الليبرالية وتحديات الدين والسياسة في السعودية
عبد الوهاب فقي
على الضد من تاريخ نشأة التيارات الليبرالية في الشرق
الأوسط خصوصاً والعالم بصورة عامة، فإن نشأة التيار الليبرالي
في الإقليم الخاضع للنظام السعودي تمّت في سياق التحولات
التي شهدتها الدولة عبر برامج التحديث. فالدولة السعودية
التي تم الإعلان عنها رسمياً عام 1932 شهدت تحوّلاً تدريجياً
ضمن متطلبات عصرية تقوم على استحداث أجهزة دولتية وفق
شروط مختلفة. وكان من الطبيعي أن يطال التغيير مجالات
حيوية مثل التعليم والتنظيم الاداري والقانوني والمالي،
وصاحب ذلك استيعاب المنتجات التقنية في الجهاز الدولتي.
|
غازي القصيبي |
عكست التحوّلات تلك نفسها على النظام القيمي للمجتمع،
ورغم ما قيل عن نجاح استثنائي حققته الدولة السعودية في
امتصاص التكنولوجيا دون آثار أيديولوجية، فإن ذلك يصدق
جزئياً على مرحلة كانت تفرض فيها الدولة سيطرة شبه كاملة
على وسائل التوجيه والاتصال، ولكن منذ بدأ الانفتاح الاجتماعي
في الخمسينيات من القرن الماضي على الخارج عن طريق العمال
الوافدين العرب والاجانب، واستقدام المعلمّين العرب، وبدء
البعثات التعليمية الى الجامعات العربية (بيروت والقاهرة
حصرياً) والاجنبية الاوروبية والاميركية، وإدماج بعض القوانين
الحديثة في النظام القضائي والاداري لدولة، وإقرار المناهج
التعليمية الحديثة في مقابل نظيرتها التقليدية، كل ذلك
وغيره ساهم في تهيئة شروط ولادة تيار حديث يستمد قوته
واستمراره من حركة التحوّلات التي شهدتها الدولة نفسها.
ولذلك، أمكن القول بأن الاخيرة وبصورة قهرية تحمّلت ظروف
تكوين المولود الليبرالي منذ البداية. لا شك أنها لم تكن
تملك بديلاً آخر سوى القبول بوجود جنين يكبر في جوفها
دون أن تتباه بصورة رسمياً.
ربما كان المجتمع الديني السلفي أول من شعر بخطورة
ولاد تيار ليبرالي حداثوي يهدد وجوده في مجالات سيادية
كانت لفترة طويلة من الزمن حكراً عليه وحده مثل التعليم
والقضاء. عارض علماء الوهابية نشأة المدارس الحديثة على
أساس انها ستكون مدخلاً لنفوذ علوم الكفار والصليبيين
مثل الجغرافيا واللغة الانجليزية والعلوم الحديثة، وازدادت
حدة الخلاف بين العلماء والأمراء بعد إدماج القوانين الحديثة
في النظام القضائي، والذي اعتبره بعض علماء الدين مثل
الشيخ محمد بن ابراهيم المفتي الاسبق في عهد الملك فيصل
بأن ذلك بمثابة عمل بغير ما انزل الله، وقد نسج على منواله
عدد من علماء وطلبة العلم في المدرسة السلفية، وشكّلت
رسالة تحكيم القوانين التي كتبها الشيخ ابن ابراهيم للرد
على قرار ادماج قوانين حديثة في النظام القضائي للدولة
أساساً احتجاجياً لكثير من الذي ناكفوا الدولة في بعض
المراحل مثل جيهمان العتيبي، ومشايخ الصحوة في التسعينيات
من القرن الماضي، وصولاً الى جماعات السلفية الجهادية
المشتقة من تنظيم القاعدة.
حتى نهاية الثمانينات لم تكن للتيار اليبرالي كينونة
ثقافية واجتماعية واضحة سوى ما كان يمظهره من حضور ثقافي
واعلامي وأدبي، ولم ينشغل بعد سياسياً باستثناء الارتدادات
العابرة التي تتركها المناظرات الايديولوجية على صفحات
الجرائد أحياناً، ولكن مع اطلالة التسعينيات، وإبان حرب
الخليج الثانية على وجه الخصوص، بدأ التيار الليبرالي
ينشط سياسياً عبر عريضة تقدّم بها الى الملك فهد طالب
فبها بادخال اصلاحات سياسية واقتصادية وقضائية، وكانت
تلك أول تجسيد سياسي للتيار الليبرالي، فقد حاز على قصب
السبق في المبادرة الى رفع أول عريضة مطلبية الى الملك،
ثم لحقه السلفيون والشيعة وغيرهم في تقديم عرائض مماثلة.
