجيب عنه هذا التفسير هو لماذا تكاثرت أعداد هؤلاء
السحرة في السنوات الأخيرة، رغم أن الأهمية الإيمانية
للمدينة ترتد إلى قرون عدّة، ولماذا بات استعمال وسائل
الرقية الدينية رائجاً بعد أن كانت مقتصرة على الرموز
والطلاسم الغامضة، ولماذا يحظى هؤلاء بشعبية واسعة كما
تكشف الأعداد الكبيرة من مرتادي مراكز السحر. يضاف إلى
ذلك، أن بيانات الهيئة حول السحرة تتحدث عن عنصر آخر ذي
طبيعة دينية، أي (نشر البدع والخرافات الشركية..)، وكأن
ثمة سحرة ينتمون إلى مدارس دينية متعدّدة مخالفة للمذهب
الوهابي. نشير هنا إلى أن أحكاماً بالسجن والجلد وربما
الإعدام طالت أفراداً من مذاهب إسلامية أخرى بتهمة السحر
والشعوذة لمجرد أنها تختلف مع المذهب السلفي.
تثير بعض قصص الأعمال السحرية الريبة في صحة وقوعها،
أو الطريقة التي جرى تقديمها. في قصة نشرتها صحف محلية
نقلاً عن مصدر بـ (الهيئة) أنها أطاحت ساحراً بعد ورود
بلاغ من أحد الأشخاص يشتكي من زوجته وأنه أصبح (خاتماً
في إصبعها) مبدياً شكوكه في استخدامها السحر ضده. وتضيف
رواية (الهيئة): وقد توجّه أحد المختصين من رجال الهيئة
إلى منزل الشاكي فعثر على (رأس خروف) تم دفنه في فناء
المنزل. وتختم إفادة (الهيئة) بالقول أن الزوجة إعترفت
بعد التحقيق معها بالتعامل مع أحد السحرة بهدف (المحافظة
على زوجها الذي يريد الزواج بأخرى).
في قراءة الرواية من زوايا عدّة، تبرز طائفة من الأسئلة،
أولاً حول السبب الذي يجعل تحوّل رجل إلى خاتم في إصبع
زوجته، وهل ثمة حاجة إلى عمل سحري، بالنظر إلى ما تملكه
بعض النساء من السحر بما يكفي دون (الاستعانة بساحر/صديق)،
فضلاً عن أن حالة كهذه قابلة للتفسير ضمن ظروفها الخاصة
المحيطة بالزوجين، أما دفن (رأس خروف) فسؤال كبير يثار
حول ثبوت الرابطة بين رأس الخروف وتحوّل الزوج إلى خاتم،
ما لم تكن حزمة الإيحاءات التي تسرّبت إلى المرأة قد منحتها
جرعة شجاعة زائدة وقوة تأثير استثنائية على زوجها، وما
إذا كان رأس خروف سيحول دون تنفيذ الزوج قراره بالزواج
من أخرى.؟
لا بد أن الطريقة التي تتم بها عرض قصص السحرة تجعل
من (الهيئة) أحد الوسائل الفاعلة في الترويج لمثل تلك
القصص، بالنظر إلى تقديم المعطيات التي تنطوي على قيام
السحرة بتنفيذ خوارق لاعقلانية، وقد تشي طريقة العرض بأغراض
أخرى تخص (الهيئة) ومجال عملها.
