سعودة الحجاز.. والحج أيضاً!
خالد شبكشي
نشرت جريدة (أم القرى) في العدد الثالث الصادر في 29
جمادى الأولى سنة 1343هـ/26 ديسمبر 1924: في رسالة عبد
العزيز آل سعود رداً على برقية الشريف علي بن الحسين التي
يعرض فيها الدخول في مفاوضات الصلح يقول فيها (إن شروطي
الأخيرة هي أن لا صلح بيننا مادام أبناء أبيكم يتوارثون
الملك في الحجاز. وأنتم تعلمون أن الحجاز إنما هو للعالم
الاسلامي فلا مزية لطائفة من المسلمين فيه على طائفة أخرى.
وإنما أخاطبك اليوم بلسان عامة المسلمين وما كنت أبداً
لأخاطبك بإسمي وأنت تعلم أن لا شأن لي في الحجاز بل الشأن
فيه هو للعالم الإسلامي. فينبغي لك أن تخاطب المسلمين
وأن تستطلع آراءهم في القضية فإن أجابوك على ما تطلب لم
أجد بداً من الصدوع، وإن أبوا إلا مخالفتك كان ذلك عليك).
أعاد التاريخ نفسه بعد ذلك، فاقترف عبد العزيز كل حذافير
الإتهامات التي وجّهها الى الشريف علي بن الحسين، وصار
الحجاز ملكاً يتوارث بين آل سعود، وأصبح الحجاز حكراً
على الوهابية، ومنعوا كل من يتحدث بإسم عامة المسلمين،
لأنهم وحدهم الممثل الشرعي الوحيد للإسلام والمسلمين!
شكاوى متعددة تصدر عن رئاسة وفود الحج من العراق وايران
ومصر ولبنان وباكستان والهند وصولاً الى حملات الحج القادمة
من قارات أوروبا والأميركيتين الشمالية والجنوبية، إزاء
تصرّفات السلطات الدينية والسياسية في المملكة. وبدلاً
من تثمير موسم الحج لتظهير معالم الوحدة والقوة في الأمة،
أرادته الحكومة السعودية فرصة لتصفية الحسابات السياسية
والمذهبية ضد كل من تختلف معهم، بذرائع مختلفة، تارة بحجة
منع استغلال موسم الحج لأغراض سياسية، وأخرى للحيلولة
دون ممارسة البدع والضلالات في بيت الله الحرام ومسجد
النبي المصطفى صلى الله عليه وسلم، فيما تخفي الأبعاد
السياسية.
فالمحاجّة السعودية السابقة من أن الحجاز هو لعامة
المسلمين قد تجاوزت ذلك الى حد احتكار شؤون الحج واعتبارها
شأناً داخلياً، فلم تعد إدارة الحرمين الشريفين مقتصرة
على البعد التنظيمي والإداري، بل جعلت من كل ما يتعلق
بهما متطابقاً مع رؤيتها العقدية، وفرضت على المسلمين
قاطبة الامتثال لمملياتها العقدية، رغم أن أتباع المذهب
السلفي لا يمثلون سوى نسبة ضئيلة من العالم الاسلامي.
ورغم النزوع الظاهري بعدم تسييس الحج، إلا أن الحكومة
السعودية جعلت منه قضية سياسية خالصة، انعكس ذلك حتى على
حصص الحجاج القادمين من الخارج، وطرق التعامل معهم، فتمنع
من تشاء وتسمح لمن تشاء، على قاعدة الـ (مع) و(الضد).
وللحكومة أن تقدّم ما تشاء من المبررات والذرائع لقراراتها
السلبية والإيجابية، وكانت دائماً تتحدث بإسم المسلمين
عامة، فقد عارضت توارث الشريف حسين الملك في الحجاز بإسم
المسلمين عموماً، وعارضت احتكار طائفة من المسلمين لشؤون
الحج أيضاً بإسم المسلمين عموماً، ولكنها تفعل اليوم ما
أنكرته على الشريف علي بن الحسين، بل زادت عليه، فلم يقتصر
سلطان آل سعود وتوارثهم على ملك الحجاز فحسب، وإنما أصبح
الحج شعيرة دينية ولكن بشروط سعودية وهابية.
