كاميرات (الهيئة)
الإختراق الإلكتروني للمجتمع
سعد الشريف
المقترح الذي تقدّم به الشيخ سلمان العودة في 7 مايو
الماضي بنصب كاميرات في الأسواق العامة لمراقبة المخالفات،
أدّت إلى اندلاع احتجاجات واسعة وسط طيف واسع من المواطنين
والإعلاميين الحقوقيين والعاملين في مؤسسات المجتمع المدني.
وقال العودة خلال ملتقي إعلاميي منطقة الرياض في مايو
الماضي (على الهيئة بقيادتها الجديدة الإستفادة من التقنيّة
ولقد اقترحت على الهيئة وجود كاميرات مراقبة في الأسواق
والأماكن العامة لرفع الحرج عن رجال الهيئة وستكشف هذه
الكاميرات أي مخالفة ووجودة أنظمة صريحة لمواجهة ظواهر
مثل التحرس)، بحسب ما جاء في جريدة الندوة في 30 مايو
الماضي. وقد رحّب مدير هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن
المنكر بمنطقة مكة المكرمة أحمد قاسم الغامدي بدعوة الشيخ
العودة قائلا: (لا أرى في استخدام كاميرات المراقبة في
الأماكن العامة بأساً، فعادة يتم تصوير الناس وهم في حياتهم
العامة).
ولكن الموقف بالنسبة للغالبية العظمى كان مختلفاً بل
ناقداً للمقترح وتطبيقه، كونه يمهّد السبيل لانتهاكات
واسعة من قبل (هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)
في وقت تزداد فيه الانتقادات للأدوار الاختراقية التي
يقوم بها هذا الجهاز، وإن المطالبة بتوفير مزيد من الدعم
المالي، بحسب اقتراح الشيخ العودة، يمنح (الهيئة) سلطة
واسعة تخترق خصوصيات الأفراد والعوائل، بحجة منع المخالفات
الشرعية، فضلاً عن أن إمكانية إساءة استعمال الكاميرات
من قبل رجال الهيئة واردة بقوة.
في مقالة عبد الله أبو السمح، التي نشرت في صحيفة (عكاظ)
في 8 يونيو بعنوان (خرق لحقوق الإنسان) تساؤل جوهري عن
صوابية نصب الكاميرات في الأسواق العامة، رغم كونه إجراءً
غير حضاري ومخالفة صريحة لحقوق الإنسان. ويرى أبو السمح
أن هذا التدبير يعني تحويل الأماكن العامة إلى ما يشبه
السجن، بما يخضع المجتمع إلى أجواء بوليسية، ثم ماهو المبرر
الشرعي والحقوقي والأخلاقي الذي يسمح بمراقبة الناس في
الأسواق العامة ومتابعة حركاتهم وسكناتهم خفية وتجسساً،
أضف إليه ما ينطوي عليه مثل هذا الإجراء من إهانة للناس،
بوضعهم موضع الشك الدائم، وأنهم موضع تهمة. ويثير ابو
السمح نقطة جديرة بالإهتمام وتتعلق بالمعايير المعتمدة
في تحديد ماهو حسن وقبيح في سلوك الناس، مستعيداً ما جرى
الشهر الفائت في قضية إمساك الزوج يد زوجته في الأسواق
والأماكن العامة.
وكانت صحيفة (الوطن) قد نشرت في 29 مايو الماضي آراء
أخصائيين في الطب النفسي ودعاة ومواطنين في المسألة. وفيما
يرى الأطباء النفسانيين بأن ارتباط أيدي الزوجين أثناء
سيرهما أو حتى جلوسهما مع بعض يشعر الزوجة بالأمان والزوج
بالحنان، فإن فقهاء المدرسة السلفية رأوا بأن ذلك لا يجوز
لما فيه من إثارة للفتنة. وبحسب عضو مجمع الفقه الإسلامي
الدكتور محمد النجيمي إن (ما تعارف عليه بين الناس أن
الإنسان لا يمسك يد زوجته في الأماكن العامة، وأن مسك
الرجل ليد الزوجة فيه نوع من الإثارة، ويجب على الإنسان
اجتناب كل ما هو مريب). وأضاف (أرى أن ذلك مخالف شرعاً،
ومن يدري الناس أنها زوجته).