ولأسباب معروفة، فإن النشاطية السياسية للتيار الليبرالي
غالباً ما تفتقر الى الاستمرارية ليس لعدم تماسك التيار
وغياب الضابط التنظيمي القادر على تفعيل حركته واستدامتها،
وانما لكونه متواشجاً مع الدولة نفسها التي يعمل فيها
ويحمل قيماً متقدمة عليها، اي بكلمة اخرى هو يمثل التطلع
المأمول والمنتظر في مسيرة الدولة، ولكنه لا يعدو أن يكون
مجرد دعوة هادئة لتحويلها، ولكنه قد يكون آخر من يدفع
الثمن لتغييرها خصوصاً حين لا يرى افقاً للقيام بخطوة
جراحية قد تهدد مصالحه الخاصة.
على أية حال، فإن معركة التيار الليبرالي لم تكن مع
الدولة، ولربما أرادت الاخيرة له ذلك، فمنذ التسعينيات
باتت المواجهة الفكرية بتفاعلاتها الاجتماعية بينه وبين
التيار الديني السلفي. ونتفق ما قاله شاكر النابلسي في
حلقة من دراسته عن التيار الليبرالي في السعودية والتي
نشرتها صحيفة (الوطن) بتاريخ 11 يوليو الماضي حيث ذكر
ما نصه (الليبرالية السعودية تواجه تحدياً من نوع آخر
في الداخل، وربما لا مثيل له في العالم العربي، وهو وقوف
صخرة التشدد والتطرف الديني في وجه تدفق نهر التغيير والتطوير
والإصلاح).
|
تركي الحمد |
ولابد من الاشارة الى ان المواجهة بدأت تطفو على السطح
في السبعينيات من القرن الماضي حين بدأت الدعوات الضمنية
والمباشرة الى تقليص دور المؤسسة الدينية المجسدّة بصورة
جلية حينذاك في هيئة الامر بالمعروف والنهي عن المنكر،
الامر الذي دفع بكثير من العلماء الى التعبير عن سخطهم
من تدهور الوضع الديني في المجتمع بحيث سمحت الدولة لمثل
تلك الدعوات بأن تنشر على صفحات الجرائد وأن يعبر عنها
بطريقة مباشرة. في الثمانينات اخذت المواجهة الفكرية شكلا
اجترارياً لموضوعات الجدل التي كانت مثارة في مصر وبلاد
الشام حول علاقة العلم بالايمان والايديولوجيا والدين،
وتولّت جرائد محلية مثل الرياض ومجلات مثل اليمامة نشر
هذه المناظرات وانتقلت فيما بعد الى جرائد اخرى.
لعل أهم ماحققه المحسوبون على الفكر الليبرالي انهم
كسروا بعض المحرمات الثقافية والفكرية من خلال ممارسة
فكرية ناقدة للرؤية الدينية المحافظة حيال موضوعات الفن
والمرأة والنقد الأدبي والرسم والثقافة الحديثة بصورة
عامة، وقد هال التيار الديني انه اكتشف بأن المؤسسات الاعلامية
الرسمية خاضعة لسيطرة التيار الليبرالي، وقد خصّص عدد
من مشايخ الصحوة حلقات من دروسهم الدينية والاجتماعية
وكذلك خطبهم السياسية في حرب الخليج الثانية لتقديم جرد
حساب تفصيلي لنسبة هيمنة ما كانوا يصفونه بالحداثويين
على الصحف والمجلات ومؤسسات الاذاعة والتلفزيون وحتى الاجهزة
الادارية التابعة للدولة.
حين أطلق الملك فهد العنان للتيار السلفي في بداية
الثمانينات لمواجهة آثار الثورة الايرانية على المنطقة
بصورة عامة، كان التيار هذا قد خصص جزءً من نشاطه لمواجهة
الفكر الحداثوي ايضاً، وتنبىء محاضرات عدد من مشايخ الصحوة
ابان حرب الخليج الثانية عن متابعة حثيثة لمسيرة التيار
الحداثي الليبرالي، الذي حمّله، جزئياً على الاقل، بعض
المسؤولية لما جرى من غزو نظام صدام حسين للكويت في اغسطس
1990.
