سجاليات مفتوحة
الوطن في الوعي السلفي
عمر المالكي
لم يعد ممكناً أن تحسم الجداليات في مفاهيم مشتركة
بين الديني والمدني بمجرد توضيحات عابرة أو لفت نظر، فالقضايا
الخلافية لم تأخذ طابعاً فردياً، ولا جزئياً بل هي تضع
منظمومات أيديولوجية متنافرة في مواجهة ذاتها أول مرة،
وفي صدام متبادل بين كوكبتين مفهوميتين تارة أخرى. ربما
كان الأمر مستهجناً، أن يفشي السلفي موقفه من المفاهيم
والكيانات الحديثة، التي تتناقض بطبيعة الحال مع تكوينه
العقدي، أو ما يعتبره افتئاتاً على مجال سيادي يختّص بمنظومة
عقدية دون سواها، على أساس انغلاق المنظومة على ذاتها،
أو على قاعدة زعم الإمتلاء التام، والقدرة على إنتاج كل
ما يحتاجه المؤمنون في شؤون دنياهم، دون حاجة للاستعانة
بمنظومات أخرى سواء بصورة مؤقتة أو دائمة.
يخبرك اللاوعي السلفي، بأن العيش في واقع ما لا يعني
القبول به، بل إن قبول جزء منه لا يبطن رضوخاً مجانياً
للأجزاء الأخرى، حتى المنبوذ منها. وقد واجه التيار السلفي
منذ نشأة الدولة أسئلة ذات صلة بقائمة (الأولويات)، تبدأ
بالدولة أو الوطن في مقابل الأمة، ثم تتنزّل الى القوانين:
الشرعية أو الوضعية، وولاية الأمر هي للعالم أم للأمير،
وينفتح أفق المساجلات على كل الموضوعات التي تدخل في مجال
الثنائية الضدّية، أو المتقابلة.
في سياق السجال الدائر حول الكيان الجيوبوليتيكي، يتجدد
الجدل حول الأمة والوطن، على قاعدة أيديولوجية، بما تنطوي
عليه من اشتراطات اجتماعية وسياسية وتشريعية. وتحتفظ الأدبيات
السلفية بمواقف صلبة إزاء ما تعتبره بدعاً ومتشابهات مع
الكفّار، في الاعتقاد بالوطن بوصفه كياناً نهائياً للمسلم،
وقد يضمر ذلك الموقف رؤية دينية تقوم على اعتبار كل كيان
قائم منقوص الشرعية، ما لم يكن مشدوداً وموصولاً بمشروع
إقامة دولة الأمة أو الخلافة، أو ما يطلق عليه الشيخ إبن
تيمية (الإمامة الكبرى).
لم يكن توصيم الوطن بـ (الوثن) عبارة سلفية منفلتة
أو انفعالية، بقدر ما تمثّله من تكثيف شديد لرؤية عقدية
راسخة في الوعي السلفي عموماً. فلن تجد من بين علماء المدرسة
السلفية في المملكة من يوصّفها بالوطن، بل يرفضون أن تكون
كذلك، من منطلقين ديني، وحتى سياسي، لما في الأخير من
التزامات قاسية، من وجهة نظرهم.
كلما أريد للوطن المأمول أو المزعوم التعبير عن نفسه،
كان للعالم السلفي موقف مضاد، فهو لا يقبل أن يمر الوطن
هذا دونما رأي شرعي فيه. في كل مرة يحتفل بالوطن، أو بأي
مناسبة تتّصل به، ينبري أحد المشايخ لتسجيل موقف عقدي
من ذلك، كما يظهر بجلاء في فتاوى العلماء حول الاحتفال
باليوم الوطني، والتي تصدر غالباً قبل أو في أو بعد المناسبة.