ما سبق يضيء على التصوير السلفي لموضوعات غيبوية مثل
الجن الذي يحتل مساحة وازنة في الأدبيات السلفية. وكان
المفتي السابق الشيخ عبد العزيز بن باز نشر توضيحاً حول
دخول الجني في الإنسي والرد على من أنكر ذلك. وجاء التوضيح
على النحو التالي: أما بعد . . فقد نشرت بعض الصحف المحلية
وغيرها في شعبان من هذا العام أعني عام 1407 هـ أحاديث
مختصرة ومطولة عما حصل من إعلان بعض الجن - الذي تلبس
ببعض المسلمات في الرياض - إسلامه عندي بعد أن أعلنه عند
الأخ عبد الله بن مشرف العمري المقيم في الرياض، بعدما
قرأ المذكور على المصابة وخاطب الجني وذكّره بالله ووعظه
وأخبره أن الظلم حرام وكبيرة عظيمة ودعاه إلى الإسلام
لمّا أخبره الجني أنه كافر بوذي ودعاه إلى الخروج منها،
فاقتنع الجني بالدعوة وأعلن إسلامه عند عبد الله المذكور،
ثم رغب عبد الله المذكور وأولياء المرأة أن يحضروا عندي
بالمرأة حتى أسمع إعلان إسلام الجني فحضروا عندي فسألته
عن أسباب دخوله فيها فأخبرني بالأسباب ونطق بلسان المرأة
لكنه كلام رجل وليس كلام امرأة، وهي في الكرسي الذي بجواري
وأخوها وأختها وعبد الله بن مشرف المذكور وبعض المشايخ
يشهدون ذلك ويسمعون كلام الجني، وقد أعلن إسلامه صريحا
وأخبر أنه هندي بوذي الديانة، فنصحته وأوصيته بتقوى الله،
وأن يخرج من هذه المرأة ويبتعد عن ظلمها، فأجابني إلى
ذلك، وقال: أنا مقتنع بالإسلام، وأوصيته أن يدعو قومه
للإسلام بعدما هداه الله له فوعد خيراً وغادر المرأة وكان
آخر كلمة قالها: السلام عليكم.
ثم تكلمت المرأة بلسانها المعتاد وشعرت بسلامتها وراحتها
من تعبه. ثم عادت إلي بعد شهر أو أكثر مع أخويها وخالها
وأختها وأخبرتني أنها في خير وعافية وأنه لم يعد إليها
والحمد لله، وسألتها عما كانت تشعر به حين وجوده بها فأجابت
بأنها كانت تشعر بأفكار رديئة مخالفة للشرع وتشعر بميول
إلى الدين البوذي والإطلاع على الكتب المؤلفة فيه، ثم
بعدما سلمها الله منه زالت عنها هذه الأفكار ورجعت إلى
حالها الأولى البعيدة من هذه الأفكار المنحرفة. ويمكن
مشاهدة التوضيح في موقع الشيخ بن باز على الإنترنت. وجاء
توضيح الشيخ بن باز على خلفية إنكار الشيخ علي الطنطاوي
حدوث هذا الأمر، الذي وصفه بأنه (تدجيل وكذب، وأنه يمكن
أن يكون كلاماً مسجلاً مع المرأة ولم تكن نطقت بذلك).
ورد الشيخ بن باز في 2 ذي القعدة سنة 1408هـ قائلاً: وقد
عجبت كثيرا من تجويزه أن يكون ذلك مسجلا مع أني سألت الجني
عدة أسئلة وأجاب عنها ، فكيف يظن عاقل أن المسجل يسأل
ويجيب، هذا من أقبح الغلط ومن تجوبز الباطل..وقال الشيخ
بن باز في رد على إسلام جني على يد إنسي بأنه أسلم جمٌّ
غفير من الجن على يد النبي صلى الله عليه وسلم. واستند
الشيخ على روايات في صحيحي البخاري ومسلم.
في المقابل، ورد في كتاب الشيخ بن باز (مجموع فتاوى
ومقالات متنوعة، ص 277) في الجزء التاسع، جمع وترتيب الدكتور
محمد بن سعد الشويعر ومثّبت في الموقّع الرسمي للشيخ بن
باز على الإنترنت أن محاربة علي للجن (كذب لا أصل له)
وشرح ذلك قائلاً (كل هذا لا أصل له، فلم يحارب الجن ولم
يقع شيء من ذلك، بل هذا باطل ومن الكذب والموضوعات التي
أحدثها الناس، وقد نص أبو العباس شيخ الإسلام ابن تيمية
رحمه الله على ذلك وقال: إنه كذب لا أصل له وهو من الأباطيل
التي افتراها الكذابون).