اختار التيار الليبرالي حضانة الدولة دون الانشغال
بها، على الاقل هكذا كان حاله حتى التسعينيات، وهذا ما
سمح لبعض أفراده بالوصول الى مناصب عليا في الجهاز البيروقراطي،
ولكن ذلك لم ينجه من غضبة التيار السلفي الذي كان يرقب
نموّه غير المقبول في جسد الدولة، فقد شعر العلماء بأن
الدولة قد اختارت لها شريكة حياة أخرى غير المؤسسة الدينية
التي رافقت نشأتها ودافعت عنها بل وزوّدتها بالمقاتلين
والمشروعية الدينية على أمل الابقاء على مبادىء الاتفاق
المبرم بين الشيخ محمد بن عبد الوهاب والامير محمد بن
سعود سنة 1744م.
من المفارقات اللافتة، أن الليبرالية بما تنطوي عليه
من نزوع استقلالي ليس في التفكير فحسب بل وفي السلوك ايضاً،
وخصوصاً حين يتعلق الأمر بقوة ما تريد الحد من تحرر العقل
وانطلاقه وغالبا ما تكون الدولة التجسيد الأبرز لهذه القوة،
فإن هذه الليبرالية لم تهب هذه القيمة الى دعاتها في السعودية،
رغم ما يعرف عنهم من جموح متفجر نحو الاستقلال الفكري
حد الاستعداد للمواجهة مع خصومهم من خارج اطار الدولة.
|
عبدالله الغذامي |
الانفجار الروائي الذي بدأ بثلاثيات غازي القصيبي وتركي
الحمد ثم أخذ شكلاً فانتازويا مع ظهور رواية (بنات الرياض)
لرجاء الصانع ثم عشرات الروايات التي نسجت على منوالها
في إخراج المستور الاجتماعي، والذي اسبغ على العمل الروائي
ما وصفته الباحثة الاكاديمية مضاوي الرشيد بنزعة الجنسنة،
حيث تم تحويل الجنس مادة روائية مثيرة، عكس الى حد ما
شكلاً ليبرالياً متطرفاً في بعديه الاجتماعي والفني، وقد
سبب ذلك صدمة للمجتمع الديني السلفي الذي اعتقد حتى وقت
قريب بأنه ممسك بزمام التوجيه الاخلاقي للمجتمع من خلال
تكثيف الجرعات الدينية عبر الخطب والمحاضرات والنشريات
الشعبية والندوات السيّارة.
على النقيض من الرأي الذي ساقه النابلسي في حلقة من
دراسته عن الليبرالية السعودية في 4 يوليو الماضي بعنوان
(كيف نقرأ الليبرالية السعودية) حيث اعتبر العقل الليبرالي
السعودي بما حمله من قيم التسامح والتنوير، والاعتراف
بالآخر، وحرية الرأي والرأي الآخر، (التربية الوطنية السعودية
الحديثة، التي تدعو لها وتُطبِّقها على أرض الواقع السلطة
السياسية السعودية، من خلال مؤتمرات الحوار الوطني، التي
توالت في السنوات الأخيرة، بدءاً من العام 2003 وإلى الآن،
وكذلك من خلال حوار الأديان والحضارات الذي تبنته السعودية،
وأقامت له مؤتمراً عالمياً في مدريد عام 2008)، فإن ذلك
ينطوي على مغالطة فادحة، وتكشف عن اختزالية مشوّهة، ليس
فقط لكونه يخلط بين الليبرالية بوصفها تياراً فكرياً مستقلاً
والدولة، التي لم تتأسس على قاعدة مصادرة حرية الرأي بل
على أساس وصف الناقد الادبي عبد الله الغذامي للتيار الديني
ذات مرة بالواحدية، التي هي نتاج الدولة الراعية له، ون
كل ما يقال عن الحوار الوطني وحوار الاديان فإنه يجب أن
يخضع لقراءة من نوع آخر، أي سياسية بدرجة أساسية، سيما
بعد جلاء الأغراض التي من أجلها عقدت مثل هذه الحوارات.
وكان حريٌ به أن يسأل عن مآلات مثل هذه الحوارات الوطنية
والدينية على الحريات الفكرية في الداخل، وليس على أساس
مجرد انعقادها، وبامكانه العودة الى تقارير المنظمات الحقوقية
الدولية بل وحتى شبه الرسمية كيما يتعرف على قصص ضحايا
الحرية الفكرية.
