أزمة الانتماء في السعودية
عقم الهوية بلا ذاكرة جمعية
عبد الوهاب فقي
كثير من الباحثين والعابثين في جداليات الهوية والانتماء
يبدأون بالسؤال البعدي: لماذا أخفقت المؤسسات الصغرى والكبرى:
الاسرة، المدرسة، الجامعة، الجامع، الجمعية، الشركة، الدولة
في إنماء مشاعر الحب والولاء والإنتماء؟ ألم يحن، بالنسبة
لهم، الوقت كيما يتخلوا عن سؤال استنكاري كهذا، برائحة
مقرفة لشهادات إدانة الآخر. فالسؤال المدخلي هو كيف تتشكل
مشاعر الانتماء، وكيف تتكوّن الهوية لدى جماعة ومجتمع
وأمة؟ هنا المنطلق للمقاربات الحقيقية والعلمية والنزيهة
لمسألة الانتماء، وليس ما بعدها.
في العدد السابق من (الحجاز) عرضنا جانباً من مشكلة
الهوية وهي الذاكرة التاريخية للدولة السعودية التي تجعل
من بناء هوية وطنية مستحيلاً. وقد نكون بحاجة الى مزيد
من الإيضاح، في ظل تساهل ساذج في مقاربة مسألة الهوية
انطلاقاً من عوارضها وأعراضها وليس انغماساً في جذورها
وجوهرها.
ومع الاذعان الى الحقيقة العلمية والتاريخية بأن بنية
الهوية غير ثابتة بل متغيّرة، من طور إلى طور ضمن عمليات
تفاعل تاريخي وثقافي واجتماعي مع الآخر، فإن ثمة ما يؤثر
فيها بشكل مباشر وصميمي.
فيض غزير من البحوث تعرّض لعلاقة الذاكرة والهوية،
من جهة دور الذكريات في تشكيل وشحن وزخم الهوية. والذاكرة
هي إعادة بناء للماضي، بحسب جويل كاندو، وهي مصدر الغذاء
الأساسي للهوية. والذاكرة هي المسؤول المباشر عن بناء
الهويات الجمعية، فما تحتفظ به الشعوب من ذكريات، قليلة
كانت أم كثيرة، لكل عصر يعاد إنتاجها باستمرار، كما يقرر
موريس هالبوكس في كتابه (الأطر الاجتماعية للذاكرة)، وتسهم
في تخليد الشعور بالهوية الجمعية، ولذلك قيل بأن الفرد،
كما الجماعات، تصبح عدماً بلا ذكريات، وتالياً تكون بلا
هوية، فالذاكرة، كما يقال، قوة الهوية. هل نقترب هنا من
نقطة خطر حقيقية في الهوية المراد فرضها في السعودية على
أنها وطنية؟ بلى بالتأكيد، فالهوية هنا يراد تشكيلها إما
من ذكريات صادمة ومآسي وتاريخ تعسفي مصبوغ بالدم، أو ذكريات
مجتزئة (إن كان ذلك ممكناً)، أو هوية ترتكز على وهم ذاكرة
أو ذاكرة مستعارة. كل تلك الخيارات الهروبية تضمحل سريعاً
وتفرض علينا مواجهة الحقيقة التالية: أن وظيفة الذاكرة
بناء الهوية، وهذه الوظيفة لا تتحقق على أكمل وجه إلا
من ذكريات أخذت مكانها في الميراث الإجتماعي والثقافة
الشعبية الشفاهية والمكتوبة، فقد يحتل الوهم جزءً من الذاكرة
الجمعية، ولكن لا يمكن له أن يبتلعها بصورة كاملة، وإلا
بلغت مرحلة فقدان الذاكرة، أي مرحلة تكون فيها الهوية
قد انفصلت عن مصدر غذائها.
وإذا كانت الذاكرة هي القابلة التي تولّد الهوية، فإن
الفرد الحامل لها يكون على استعداد تام لدمج بعض جوانب
الماضي في نفسه. فهل هذا واقع الحال في السعودية؟ وإذا
كان التعليم الحكومي هو المصدر الرئيسي لبناء الذاكرة
الجمعية، فإن ما يتلقاه الطلاّب في المدارس الحكومية يترك
آثاراً متضاربة، تبعاً للذاكرات الفرعية التي يحتفظ بها
كل طالب. وللمرء تخيّل كيف سيكون رد فعل طالب في الحجاز
أو الجنوب أو الشرقية يقرأ عن ماضي القتل في قريته، وهدم
البيوت، وتشريد النساء على يد أسلاف من يريد منه اليوم
أن يبني ذاكرته كيما تولد هوية الدولة التي بنيت بعد قتل
آبائه وأجداده، ومصادرة ممتلكاتهم، وسفك دماء شبابهم.