يدرج العلماء الوطن في سياق التشبّه بالكفار، وأنه
ليس سوى بضاعة مستوردة من خارج المجال التشريعي الديني،
ما يجعله مسلوب الشرعية، ولذلك حاربوا فكرة الوطن كيما
لا تتسرّب الى ثقافة المجتمع، الذي يفترض أن يكون خاضعاً
بصورة كاملة تحت توجيه العلماء.
فقد جدّد الرئيس العام لشؤون المسجد الحرام والمسجد
النبوي صالح الحصين في 7 أكتوبر الجاري دعوته لطلبة العلم
الى مقاومة فكرة ما أسماه (الغلو في الوطنية)، التي قال
بأنها تسرّبت للمجتمع، ووصفها بأنها غير (متلائمة للقيم
الإسلامية) وأنها (تقوم على التمييز بين المواطن والمقيم،
لأن ذلك التمييز ليس موجوداً لدى الشعب ولكنه لدى فئة
من الموظفين).
وقال الحصين في محاضرة بعنوان (الحوار الوطني وأثره
في تعزيز الوحدة الوطنية) ألقاها في جامع إسكان أعضاء
هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية (أن
الوطنية عبارة مستوردة تعني مفهوماً معيناً، لكن هذا المفهوم
ليس واضحاً، إذ إن هذه العبارة في سندها الفكري تختلف
من زمان إلى زمان، ومن مكان إلى مكان آخر، ومن شعب إلى
شعب آخر). وأوضح الحصين بأن ثمة حاجة إلى إعادة وعي مفهوم
الوطنية (على أساس الجماعة في الإسلام بكل مضامينها من
الولاء لبعضهم، وأوسع بكثير من فكرة الوحدة الوطنية).
وأضاف أن (مفهومنا للوحدة الوطنية هو مفهوم الجماعة في
عقيدتنا الإسلامية بكل ما تُبنى عليه وبكل أسسها ومضامينها).
وهذا التفسير للوطنية يلتقي ضمنياً، إن لم يكن حرفياً،
مع ما قاله سليمان بن عبد الرحمن الحقيل، أستاذ التربية
بجامعة الامام محمد بن سعود الإسلامية في كتابه (الوطنية
ومتطلباتها في ضوء تعاليم الاسلام) حيث شدّد في أكثر من
مكان على إن الوطنية التي ندعو اليها هي مستقاة من تعاليم
الاسلام، التي لا تعني شيئاً آخر ما خارج الفهم السلفي.
اللافت في كلام الحصين ما اعتبره سلبيات غير إنسانية
وغير حضارية، وبالنسبة له، حسب قوله، غير إسلامية لفكرة
الوطنية. (أنظر صحيفة الحياة، 8 أكتوبر 2009).
في حقيقة الأمر، ليس ثمة جديد في كلام الحصين عن الوطن
ومتوالياته، فقد عكس بأمانة تامة الرؤية السلفية، القائمة
على اعتبار الكيانات الجيوسياسية معلولة، وقاصرة، وغير
شرعية، مالم تكن كياناً انتقالياً، باتجاه الكيان الكبير،
الذي قد يبطن احتجاجاً على وقف الجهاد، كما عبّر عنه قادة
جيش (الاخوان) في العشرينيات من القرن الماضي، وخاضوا
معركة عقائدية مع ابن سعود من أجله. الجديد في كلام الحصين
هو ما اعتبره غلواً في الوطنية، في إشارة الى ارتفاع نبرتها
في الاعلام السعودي الرسمي، ما يثير حفيظة المؤسسة الدينية،
التي وقفت أمام انبثاث هذا النوع من الأفكار (الدخيلة)
على (الأمة)!