صحيح أن ثمة حراكاً ليبرالياً ناشطاً لناحية تعضيد
المطالب المشروعة للمرأة في التعليم والتوظيف وقيادة السيارة
وتسنم المناصب العامة، وهناك دون شك عشرات من الكاتبات
الليبراليات في الصحافة المحلية بل في الاعلام الرسمي
وشبه الرسمي، بما يشير الى تنامي التيار الليبرالي، ويحمل
ذلك بذور تحولات مستقبلية جوهرية، كما ينذر بمواجهة شرسة
مع التيار التقليدي الذي سيناضل بكل قوة من أجل الدفاع
عن وجوده وامتيازات يفقدها تدريجياً تحت وطأة تحولات اجتماعية
وثقافية بوتائر متسارعة.
نتفق جزئياً مع ما قاله النابلسي في حلقة من دراسته
عن الليبرالية في 20 يونيو الماضي بعنوان (عوائق تقدم
الليبرالية السعودية) باستثناء وصفه اياها بأنها (بارومتر
العرب)، والحال ان مصر التي لا تزال تمثّل مركز الجاذبية
لكل أشكال التغيير الثقافي والسياسي في العالم العربي
هي من يمتلك هذه الصفة، وان التركيز الدولي فضلاً عن المحلي
وربما السعودي ايضاً المنصب على لجم الحراك الليبرالي
والاصلاحي في مصر يهدف الى تحييد فعلها الليبرالي الفكري
والسياسي كما حصل في عهد الزعيم جمال عبد الناصر.
اما فيما يرتبط بالعوائق، أو بصورة أدق التحديات، التي
تواجه التيار الليبرالي في السعودية، فإننا نتفق مع النابلسي
مع بعض التحفظ على كونها تتمثل في:
1ـ التيار الديني المتشدد (السلفي)، الذي ينظر الى
التيار الليبرالي على أنه يهدد تموضعه الاجتماعي والثقافي
والمالي.
|
شاكر النابلسي |
2- عدم تزامن وتطابق التطور الاجتماعي مع التطور الاقتصادي.
ونتج عن ذلك مقاومة اجتماعية لكل مظاهر الليبرالية، التي
جاء بها التطور الاقتصادي، والطفرات الاقتصادية المتتالية،
منذ بداية السبعينات من القرن الماضي حتى الآن.
وهناك عوامل اخرى ربما غفل عنها النابلسي رعاية لحدود
الحرية المسموح بها، ولكن يمكن الاضاءة عليها بقدر من
التحرر وهي:
ـ الطبقة الحاكمة أو بعض عناصرها النافذة: بصورة عامة
ليس هناك من أفراد الطبقة الحاكمة من يحمل ميولاً ليبرالية،
ولا شأن لذلك بالدولة التي تسلك مسارا ليبرالياً قهرياً
في سياق تحوّلها الاقتصادي والاداري والتحديثي، وقد سمعنا
وقرأنا تصريحات لأمراء كبار مثل الامير نايف وقبله الامير
سلطان عن رفض مبدأ الانتخابات وإشراك المرأة في عضوية
مجلس الشورى بل وفي قيادة السيارة، وأخيراً في الغاء مهرجان
للسينما. ولا بد من الاشارة الى ما واجهه الليبراليون
من تدابير قمعية من قبل وزارة الداخلية، وجرى اعتقال بعضهم
بعد مطالبة بانشاء لجنة أهلية لحقوق الانسان في مارس 2004.
ـ طغيان النزوعات الخاصة داخل التيار الليبرالي: بقيت
نزعة اللبرلة في السعودية في حدها النظري التجريدي، أي
ليبرالية فكرية وأدبية وعكست نفسها على السلوك الشخصي
للأفراد المصنّفين ليبرالياً، ولكن هذه النزعة ما تلبث
أن تتلاشى حين تصبح على محك السياسة، حيث يرتد أغلب الليبراليين
الى الانتماءات الفرعية (المذهب، القبيلة، المنطقة). وقد
يلحظ المراقب كيف تكسو الطائفية والقبلية والمناطقية لغة
من تشرّبوا الليبرالية فكراً وسلوكاً تحررياً في لحظات
أحوج ما تكون فيه الليبرالية الى التعبير عن نفسها في
هيئة حركة اصلاحية تغييرية في بنية النظام السياسي.