فالذاكرة التي تنتمي الى الهوية، بحسب مصطلح جانين بونتي،
هي بالدقّة العقدة غير قابلة للحل بالنسبة للدولة السعودية،
ولأن هناك أزمة ذاكرة فلا بد أن تكون هناك أزمة هوية،
وإلا كيف ستقنّع سكّان هذا البلد المتباينين إجتماعياً
وسياسياً ومذهبياً بأن لهم ذاكرة جمعية واحدة وهي المسؤولة
عن توليد الهوية المشتركة بالنسبة لهم. هذا الكلام يتداول
قبل أن يدخل العنصر الجديد: السعوهابي كقوة تقسيمية أعادت
تلك المكوّنات: المنطقة، القبيلة، المذهب، إلى زمن تشكّلها
الأولي.
لاعلاقة للذاكرة بالوعي، كما يطمح المتورّطون في الماضي،
فالذاكرة وإن كانت تبنى من خلال مستوى النشاط الذهني للمجتمعات،
إلا أن الوعي بها يبقى مسؤولية الاجيال اللاحقة التي (تتذكّر)،
ومن يراهن على العبث، أو لنختار مفردات ذات معان محايدة،
تعديل الذاكرة سواء عن طريق إعادة شرحها وتفسير محتوياتها،
فهي تبقى محاولات جارية على كل ما له علاقة بما (حدث)،
أي كل ما قرّ في الذاكرة والوجدان والعقل، بكلمة أخرى
يصبح كل مجال النشاط الذهني الانساني قابلاً للتعديل.
ولكن ما لا نقدر على تعديله، أن الهوية تلحّ في إخبارنا
بأن الذكريات وحدها المائدة التي تتغذى عليها، والمضادات
الحيوية التي تعيشها وتحميها.
أزمة الهوية في السعودية نابعة من أزمة الذاكرة الجمعية.
تعريف الذاكرة الجمعية بأنها مجموعة من الذكريات المشتركة
بين جماعة من الجماعات. وما هو مشترك بين من يقعون ضمن
مجال تأثيرها نادر للغاية، ففي الذكرى الواحدة هناك ضحايا
وهناك جلادون، وخاسرون وفائزون، ومنتصرون ومهزومون..فكيف
يمكن لذاكرة جمعية أن تبنى على قاعدة الإحساس بالفخر والمجد
وكل مافيه حروب وغزوات ودماء وانتهاكات لمناطق ومجتمعات.
وإذا كان وعاء الذاكرة الجمعية لا يقبل الجمع بين مشاعر
متضاربة، فإنه يوزّعها بحسب الموقف من محتوياتها. فبالنسبة
للنجدي الوهابي المنتصر، فإن الذاكرة الجمعية بكل مافيها
تشكّل مصدر فخر واعتزاز بالنسبة له، ما لم يكن ثمة من
يشعر بالعار لأنه فخر مغموس في دماء الأبرياء في المناطق،
وهذا يستوجب أدلة دامغة ومتكررة. أما بالنسبة للحجازي
والجنوبي والشرقاوي، فإن لكل منهم ذاكرته الجمعية الخاصة
به، بحسب ما جرى من حوادث في منطقته من وقائع دموية، وتصرّفات
تعسفية، وهي دون ريب تشكّل ذاكرة مقلقة، مفزعة، مخزية،
مهينة، وتسهم في بناء هويات من نوع آخر، مضاد للهوية المشتركة
المفروضة من قبل المنتصر والقاهر. وهنا لفتة دقيقة تتعلق
بالموقف من الذاكرة، وتتصل بالطبع ببنائها أيضاً. فكل
ذاكرة لا تنشيء متحدّ مشاعر تصبح عقيمة، وتؤول الى صنع
أزمة هوية.
جانب آخر، أن بناء الذاكرة يكون سهلاً بين التجمّعات
أو المجتمعات التي يعرف أفرادها بعضهم بعضاً، أي تنعقد
بينهم رابطة ما، الدم، الثقافة، اللغة، العقيدة، الجغرافيا،
المصالح الاقتصادية، المناشط التجارية. في مثل هذه التشكيلات
تتولد بطبيعة الحال ذكريات وتبنى الذاكرة الجمعية التي
تصوغ هوية كل منها. ولكن ما إذا كان ثمة تباعد بفعل عوامل
طبيعية أي قهرية أو قصدية، فلا يمكن تشكّل ذاكرة مشتركة
بينها، وإذا ما ارتبطت ببعض الذكريات فإنها تكون غير منظمة،
وضعيفة. بينما بالنسبة للجماعات المغلقة كما في أفريقيا،
وهي كما يصفها جويل كاندو، بأوساط الذاكرة، فإن الذاكرة
الجميعة تكون منظمة وقوية.