في رد فعل على كلام الحصين، نفر الكاتب الليبرالي حمود
أبو طالب لتقديم وجهة نظر مقابلة، وكتب مقالة في صحيفة
(المدينة) في 10 أكتوبر الجاري بعنوان (أنا وطنيّ .. فهل
لدي مشكلة؟؟)، بدأ فيها برسم مسافة احترازية من تصريحات
الحصين، للتيقّن من صدورها عنه، ولكّنه مالبث أن استحضر
مفهوم الأمة الذي يرفعه تنظيم القاعدة، ليضعه مسطرة لقياس
كلام الحصين. يقول أبو طالب (والشيخ صالح خير من يعرف..أن
إلغاء مصطلح الوطن والوطنية هو من أبرز أدبيات الحاملين
لفكر إقامة دولة واحدة من مشارق الأرض إلى مغاربها، ويقترفون
ما يقترفون تحت غطاء الجهاد لتحقيق هذا الوهم..). في إشارة
الى تنظيم القاعدة التي حملت لواء الأمة، لتبرير مشروعها
الجهادي.
لم يتردد أبو طالب في الدخول الى حلبة السجال المفهومي،
لمقاربة مسألة الوطن ومتوالياتها، فهو يرى بأن ثمة غموضاً
في كلام الحصين فيما يرتبط بتطوّر مفهوم الوطن زمكانياً.
ولكنه ما يلبث أن يقع على النقطة الفاصلة في الجدل، حين
يأتي على الوطنية في مجالها الاسلامي، ويرى بأن لا تعارض
مع الوطن والدين، على أساس (أن أوطانا أخرى تختلط فيها
ديانات مختلفة ولكن لا يتعارض ذلك مع مصطلح أو مفهوم الوحدة
الوطنية، وبالتالي نحن أولى أن نتحدث عن الوحدة الوطنية
لأننا في وطن واحد وعلى دين واحد والحمدلله..). وحاول
أبو طالب أن يجد مساحة تسامحية في كلام الحصين في ضوء
اللبس المحفوف ببعض عباراته من قبيل (أن فكرة الوطنية
أنشأت سلبيات غير إنسانية وغير حضارية، وبالنسبة لنا غير
إسلامية)، ووجه ابو طالب سؤالاً تعليمياً، لا يخلو من
تهكّم، حين طلب منه توضيح السلبيات تلك، للحيلولة دون
الوقوع فيها دون قصد.
واقع الحال، أن رؤية الحصين ليست مقطوعة الجذور عن
أدبيات سلفية مشحونة بكل السلبيات التي يمكن للكاتب والباحث
العثور عليها، أو حتى يتوقّعها، وفتاوى العلماء ولجان
الإفتاء الرسمية والشعبية تنضح بمثل تلك المواقف الصارمة
التي ترفض أن يكون الوطن إطاراً ودليلاً في العلاقات الاجتماعية.
في السياق الجدلي نفسه، يعكس الشيخ بندر الشويقي في
مقالته بعنوان (حقيقة الوطنية) المنشورة بتاريخ 5 شوال
الماضي، في موقع (نور الإسلام) الذي يشرف عليه الشيخ الدكتور
محمد بن عبد الله الهدبان، رؤية سلفية سافرة، بدأها متسائلاً
عن حقيقة الوطنية، والمقصود من الالحاح عليها وكثرة الحديث
عنها، ويسحب ذلك الى اليوم الوطني والحكمة من الاحتفال
به وتفخيمه. وتساءل، وهذا الأهم، عن المقصود بالوطن؟ وهل
هو الأرض ذات الحدود السياسية، أو الناس، أم هو السلطة.
وماهي أوجه التعارض والاشتراك بينها؟.
بعد كلام تعليمي طويل، وجّه نقداً لمنهج التربية الوطنية
وقال (قبل بضع سنوات قرَّر وزير التربية والتعليم الأسبق
تدريس مقرر جديد بعنوان "التربية الوطنية". ولعدم قناعة
الطلاب و المدرسين بهذا المقرَّر، فقد تحول إلى ما يشبه
"الزائدة الدودية" داخل مناهج التعليم التي تعاني ـ أصلاً
ـ من التخمة). وأضاف (وقبل عام مضى أعلن مدير عام التربية
و التعليم عن إجراءات مشددة وعقوبات تفرض على مدراء المدارس
التي لا تلزم طلابها بآداء تحية العلم صباحَ كلِّ يوم!!