فقد تبيئت الليبرالية السعودية اجتماعياً وسياسياً،
فخضعت لممليات الانقسام على قاعدة اجتماعية وسياسية ومذهبية،
وتحوّلت الى مجرد ممارسة ثقافية وشكلية طفولية، ما جعلها
ليبرالية عقيمة على المستوى السياسي، حيث يعود أفرادها
الى الروابط البدائية التي زعموا بأن انتماءهم الليبرالي
قد حرّرهم منها.
|
رواية بنات الرياض |
هنا في هذا البلد تصبح الليبرالية ليبراليات مصنّفة
بحسب النزوعات التقليدية، فهناك ليبرالية نجدية وأخرى
حجازية وثالثة إسلامية (سنية وشيعية)، وليس من بينها ما
يمكن وصفه بليبرالية وطنية. فقد استجابت الليبرالية في
السعودية الى الانقسامات ـ والاستقطابات الاجتماعية والفكرية،
ما جعلها عاجزة عن أن تكون ليبرالية حقيقية فاعلة ومؤثرة
في المعادلة القائمة ورافعة لعملية إصلاحية منفتحة.
تثبت الليبرالية في السعودية بأنها أسيرة لخيارات الطبقة
السياسية الحاكمة ورهاناتها، الى حد توظيفها أحياناً في
معاركها الداخلية والخارجية، ولحظنا كيف يجنح الليبرالي
النجدي الى الطائفية الشرسة بحسب شكل الصراع الذي تخوضه
الدولة مع خصومها في الداخل والخارج. وبامكان المراقب
لمواقع ليبرالية سعودية على شبكة الانترنت وكذلك صحف سعودية
يديرها زعماً ليبراليون كيف تتلاشى الألوان المائزة بينها
وبين أشد المواقع السلفية طائفية (أنظر للمقارنة موقعي
الشبكة الليبرالية السعودية وطومار وموقع الساحات)، حيث
تتبدّل قائمة الموضوعات المتداولة من منظور ليبرالي الى
آخر طائفي.
وقد عانى الليبراليون في مناطق أخرى من غلواء النزوعين
الطائفي والمناطقي اللذين كانا يستبد بالليبرالي النجدي،
رغم أن نظراءهم في المناطق الأخرى لم يتحرروا هم أيضاً
من أمراض لا تقل خطورة من قبيل الانعزالية والمثالية والنزوع
النخبوي.
علاوة على ماسبق، فإن الإتجاه الليبرالي بقي أسير نرجسية
فارطة، ما جعل الحكومة في مأمن من تأثيراته السياسية،
فالليبراليون يناضلون من أجل مصالح خاصة وشخصية، وبلغت
به الهشاشة حد الاستعداد للتنازل عن قناعاته من أجل الارتهان
لمواقف الطبقة الحاكمة، حتى وإن تطلب الأمر نزع رداء اللبرلة
في حلبة المصالح.
يبقى أن من الخطأ الفادح الاعتقاد بأن الليبرالية كانت
تواجه خطر الفكر الاسلاموي القادم من الخارج وتحديداً
من مصر الاخوان المسلمين منذ الستينيات بعد انتقال أو
هروب عدد من قيادات الجماعة في عهد عبد الناصر الى المملكة.
والحال، أن الصراع الذي كانت تخوضه العائلة المالكة مع
زعامة عبد الناصر شجّع بعض قيادات ودعاة الاخوان المسلمين
الذين واجهوا تدابير صارمة من قبل الاجهزة الامنية في
مصر على السفر الى بلدان خليجية منها المملكة والاستقرار
فيها، وكان ذلك القرار بتحريض من العائلة المالكة نفسها
التي كانت ترى في عبد الناصر خطراً وجودياً عليها.
ليس هناك ما يشير في تلك الفترة الى مواجهة بين الليبرالية
والفكر الاسلامي العام، وحتى كتب محمد قطب وسيد قطب لم
تتسبب، بخلاف رأي النابلسي، في اشعال فتيل معارك أيديولوجية،
ولا حتى مذهبية. ومن الخطأ سحب مشهد المناظرات الفكرية
التي كانت تجري في بلدان عربية مثل مصر وبلاد الشام الى
الخليج عموماً.