في حالة السعودية، لا يمكن بأي حال الحديث عن مجتمع
واحد، فنحن أمام حالة سكانية غير منظّمة حتى وإن جمعها
إطار جيوبوليتيكي واحد. فهناك مجتمعات متعدّدة كانت موجودة
قبل قيام الدولة، وجاءت سياسات التمييز بحسابات مختلفة
مناطقية وقبلية ومذهبية، وعزّزت الواقع التعددي، حتى صار
مصدر قوة في النظام، الذي يبقي على وحدته من خلال الإبقاء
على إنقسام السكان. بإمكان المرء الوقوف على تعدد الذاكرة
من خلال الوقوف على مصادر تغذيتها، ويظهر ذلك بوضوح من
خلال جمع ثلاثة أفراد من مناطق متفرقة ولتكن الحجاز ونجد
والمنطقة الشرقية. فكل واحد منهم يستدعي ذكريات ليست محفوظة
في ذاكرة الآخر، ولا نتحدث فقط عن الذاكرة البعيدة، بل
الذاكرة القريبة التي يفترض أن تشكّل نقطة بداية تشكّل
الذاكرة الجمعية.
لنتصوّر أيضاً كيف يستدعي النجدي ذكرى بطولات أجداده،
التي لا تخلو من عمليات نهب وغصب، ويعتبرها مجداً خالداً،
فلا يرى هويته مفصولة عن الأمثال البطولية تلك، فيما يستدعي
الحجازي أو الجنوبي أو الشرقاوي ذكريات من نوع آخر، لا
تبعث سوى على الحزن، والغضب، وربما مشاعر الانتقام. والسؤال
هنا هل يمكن الجمع بين هاتين الصورتين لناحية تشكيل متحد
هوية؟ بالطبع كلا، بل ما يجري هو عكس ذلك تماماً، أي أن
تقوم كل جماعة بابتكار تاريخها الخاص، وتشكيل ذاكرة تنتمي
إليها وحدها وتختلف عن، بل بما تكون رد فعل على، ذاكرة
الجماعة المجاورة أو المتخاصمة معها، وهو ما يؤكّده ف.
زونابن في كتابه (الذاكرة الطويلة، الزمن والتاريخ في
القرية، أنظر الفصل الأخير: الذاكرات والهوية).
ولأنه لا يمكن لجماعة أن تعيش بلا هوية، وقبل ذلك بلا
ذاكرة، فإن عملية بناء الذاكرة تبدو غاية في التعقيد بالنسبة
لدولة بنيت بطريقة غير طبيعية وليس وفق إرادة جمعية، أو
تعاقد إجتماعي. وهنا ننتقل الى المفصل الآخر في الذاكرة
المولّدة للهوية، وهو جانب من محتوياتها. كل مظاهر المجد
والإنشاد قد تتحول، أحياناً، إلى مجرد صور مخزية في النفاق،
والدجل، وليست بالضرورة تعبيرات أمينة عن فخر بهوية ما،
لا تزال غير واضحة في تعريفها كما في أطوار تشكّلها بالنسبة
لمن يطالبون بها اليوم. بالنسبة لآل سعود، ليس مهما التعرّف
على قوانين ولادة الاشياء وموتها، فما هو مهم هي العيش
فيها والقبول بوجودها قصيراً كان أم طويلاً.
في مقالة بعنوان (مِــن رَحِم الإقصاء هل يولد الانتماء؟!)