ويشتمل مجموع فتاوى الشيخ بن باز على آراء شرعية في
موضوع التلبّس بالجن، وقدراتهم الخارقة في التحكّم في
شؤون البشر. وفي جوابه عن سؤال ورد له في برنامج (نور
على الدرب) عن صحة دخول الجن جسم الإنسان، قال الشيخ بن
باز: نعم الجن تلتبس بالإنسان، تلتبس به على صفة خاصة
حتى تنطق على لسانه وتتكلم على لسانه بأشياء يعرف صوت
الجني من صوت الإنسي، وهذا واقع قديماً وحديثاً، وهو المجنون
الذي تلتبس به الجني هو المجنون يتكلم الجني على لسانه
أعطوني كذا، أعطوني طيب، اذبحوا لي كذا افعلوا كذا، ترى
في المحل الفلاني، بصوت يسمعه الناس غير صوت الإنسي وهذا
شيء يقع ومن أنكره فقد غلط وهذا التباس الجني بالإنسي
ولهذا يكون مجنوناً يختل عقله ويضطرب فإذا ذهب عنه وفارقه
رجع إليه عقله. وفي فتوى أخرى، طالب الجن بعدم الدخول
في أجساد الإنس، وأن تحكم علاقتهم قاعدة (الاحترام المتبادل)
(مسألة بعنوان: هل يجوز للجن أن يسكنوا في أجساد البشر؟
مثبّتة في الموقع الرسمي للشيخ بن باز على شبكة الإنترنت.
وكما يبدو، فإن الشيخ بن باز تبنى العقيدة الشعبية
في الجن، إن لم يكن ثبّت ما كان يروّج له من يدّعي التعامل
مع الجن، رغم ما تبطنه هذه الآراء من تعطيل لإرادة الإنسان
وحريته، بحيث يصبح مسلوب الإرادة، فقد يتحوّل عن ديانته
بفعل سكون الجن بداخله، بما يعتبر مخالفة صريحة مع آيات
قرآنية (فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر)، و(لا إكراه في
الدين)، بل إن الله سبحانه الذي وهب الإنسان القدرة على
اتخاذ القرار الحر لم يشأ التدخّل في إرادة الإنسان (ولو
شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعاً أفأنت تكره الناس
حتى يكونوا مؤمنين).
سئل عضو هيئة كبار العلماء الشيخ عبد الله بن جبرين
عن نكاح الجن، وإن كان يوجب الغسل؟ فجاء في الجواب: والغالب
أن الذكر منهم ـ أي من الجن ـ لا يلابس إلا الأنثى من
البشر، والأنثى تلابس الذكر من البشر، ويجدون لذة وشهوة.
ولكنّه توقف في مسألة التوالد، وقال (لا أدري هل يحصل
التوالد أم لا؟).
ولا يستند الشيخ بن جبرين على قرآن أو سنّة، ولا تجربة
شخصية ولكن بحسب قوله (هذا ما حكاه لنا من نثق به). وقال
بخصوص الغسل أنه متى حصل الوطء المعروف من الرجل لامرأة
من الجن أو وطىء رجل منهم إمرأة من الإنس حصلت الجنابة
ووجب الغسل لوجود سببه وهو الإيلاج الحقيقي أو الإنزال)
بحسب الشيخ بن جبرين، كما جاء في موقعه الرسمي على شبكة
الإنترنت.
ووافق ذلك رأياً للشيخ إبن تيمية حول الصرع الذي يصيب
الإنس، الذي قد يكون عن شهوة وهوى وعشق كما يتفق للإنس
مع الإنس، وقال الشيخ: وقد يتنكاح الإنس والجن ويولد بينهما
ولد وهذا كثير معروف. ويقول الشيخ ابن تيمية (وكر أكثر
العلماء مناكحة الجن).
ويرجع بعض العلماء أسطورة الزواج بين الجن والإنس إلى
الاسرائيليات التي دخلت في الثقافة الشفوية السائدة في
الجاهلية، حيث كانت المدينة المنورة مليئة بتلك العقائد
الخرافية، والتي لم تندثر تماماً، بل تسرّبت، أيضاً، إلى
الاشتغالات الفقهية، وأفتى بعض العلماء بأن حمل الزانية
غير المحصنة لا يطالها حد الزنى إذا إدّعت بأنها حملت
من جني.