يضاف الى ذلك، إن تحميل فكر الاخوان المسلمين مسؤولية
عطالة التحوّل نحو اللبرلة في السعودية ينطوي على تبرئة
ذمة الفكر السلفي المسؤول عن أشكال متطرفة وعنفية. لم
تكن السلفية السعودية بحاجة الى الاستعانة بفكر من الخارج
كيما تتحوّل الى مدرسة متشدّدة، أو تتموضع في أشكال تنظيمية
ذات طابع عسكري، فهناك في التراث السلفي الوهابي ما يكفي
من الأفكار والتجارب القابلة للتوظيف في أي منازلة فكرية
وحتى عنفية بين الاتجاهين السلفي والليبرالي.
فالنزوع التكفيري لم يتولّد من الاخوان المسلمين، وليس
من خلال (معالم في الطريق) للسيد قطب، أو (جاهلية القرن
العشرين) لمحمد قطب، فإن السلفية الوهابية نشأت على قاعدة
تكفير الآخر واعلان الجهاد ضده واحتلال أرضه، وهذا ما
تكشف عنه بجلاء شديد الوضوح أدبيات السلفية منذ أيام الشيخ
محمد بن عبد الوهاب وحتى الآن.
|
فهد.. أطلق العنان للوهابية
|
ما يذكره النابلسي عن دور استثنائي لكتابات القطبيين
سيد ومحمد في إعاقة مسيرة التحوّل نحو الليبرالية سوى
إعادة توجيه لتصريحات الأمير نايف بعد انفجار موجة العنف
الداخلي وتحميله فكر الاخوان المسلمين مسؤولية الظاهرة
العنفية، فيما يراد التعمية على المخزون العنفي الهائل
الذي يحتفظ به التراث الايديولوجي الوهابي على مدى قرنين
من الزمن (أنظر على سبيل المثال لا الحصر: الدرر السنية
في الأجوبة النجدية).
في الواقع لم ينشأ التناقض داخل السكّان في السعودية
إلا بعد أن بلغت السلفية المتطرفة سطوة جامحة فغمرت بحضورها
الكثيف المجالات الحيوية في المجتمع التعليم والتوجيه
منذ انطلاقة الموجة السلفية المتشددة في مطلع الثمانينات
من القرن الماضي، وبدأت خوض مواجهات فكرية متعددة مع الليبرالية
الحداثوية، والصوفية في الحجاز، والشيعة في المنطقة الشرقية،
وحتى مذاهب ومدارس فكرية خارج الحدود مثل الخوارج والاخوان
المسلمين لم تسلم من سهام السلفية الوهابية.
حينذاك فحسب بدأ التناقض بين ما يراد للواقع الاجتماعي
أن يكونه سلفياً، وبين ما ترنو الاتجاهات التحديثية أن
تصنعه وفق شروط ذات طابع ملبرل.
وقد لحظنا كيف أن الاتجاهين المتناقضين (الليبرالي
والسلفي) يخوضان منذ الثمانينات معارك فكرية متواصلة مازالت
مستمرة وقد تصل في بعض المناسبات الى حد استعمال القوة
السافرة. لا ننسى في هذا السياق رسائل التهديد التي وصلت
الى كتّاب ومثقفين ليبراليين بالتصفية الجسدية، وهي ظاهرة
لم تكن موجودة قبل تنشيط المفاعيل العنفية في العقيدة
السلفية. وربما لأول مرة شعر فيها الاتجاه الليبرالي بأنه
يواجه تحدياً جدياً لا يقف عند حد الحؤول دون ممارسته
حقه في التعبير عن ذاته فكرياً وعملياً بل بات مهدّداً
في وجوده أيضاً على مستوى الأشخاص وكتيار فكري واجتماعي.
يجدر لفت الإنتباه الى ان الإتجاه الليبرالي يعبر مرحلة
إثبات وجوده الوازن في مقابل الاتجاهات الأخرى ويفيد من
التحولات الاجتماعية والفكرية والاقتصادية على المستويين
المحلي والدولي، وقد يضطره ذلك في مرحلة ما من المواجهة
مع الدولة وحليفها الديني، ببساطة لأن مساري كليهما في
اتجاهين متناقضين، فبينما تتمسك الطبقة الحاكمة بنظام
تقليدي يقوم على احتكار السلطة وتوفير كل شروطه، بما فيها
الحد بقوة من الحريات الفكرية والسياسية وهو ما تتفق عليه
الطبقتان السياسية والدينية. ومصدر القوة الوحيدة الذي
يحوز عليه الاتجاه الليبرالي هو رهانه على التحوّل الاجتماعي
والاقتصادي محلياً ومناخ العولمة الضاغط على كل الدول
وخصوصاً في مجالين اتصالي واقتصادي بتداعياتهما الفكرية
والسياسية.