البيان السعودي الذي صدر في الثاني من نوفمبر حول ما
أسماه محاولة (تسييس) الحج، ربطه بشأن عام، أي بأن التسييس
(يهدد سلامة أكثر من مليوني مسلم..). وبصرف النظر عن رؤية
الحكومة السعودية للسلامة ومصادر تهديدها، فمن الواضح
أن السعودية تستجيب سياسياً لخلافها مع ايران، وتحاول
تحشيد عناصر قوة غير ذاتية للتعبير عن خصومتها. وبإمكان
المراقب للسياسة السعودية في مواسم الحج أن يرصد عشرات
الأمثلة التي بدا فيها التسييس نافراً، لا يقتصر فيه الأمر
على تقديم دعوات مدفوعة الثمن لوفود محددة من الخارج لأداء
فريضة الحج، ولا اللقاءات العلنية والسرية التي يجريها
الأمراء مع رؤوساء عدد من وفود الحج لأهداف سياسية، ولا
قرارات المنع التي تطال قادة بعض الأحزاب السياسية والناشطين
في دول غير حليفة أو صديقة للنظام السعودي.
وبعيداً عن ذلك كله، فإن فلسفة الحج تقتضي بأن يتداول
المسلمون شؤونهم العامة، وخصوصاً في ظل ما تعانيه شعوب
عربية وإسلامية بدءً بفلسطين ومروراً بالعراق وافغانستان
ووصولاً الى باكستان، والتدخلات الاجنبية التي ما فتئت
تراهن على انكسار شوكة الأمة لفرض الهيمنة عليها واستلاب
خيراتها وثرواتها، وإحداث الإنقسامات الخطيرة في داخلها.
واذا كان من حجة للحكومة السعودية وخوفها على تعكير
صفو الحج ومحاولة شق الصف الاسلامي، فمن الأجدر بها أن
تكتم الأصوات والأقلام الطائفية التي تصدر عن إعلامييها
ومشائخها، وقد بلغها الاحتجاج الواسع من العراق الى الشيشان،
حتى باتت الوهابية مصدر توتير في كل مكان تدخله. وهل بلغ
الإستهتار الى حد أن يكون كل من يخالف السعودية أو يسكت
عن جرائمها مصدر تهديد للوحدة الاسلامية، فيما تطلق العنان
لقطعانها في المشاعر المقدّسة بتوزيع هدايا (التكفير)
على حجّاج بيت الله الحرام من كل أصقاع العالم، وجنّدت
(الدعاة) و(الداعيات) لملاحقة حملات الحج القادمة من قارات
الدنيا، بذريعة وجود مخالفات شرعية بين الحجّاج، وإبلاغهم
رسالة (التوحيد الذي هو حق الله على العباد).