لكاتب يدعى عبد الله الجميلي في صحيفة (المدينة) في 31
مايو الماضي، بدا لي أن العنوان قد وقع على نقطة جوهرية
في موضوع الهوية. ولكن كانت خيبة الأمل واضحة من السطور
الأولى، حيث كسي المقال برداء من الدعاية الساذجة، التي
تقوم على تبرئة وتنزيه الذات وإدانة الآخر. فقد حمّل التربية
الاسرية والمدرسية والمجتمعية مسؤولية ترهّل الانتماء
للوطن، وإهمال هذه الأطر الاجتماعية لمهمة تغذية هذا الجانب
وسط الناشئة. ما يلفت الكاتب أيضاً إلى أنه استعرض ما
دار في ندوة عن الانتماء الوطني، ركّز فيه على كل ما له
علاقة بالوطن، الافتراضي بطبيعة الحال، فيما أهمل كل ما
له صلة بالمواطن، وحقوق المواطنة، فسلّط الضوء على (التأصيل
الشرعي لمفهوم الوطنية، والتأكيد على الحقوق الشرعية للوطن،
وتوضيح الآثار السلبية المترتبة على الإخلال بالانتماء
له). لغة لا تختلف كثيراً عن السلطوي المتستّر بشعارات
نبيلة. فالكاتب يطوف في جولة موغلة في الصرامة الثقافية
والوجدانية، كيما يخبر كل المؤسسات والعاملين فيها عن
لائحة إرشادية لكيفية تحقّق الانتماء الوطني، ويخبر المعلّمين
بأن رسالة التعليم هو (تحقيق الانتماء الوطني)، كذلك الأمر
بالنسبة للمناهج الدراسية، والنشاط الطلابي. ولم يغفل
الكاتب دور المناسبات العامة في المملكة السعودية في تحقيق
الإنتماء الوطني، وكان حري به أن يستبدل عامة بخاصة يراد
تعميمها، فاليوم الوطني هو ليس سوى يوم خاص باحتلال قوات
ابن سعود وجيشه العقائدي الممثل في الاخوان لباقي المناطق.
ما تسبب في خيبة الأمل حقاً هو المعنى المقصود من كلمة
(الاقصاء). فالكاتب لم يرد أن يزيد ويستدرك على الفكرة
الابداعية بأن مشاعر الانتماء لوطن لا يمكن أن تتشكّل
في وجدان جماعة تعاني الاقصاء والتهميش. ما عناه بالتحديد
أن فكرة الانتماء مازلت غير قارّة في ثقافة المجتمع حتى
تنتقل الى الوطن، فهناك تيارات فكرية ترى في الآخر خصماً
لها، فتقصيه لمجرد إختلافها معه.
في مقالة للكاتبة أميرة كشغري في صحيفة (الوطن) في
10 سبتمبر الجاري، بعنوان (سؤال الهوية والمواطنة)، محاولة
أخرى لمقاربة المسألة الشائكة في هذا البلد، وحول تضارب
الانتماءات وصدام الهويات. ما لفتت إليه كشغري في مسألة
الهوية، أن ثمة مفاضلة تجري أحياناً بين الانتماء للوطن
إزاء الانتماء للأمة. حقيقة الأمر، أن هذه المفاضلة تعود
الى جداليات الفكر السياسي الاسلامي منذ بداية القرن الماضي
(العشرين)، حول الجامعة الوطنية والجامعة الاسلامية. ولكن
لا بأس بإثارة نقاط جادة في هذا الصدد، ولا بد من تقرير
حقيقة أننا هنا نتعامل مع فرضيات أكثر من كونها وقائع،
فليس هناك (وطن) بالمعنى الحقيقي، وليس هناك كذلك (أمة)
بالمعنى التاريخي والتيولوجي، وبالتالي فالحديث عن إنتماء
يحوم في فضاء طوبيات متخيّلة. ومن المزعج حقاً أن يتم
الحكم على هذه المثل التي لم تتحقق في حدها الأدنى في
أي من الدول العربية والإسلامية، فلا هي أوطان ولا هي
مشروع أمة.
إنا ما تعتبره كشغري تغليباً لحس على آخر، أي للأمة
على الوطن، ليس أكثر من تغليب لطوبى على أخرى، وليس من
المثال على الواقع، أو الاستاتكو، فالوطن كما الأمة كائنان
غائبان حتى الآن. فليس ثمة شروط وطنية ولا أممية قد تحققت
في هذا البلد، وإن مجرد الانغماس في جدل الهوية والانتماء
لا يغني عن العودة الى نقاط البداية الأولى في تشكّل مشاعر
الانتماء والهوية.
وحتى يكون هناك وطن، لا بد من مواطنة مكتملة الشروط،
وكيما تكون متوفّرة، لابد أن يكون هذا الوطن حقاً عاماً
مشتركاً، وفيه تشكّلت ذاكرة جميع أبناء هذا الوطن الافتراضي،
والذي منه تولّدت هويتهم. وليس بهوية وطنية تلك التي تقوم
فقط على مجرد الإطار الجيوسياسي القهري، واللغة المشتركة،
والدين الواحد (مع لفت الانتباه الى كونه غير توحيدي فالتمظهرات
المذهبية تغلب على الانتماء الديني العام). وسيحتدم بطبيعة
الحال خلاف واسع حين يطلق زعم مفاده أن اختلاف المواطنين
السعوديين في جوانب الهوية (لكنهم يتفقون ويشتركون في
المواطنة). وهذا يفترض حضور الحقائق جميعاً في مثل هذه
الدعوى، المرتبطة على الأقل بالمساواة الاجتماعية والاقتصادية
والسياسية.
|