وهناك نقطة ضعف بنيوية في الاتجاه الليبرالي، أنه لا
يزال مبعثرا ولم ينجح حتى الآن في تنظيم صفوفه في إطارات
تنظيمية ومؤسسية يمكن لها أن تشكل قاطرات وقنوات استيعاب
للرأسمال الاجتماعي والفكري والحقوقي التي قد تنقله الى
مستوى التحديات التي يفرضها الإتجاه السلفي المتشدد بنزعته
الواحدية وكذلك الميول الاحتكارية لدى الطبقة الحاكمة.
|
المفتي: لا يجوز زواج الدولة
من الليبرالية! |
أضاء النابلسي (في مقالته في 13 يونيو الماضي في صحيفة
الوطن بعنوان هل لليبرالية السعودية فضائل وايجابيات)
على نقاط قوة (أو فضائل وإيجابيات بحسب توصيفه) لدى الاتجاه
الليبرالي ومنها: أنه يمثل حجر الزاوية في الحراك الاصلاحي
في كل مجالات الدولة والمجتمع. وثانياً، أن الليبرالية
مثّلت الثقافة السعودية المعاصرة بما تشمل من وراية وشعر
وسيرة ذاتية وبحوث اجتماعية. يقول النابلسي (لقد استطاع
فن الرواية وفن الشعر السعودي ـ مثالاً لا حصراً - أن
يقدما للثقافة العربية وللقارئ العربي أطباقاً ثقافية
جديدة، ذات قيم فنية وإنسانية). لابد من الاشارة الى أن
هذه النقطة تنطوي على اختزالية غير مقبولة ومصادرة في
الوقت نفسه لاتجاهات أخرى وازنة لا يمكن نكران وجودها
بما فيها التيار الديني بكل أطيافه، ومنها السلفي والتنويري.
نقطة ايجابية أخرى يرصدها النابلسي للتيار الليبرالي،
حيث اعتبره المساهم الأكبر في تطوير الاعلام وانفتاحه
في مجال الصحافة. ويصدق ذلك على الصحافة التي سمحت بممارسة
النقد، وتعرّض عدد من كتابها الليبراليين الى تدابير قمعية
من قبل الاجهزة الأمنية التابعة لوزارة الداخلية.
لاشك أيضاً ان التيار الليبرالي لعب دوراً رئيسياً
في تعضيد حقوق المرأة الاجتماعية والفكرية والسياسية،
والأهم من ذلك أنه ارتقى بالوعي المطلبي لدى كل الفئات
الاجتماعية كيما تقدّم رؤية مطلبية شاملة تتجاوز التطلعات
الخاصة والفئوية. وحتى التيار السلفي المتشدّد قد تأثر
بمفعولات الثقافة الليبرالية الأمر الذي جعلهم يختارون
التخفيف من حدّة الواحدية الأيديولوجية والسياسية في الحد
الأدنى، واستيعاب بعض مطالب الليبرالية في الحد الأعلى
كتبني بعض مشايخ الصحوة موقف إيجابي في مسألة قيادة المرأة
للسيارة. بل هناك من الإسلاميين، وبعضهم كان سلفياً متشدّداً
في فترة سابقة، من يجهر بليبراليته التي يضفيها على انتمائه
الديني، وخصوصاً الاسلامي.
في الوقت نفسه لابد من الانصاف الإقرار بأن إحجام التيار
الليبرالي عن الحوار لم يكن قراراً ذاتياً بل هو قرار
سلطوي بدرجة أولى، وليس ذلك على سبيل تبرئة الليبراليين
الذين عانوا من ويلات الاستبداد الشرقي وأصابتهم بعض شروره،
تضاف اليه بطبيعة الحال عوامل أخرى من قبيل انعزالية التيار
في مرحلة سابقة، وغياب بنية تنظيمية قادرة على هيكلة التيار
وتواصله مع الاطر التنظيمية الاخرى. ولربما دفع اليأس
من التغيير والاصلاح ببعض أفراد التيار الليبرالي الى
انزوائه وعلوه وقطيعته مع القوى الاجتماعية الاخرى.
|