وكان مواطن يدعى تركي سعد السالمي قد تعرّض للضرب في
شهر مايو الماضي داخل الحرم المكي على يد أحد ضباط الأمن
لأنه شاهد السالمي يمسك بيد زوجته. وقال في توضيحه لجريدة
(عكاظ) في 7 مايو الماضي بأنه كان يؤدي مناسك العمرة مع
زوجته التي ارتبط بها قبل خمسة أيام فقط من الحادثة، وعند
سيره وزوجته في المنطقة المركزية صادف وجود ازدحام بشري،
الأمر الذي دفعه للإمساك بيد زوجته حتى لا تتوه أو يحدث
لها مكروه، وأثناء حديثنا مع بعضنا، تفاجأت بشخص يلبس
ثوباً يقوم بفصل أيدينا عن بعضها، متلفظاً علي بألفاظ
مفادها بأني أخدش الحياء، فأخبرته بأنها زوجتي ومن حقي
أن أمسك بيدها، إلا أنه أصر على موقفه، مدعياً بأنه ضابط
أمني وتجمع حولنا الناس.
إذا كان الأمر على هذا النحو في مسألة إجتماعية ليس
فيها حكم شرعي بل يكاد العرف يشكّل أساسها الفقهي بالنسبة
لعلماء المدرسة السلفية، رغم أن هذا العرف ليس هو نفسه
في كل مناطق المملكة، ولا ينطبق على كل الفئات، وأن الأجهزة
الدينية تعاملت بهذه الطريقة من القسوة والارتجالية، فما
بالك بمشاهدات الكاميرا التي قد تسمح للهيئة بتفسيرات
مخالفة للواقع، بالنظر إلى أن الخلفية المتشدّدة لدى رجال
الهيئة لابد أن تعكس نفسها في (صيد الكاميرا) الخاصة بالهيئة.
ثم هل يجوز لأي كان، وحتى أمير المؤمنين، التجسّس على
خلق الله سبحانه وتعالى بحجة منع الرذيلة. ومتى كان ذلك
جائزاً في شرع الله، وهل يبقي ذلك على حد من الخصوصية،
ومن يعلم فقد يأتي من يطالب بنصب كاميرات فوق أسطح البنايات
العالية وعند مداخل البيوت وربما في أحواشها لمراقبة السلوك
العام للمجتمع ومنع وقوع المخالفات.
يذكّر أبو السمح رجال الهيئة ما تعنيه عملية نصب كاميرات
المراقبة بالنسبة لمن هم في الخارج، وماهو الإنطباع الذي
سيتشكّل لديهم من جراء مثل هذا التدبير خصوصاً (حين يقال
إن المواطن السعودي تحت المراقبة الأخلاقية..)، ويحيل
تحفّظاته إلى هيئة حقوق الإنسان كيما تكسر حاجز الصمت
إزاء القضايا ذات الحساسية الخاصة.
بالنسبة لأسماء المحمد من صحيفة عكاظ، حيث كتبت في
8 مايو مقالاً بعنوان (الكاميرات واستفزاز رجال الهيئة)
وتبدأ من المشهد الافتراضي في المراكز التجارية (ليس معقولا
أن تجتمع أسرة في مطاعم المراكز التجارية وتتناول النساء
الغداء أو العشاء وهن يعلمن أن كاميرات مراقبة ترصدهن،
ويحتجبن عن رجال المجتمع وتكشف الوجوه للرجال المتواجدين
أثناء مراقبة السوق خلف الكاميرات، ونحن نعلم بمزايا تلك
الكاميرات المصممة بحيث تلتقط الكثير من اللقطات عن قرب
وتوضح دقة الملامح، هذا لسان حال جدال العائلات حول هذا
القرار وما يحتشد في المجالس).
وتستعيد المحمد الإشكالية الجوهرية حول الجانب الحكمي
في السلوك العام، في ظل تسامح أو صمت أو غياب أحكام فقهية
على صلة مباشرة بالمسائل الإجتماعية المطروحة، كإمساك
اليد أو المرافقة في الأسواق العامة، حيث تخضع الأحكام
لذوق وتقييم وثقافة المراقبين للسوق من العاملين في الهيئة،
خصوصاً (في ظل عدم تدوين وتوضيح وإعلان ماهو الممنوع وما
هي عقوبته).