نعم، بات القاصي والداني يعلم ما تقوم به الحكومة السعودية
من تحويل الحج الى شعيرة عبادية بلا مقاصد، فلا مكان لـ
(ليشهدوا منافع لهم)، وهل ثمة أعظم منفعة من تدارس أحوال
المسلمين، وتقديم العون لهم لمواجهة المحن والابتلاءات
التي يواجهونها، وهل في غير هذا المقدّس يتجسد معنى الحديث
النبوي (المسلمون كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى
له سائر الجسد بالسهر والحمى). أليس من المنطقي أن يتداول
المسلمون محنة الشعب الفلسطيني، وخصوصاً شعب غزة الذي
يعاني من الحصار الجائر، ويحرم حتى من المأوى بعد أن هدمت
آلة الحرب الاسرائيلية المجنونة دور السكن، والمراكز الصحية،
والمدارس، وأصبح هناك مليون ونصف مليون إنسان تحت الحصار،
وعشرات الآلاف بلا سكن. أليس استخدام ذريعة (تسييس) الحج
من قبل ايران تسييساً بحد ذاته؟
وإذا كان خلاف إيران مع السعودية هو ما دفع القيادات
الايرانية الى الجهر بمواقف احتجاجية ضد تصرفات السلطات
السعودية مع الحجاج الايرانيين، أو إذا كان خلاف العراق
الرسمي مع السعودية يدفع برؤوساء حملات الحج العراقية
للإعلان عن ضيقهم من صرامة الإجراءات وسوء المعاملة التي
يتعرض لها الحجاج العراقيون، فإن شكاوى عديدة صدرت على
مستوى الأفراد والجماعات من بلدان عربية وإسلامية منذ
سنوات، سواء فيما يرتبط بسوء المعاملة والمضايقات التي
تصل إلى حد الإخضاع للتفتيش الشخصي، ومصادرة المقتنيات
الخاصة، وتحقير الحجاج والمعتمرين بكلمات نابية وهم يطوفون
حول البيت العتيق، أو يزورون قبر الحبيب المصطفى صلى الله
عليه وسلم.
حين اتمّ عبد العزيز سعودة الحجاز عبر خديعة متقنة
تم تنفيذها على مراحل، كانت هناك مهمة أخرى يضطلع بها
الملوك والأمراء السعوديون، متمثّلة في (سعودة) الحج،
أي تحويله الى شعيرة بمواصفات وشروط سعودية وهابية محضة،
وهل (تسييس) الحج غير هذا، بالنظر الى ما كان يدّعيه عبد
العزيز بأن الحجاز ليس خاصاً بطائفة بل هو لعموم المسلمين.
وبصرف النظر عن التصريحات الايرانية حيال سوء معاملة
الحجاج من قبل السلطات السعودية، فإن من يراقب الحملة
الاعلامية السعودية ضد إيران لا يساوره أدنى شك من أن
ثمة ما يبرر مخاوف السلطات الايرانية من انعكاسات سلبية
لتلك الحملة على معاملة الحجاج الايرانيين بل والحجاج
الشيعة عموماً خلال موسم الحج. ولن تعدم السلطات السعودية
مبررات افتعال الأزمة، التي ستكون (تعكير صفو الحج)، و(محاولة
شق الصف الاسلامي)، والقيام بأعمال تخريب وشغب للمتلكات
العامة، كما هي العادة في كل أزمات الحكومة السعودية مع
خصومها.
بالنسبة للسعودية، هناك حاجة الى (خصم) يصرف الأنظار
عن (اسرائيل) في مسعى لإنجاح مبادرة السلام التي حملها
الملك عبد الله وأخذ على عاتقه إنجاحها، على خلفية قناعة
راسخة لدى الإسرائيليين والغرب عموماً أن لا سلام حقيقي
يمكن له أن ينجح ما لم يتم عبر السعودية. وكيما تنجح المبادرة
السعودية لابد أن تتثبّت باعتبارها الدولة ـ الممثلة للعالم
الاسلامي، ولأن إيران وحدها المنافسة للدور السعودي، فإن
من الحتمي بالنسبة للرياض أن تشحن الفضاء الاعلامي بثقافة
خصومة ضد ايران، والقيام بكل ما من شأنه تحويلها الى عدو
للأمة، بدلاً من اسرائيل، التي باتت مرشّحة لأن تصبح عضواً
في الجامعة العربية. من يقرأ توجّهات الاعلام السعودي
منذ عامين على الأقل يدرك تماماً بأن السعودية تسعى بكل
قوة أوتيته لترسيخ فكرة العداء ضد إيران، في مقابل استبعاد
الخطر الاسرائيلي. بل أكثر من ذلك، فإن أهداف الاعلام
السعودي وصل حد التقليل من شأن الهواجس من خطر اسرائيل،
حتى بات البعض يستشرف صورة المستقبل القريب برفع العلم
الاسرائيلي في الرياض.