ونشرت مجلة (المجتمع) الكويتية في 18 أغسطس 1987 مقالاً
نقدياَ حول الاهتمام الذي يوليه علماء المدرسة الوهابية
بموضوع الجن، وجاء في المقال أن: تجارب الحنابلة وابن
تيمية وابن القيم والأعمش وبن باز وبن عثيمين مع الجن
كثيرة وظريفة ففي عام 1407هـ بعد أقل من عشر سنوات تقريباً
من صعود أول إنسان على سطح القمر نشرت بعض الصحف المحلية
والمجلات إعلان بعض الجن الذين تلبّس ببعض المسلمات في
الرياض إسلامه علي يد بن باز وادعى البعض كالعمري المقيم
في الرياض أنه يشاهد الجن ويسمع كلامهم وكيف أنه يستطيع
أن يدعوهم للإسلام كما يدعوهم للخروج من النساء. ثم يتسائل
كاتب المقال: ولا اعلم سر تلبس الجن بالنساء من غير الرجال
وكيف يسمح لهم الإختلاء بهن؟
وهناك من يعتقد بأن بعض الجن يحضر من قارات بعيدة دروس
العلماء، ويسلمون على أيديهم، واللافت أن لون بشرة الجني
غالباً ما تكون سوداء، بل إن بعض التصويرات للجن في الأدبيات
السلفية قد وهبتهم قدرة على التحكّم في قوانين الخلق،
وإدارة شؤون الكون، بما ينزلهم منزلة الخالق. كما جاء
في كتاب (المنهج اليقين في بيان أخطاء معالجي الصرع والسحر
والعين) لمؤلفه أسامة بن ياسين المعاني.
وليس الامس القريب بغريب عن اليوم فنقلت جريدة المدينة
السعودية الجمعة 16-6-2006 ان راقي شرعي ربط بين جريمة
قتل وجني. وقال الشيخ سامي رشيد الروقي المعالج بالرقية
الشرعية (إن المرأة القاتلة كانت تأتي برفقة زوجها لمعالجة
إبنتها من السحر وكانت تحضر ضمن مجموعة من النساء في الصالة
المخصصة للقراءة والرقية الشرعية بالعيادة) ويضيف (إكتشفت
فيما بعد ان هذه المرأة تعاني من لبس جني وان ابنتها أيضاً
مسحورة). ويقول الروقي (أراد الجني المتلبس للمرأة أن
يتخلص مني وذلك بعد أن حملها على حمل السلاح والإتيان
به لمقر العيادة وفي الموعد المحدد للقراءة ..إذ فوجئت
واثناء قيامي بالقراءة المعتادة على مجموعة من النساء
بأن الناس تقول بأن هناك شخصاً قد قتل وحينها توقفت عن
القراءة وذهبت لأستطلع الأمر وإذ بي أشاهد رجلاً ملقياً
على الأرض وذلك بعد تعرضه لطلق ناري إستقر في صدره ورأيت
وقتها المرأة تصرخ على قيامها بهذه الفعلة وذهلت من هذا
الموقف وحاولنا أنا والحاضرون مساعدة الرجل وإنقاذه ولكن
المنية وافته في الحال). وأشار إلى أنه لم يصدّق عندما
علم فيما بعد أن المقصود بالطلق الناري هو وليس زوج المرأة
والذي وقع ضحية وذلك بدافع من الجني الذي لبس المرأة.
في تحليل هذه القصة المثيرة ما يبعث أسئلة غاية في
الجديّة، كونها تنطوي على تسويغات لجرائم كثيرة يمكن وقوعها
تحت مدعى سكون الجان في أجساد البشر، بما يضيع معه ملامح
الجريمة البشرية بامتياز. فكم من جريمة يمكن تخيّل وقعها
بإسم الجان؟ وكيف توصّل هذا القارىء ـ الشيخ إلى دليل
بأن الجني قد أخطأه وصوّب رصاصاته إلى الزوج؟
ما يمكن أن نخلص به من قراءة التراث الميثالوجي السلفي،
أن النزعة الخرافية المندمجة فيه تمثل التناقض العميق
بين ما هو عقدي نظري وبين ماهو عملي، ولذلك لا غرابة في
أن المصادر التي تنقل عنها المدرسة السلفية في موضوعات
ذات طبيعة ميثالوجية تنتمي إلى بيئة مزدودة مدرسية والإجتماعية،
بمعنى أنها مصادر خاصة لا تمثل مرجعية مشتركة مع بقية
المدارس الإسلامية. ولذلك فليس مستغرباً أن تنفرد هذه
المدرسة بآراء تعتبر في الرؤية الإسلامية العامة شاذة.
وفي الأخير، تبيّن أن الحرب السلفية التي أعلنت على ظواهر
السحر والشعوذة والمخاريق والجن وغيرها لم تكن حرباً عقدية
بقدر ماهي حرب نفوذ إجتماعي.
|