وترى المحمد بأن مناقشة موضوع الكاميرات جاءت متأخرة
كثيراً، كما تفهم ذلك من تصريحات رئيس الهيئات ووكيله،
من أن القرار صدر وتم الإنطلاق في تطبيقه قبل دراسته باستفاضة،
ولذلك تكتفي بطرح أسئلة من قبيل: ماهو شعور آباء وأزواج
وأشقاء يعلمون أن كاميرات مراقبة تلتقط أدق تفاصيل نسائهم،
وكيف تستعرض النساء بعض السلع وتعاين قبل الشراء؟ والذين
ستحد الكاميرات من تحرشهم أليسوا مرضى سيمارسون أمراضهم
بعيداً عنها؟ والمعاكسة عن طريق البلوتوث أو التقنيات
التي لاتلتقطها الكاميرات أية وسيلة ستراقبها؟ هل أخذ
برأي المجتمع المستهدف حمايته قبل إقرار التطبيق؟ من الذي
يقرر أن ماصدر من أحدهم (فتاة، أو فتى) يعد استفزازاً
لرجال الهيئة يوجب العقوبة، وماهي العقوبة، وماحجمها؟
وحسم عبد الله يحيى بخاري في مقالته المنشورة في صحيفة
(عكاظ) في 9 يونيو الجاري بعنوان (لا ..لكاميرات التجسس)
الموقف باعتقاده أن الوظيفة المنوطة بهذه الكاميرات تتجاوز
مراقبة السرقات والجرائم، فضلاً عن حماية المحلات التجارية،
أو حماية المواطنين والسكان وزوّار المحلات التجارية والسياحة
من الإزعاج والمضايقات والسرقات والإعتداءات، أو حماية
البنوك والمباني التجارية والمكتبية من جريمة سرقة أو
اعتداء جسدي أو ما شابه ذلك في الأماكن الي تحتاج إلى
مراقبة دقيقة لروّادها على مدار الساعة. فكل ذلك غير وارد،
بحسب بخاري، في أجندة (كاميرات الهيئة)، بل إن الهدف بحسب
الخبر المنشور في صحيفة (عكاظ) في 27 مايو الماضي هو معالجة
(الأخطاء التي يقع فيها الشباب لحمايتهم من الوقوع بها..!).
ويتساءل بخاري: كيف تتم المعالجة من خلال كاميرات التجسس؟
وماهي هذه الأخطاء التي يقع فيها الشباب (ولايقع فيها
الشيّاب مثلاً)؟ وكيف تستطيع الهيئة حماية الشباب من الأخطاء
التي يقعون فيها باستخدام هذه الكاميرات؟ هل تسجل صورهم
وحركاتهم وتصرفاتهم منذ دخولهم إلى المجمع التجاري، ثم
إذا قام أحدهم بعمل يخالف مبادئ الأخلاق العامة يُسأل
برفق واحترام أن يصحب رجال الهيئة إلى مكان خاص للتحقيق
معه، دون أن يشعر من حوله من الزائرين بذلك؟
واسترسالاً مع بخاري، نقول إذا كان الأمر متعلقاً بإساءة
أو تهديد أو ماشابه، أليس من مسؤولية أجهزة الأمن حماية
المواطنين، أم أن (الهيئة) وحدها المخوّلة للقيام بذلك،
خصوصاً وأن دور الكاميرا غير أخلاقي. فهل يفترض أن يلجأ
المتضرر ذكراً كان أم أنثى الى (الهيئة) أم إلى الشرطة
ورجال الأمن كيما يحافظوا على أمن المواطنين وسلامتهم
من الاعتداء، ما لم تكن قد أصبحت (الهيئة) جهازاً أمنياً،
مع الإقرار من وحي تجارب مستفيضة بأن الهيئة ليست على
قدر من الكفاءة الوعظية التي تحيل منها إلى جهاز تربوي.
ولذلك يتكرر السؤال مجدداً لدى بخاري حول ما هو لائق وغير
لائق وما هو شرعي وغير شرعي في تصرّفات الأفراد والأسر
كيما تخوّل الهيئة نفسها سلطة الحكم عبر كاميرات المراقبة.