ليس هناك من يصدّق أن السعودية حريصة على عدم تسييس
الحج، وما التصريحات المعلّبة بأنها تفتح ذراعيها بالترحيب
والخدمات الكبيرة التي تقدمها للحجاج، ليس سوى مجرد دعاية
فارغة. فالترحيب يكشف عن حقيقته الحجاج أنفسهم، أما الخدمات
الكبيرة فيكشف عنها السباق الماراثوني بين الأمراء على
سرقة الأموال العامة بإسم مشاريع التوسعة. آل سعود هم
وحدهم من يستثمر الحج لأغراض سياسية، تتعلق بشرعنة حكمهم
والتغطية على سياساتهم الموالية للغرب.
ولنقف هنا عند ما يمكن وصفه ببيت القصيد في موضوع الحج،
ويتمثّل في بنود الاتفاقيات الاستراتيجية الاربع التي
وقّعتها السعودية مع الولايات المتحدة في العام 2007،
وتقضي إحداها إخضاع كل الأفراد الوافدين الى المملكة بمن
فيهم الحجاج والمعتمرين الى إجراءات أمنية خاصة، ويتم
تسليم المعلومات الى الحكومة الأميركية. وقد اعترض وزير
الخارجية الايراني منوشهر متكي لدى السفير السعودي في
طهران قبل عامين على قيام السلطات السعودية بأخذ بصمات
من الحجاج الإيرانيين. لم يكشف السعوديون عن حقيقة هذا
التدبير، واعتبروه إجراءً روتينياً يتوافق مع الأنظمة
والقوانين السعودية، ولكن تطبيقه أول الأمر على الحجاج
الإيرانيين يعتبر عملاً استفزازياً، خصوصاً وأنه إجراء
غير مسبوق هذا أولاً، ولأنه يأتي في سياق تنفيذ استراتيجية
التعاون بين واشنطن والرياض، ما تعتبره طهران عملاً عدائياً.
السعودية لا تريد حجّاً مسيّساً، لسبب بسيط، لأنها
تريد ترسيخ قناعة لدى المسلمين بأن الحرمين الشريفين خاضعان
تحت سيادتها الكاملة، وألا يصدر تصرف من أي جهة كانت يجرح
هذه السيادة. ولا تريّده حجّاً مسيّساً، لأنها تدرك تماماً
بأن سياساتها في الغالبة تتعارض مع مصالح غالبية المسلمين،
وإن السماح بفرص التعبير عن مواقف مخالفة من قضايا الامة
يعني تلقائياً نقداً للسياسة السعودية. ولا تريده حجّاً
مسيّساً، لأن السعودية غير قادرة على ضبط المشاعر الغاضبة
التي قد تتفجّر حيال سياسات الغرب إزاء العالم الاسلامي
وخصوصاً في فلسطين، والعراق، وافغانستان وباكستان.
مهما قيل عن رغبة العائلة المالكة بأن تحرز نصاب التمثيل
السياسي والديني للمسلمين عموماً، فإنها تدرك في العمق
بأنها فاقدة لمؤهلات التمثيل، دع عنك دور سياساتها في
قلب الرغبة الى نقيضها، إذ لا يمكن لصدم مشاعر المسلمين
بمواقف ممالئة للغرب ولإسرائيل أن تحقق النصاب، مهما بلغت
قدرة الاعلام السعودي على تشويه الحقائق، فقد كثر أعداد
الضحايا في العالم الاسلامي بفعل سياسات السعودية المتشدّدة
والمتطرّفة وأحياناً المتواطئة، فلا معنى لأن تمنع التسييس
في الحج، وهو المناسبة الوحيدة التي يهتم فيها المسلمون
بصورة مباشرة بأمور بعضهم، فيما تمارس السياسة بأبشع صورها
في كل منطقة يصل إليها ذراعها الديني المتشدّد، فهل تحريم
السياسة مرتبط بالمكان والزمان أم بالأفعال والمقاصد؟
|