وأكد مدير التربية والتعليم أن مشرفين تربويين سيقومون
بمتابعة الأمر، إضافة لأعضاء من هيئة الرقابة والتحقيق!!).
وواصل سرد الأمثلة (وبدايةً من العام المنصرم أعلنت الجهات
الرسمية لدينا (فرض) إجازة رسمية على الجميع. ليس على
القطاعات الحكومية فحسب، بل حتى على القطاعات الأهلية.
وأصبح أصحاب الورش والمصانع ممنوعين من التكسُّب وطلب
الرزق في (يوم الوطن). ومن يتجرأ على طلب رزقه ذلك اليوم
فسوف تفرض عليه الرسوم والغرامات!!).
ويعلّق على ذلك بالقول (كل هذا يجري من أجل ترسيخ "حب
الوطن" في القلوب!..فأي وطنٍ هذا الذي يحتاج أبناؤه لكل
هذه الإجراءات لتغرس محبته في قلوبهم؟!!). ويوضّح ذلك
بأن حب المملكة ليس نابعاً من كونها وطناً (بل يحبونها
لكونها بلاد الحرمين ولأنها أقرب بلاد الله لشرع الله.
وبرفعها شعار الدين كسبت ولاء ومحبة أبنائها، بل وأبناء
المسلمين في كل شتى أقطار الأرض. فكانت ـ بحمد الله ـ
غنيةً عن مقرر التربية الوطنية، وعن الأعياد المحدثة).
ويرجع الشويقي إقرار منهج الوطنية الى الخلخلة العنيفة
التي تعرضت لها المملكة بعد غزو نظام صدام حسين للكويت،
حيث تنادى البعض الى تنمية (الحس الوطني) وطرح مقرر (التربية
الوطنية) الذي اعتبره (ثمرةً لذلك التفكير الغريب).
ما يلفت في مقالة الشويقي هو ما جاء في هذه الفقرة:
(بالنسبة لي فإني أجد مثل هذه المقترحات تبلغ الغاية في
السذاجة و السطحية ، فضلاً عن مخالفتها للشرع القويم.
ذلك لأن الذي يملأ جسده وسيارته بالمتفجرات ويعمد إلى
إزهاق نفسه وتقطيعها إرباً، إنما يفعل ذلك لأن حب بلده
قد بلغ عنده مبلغاً عظيماً، بحيث ضحى بنفسه لما آمن أن
هذا هو الطريق المتعين لتطهير بلده من العدو. هكذا يفكر
أولئك الشباب، فالمشكلة هنا ليست مشكلة حب أو كره للوطن،
وإنما هي مسألة دينٍ وقناعة. ولعل الواحد من هؤلاء يحمل
في قلبه من حب بلده أضعاف ما يحمله الكثير من الكتبة المتشدقين
بالوطنية، لكنه سلك طريقاً خاطئاً لما حمل قناعةً خاطئة).
وخلص الى أن الامة لديها ما تجمع عليه غير حب الوطن،
وانتقد المثقفين المحليين الذي يكتبون عن الوطن ووحدته
كجامع، أو الاحتفال باليوم الوطني. بل اعتبر ما تنشره
جريدة (الوطن) التي أعقبها بعلامة تعجّب، وغيرها من المواقع
الاعلامية السعودية بأنها لا تجتمع على هدى.
وفيما تتواصل السجالات حول مفهوم الوطن من منطلقات
دينية أو سياسية أو حتى اجتماعية، فإن ما تومىء إليه تلك
السجالات بأن هذا البلد مفتوح دائماً على انفجارات ثقافية
وسياسية وأمنية، طالما أن لا ثوابت يمكن الاحتكام إليها.
|