وكيف سيتصرف رجل الهيئة إن شاهد أمراً من خلال الكاميرا؟
هل سيذهب إلى الشخص المشكوك في أمره ويهمس في أذنه، أم
سيقبض عليه أمام خلق الله ويزجره ويعنفه ويأخذه للتحقيق.
وماذا سيفعل رجل الهيئة إن رأى شاباً يمسك بيد أمه أو
أخته ليساعدها على السير وتجنب الإزدحام في مركز تجاري،
أو رأى أباً يقبل ابنته قبلة أبوية بعد أن اشترى لها هدية،
هل سيخرج رجل الهيئة من مخبئه ويقبض على الرجل وابنته
أو أمه ويواجههما بصورة الكاميرا ويطلب منهما إثبات صلة
القرابة؟. ما يخلص إليه بخاري في تقييمه لدور الهيئة ووظيفة
كاميرات المراقبة أن مهمة تجسّسية تقوم بها الهيئة في
الأماكن العامة.
أما خالد قماش فيستحضر في مقالته في صحيفة (عكاظ) في
9 يونيو بعنوان (من الخيزرانة إلى كاميرات المراقبة!!)
المشهد الحالي بعناصره المتناقضة، ففي عصر الحوار وتقارب
الأديان وتلاقح الحضارات واختلاط (حب المساقي بحب العثري)،
كما يردد أسلافنا في الجنوب عليهم سحائب الرحمة .. تلاشى
دور الخيزرانة شيئاً فشيئاً بدءا بجمس الهيئة ومروراً
ببيوتنا وانتهاءً بطوابير المدرسة! ولكن ظل أثرها عالقا
في طريقة التعامل والتحاور، واستحالت من جلد الأجساد إلى
جلد الذوات والنفسيات ومطاردة السيارات وحرب الشوارع على
الطريقة الأمريكية.لنصل كنتاج حتمي لسياق التقنية والتكنولوجيا،
حيث ثورة الكاميرات والرقيب المتضخم في مجتمع مسالم.
وبين علم النفس السلوكي وممارسات (الهيئة) يرسم قماش
المساحة التي تفصل بين ما يمكن أن تنجزه كاميرات المراقبة
وبين ما يجب أن تكونه الهيئة كرافعة لوعي المجتمع بالقيم
الإسلامية والإنسانية وتطبيق مبدأ الثواب والعقاب، بما
لا يخفي دعوته إلى الإصلاح حين يضع الوعي بالقيم النبيلة
ملتحماً مع (نظام تشريعي يحلق بجناحي العدل والمساوة).
ويذكّر (الهيئة) بانخفاض منسوب الوعي لدى عناصرها في مقابل
جرعة الحماسة الزائدة التي يحصلون عليها من خلال تفويض
شبه مطلق لمهامهم الدعوية. ولذلك يلفت إلى التجاوزات المتكرّرة
لصلاحيات الجهاز من قبل بعض عناصره بدافع حماس ديني ديني
أو تصادم مع كل ما هو حضاري ـ تحسين الصورة الغائمة أولا
.. والتي تشكـلت في وعي ولا وعي المجتمع إثر الحوادث الأخيرة،
ثم اتباع النهج الرباني في المناصحة وتغليب الظن الحسن
ومبدأ الستر والدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة ..ويكفي!
هكذا أراد قماش أن ينهي مقالته مقطوعة، تاركاً للقارىء
والمسؤول فهم البقيّة المشفّرة من الرسالة، والتي تدور
حول أن جهازاً بهذا الحجم والوعي يجعل تدجيجه بمزيد من
الأسلحة الحديثة متوحشّاً في انقضاضه على المجتمع الذي
يرى فيه مجرد وليمة وغنيمة.
كاميرات (الهيئة) كما جمسها، سيبقي مادة جدلية لبعض
الوقت، وقد يفتح أفق نقاشات واسعة لدور الهيئة المثير
للنقد منذ أكثر من عام، وإن ما وعد به الحنين من تطوير
لهذا الجهاز بدأ بالتهافت التدرجي، بل أثبت في ضوء تواصل
المخالفات المتكررة التي يقترفها عناصر الهيئة أن لا شيء
يمكن تغييرها، وأن الدعوة إلى زوالها باتت راجحة.
|