دسائس العقل الباطني
الحرب في المخيال الوهابي
هيثم الخياط
يتميّز المخيال السلفي بخصوبته في صنع عالم مشحون بكل
صور البطولة والخوارق الميدانية التي يصعب العثور عليها
في الواقع، فما يعجز العالم المشهود عن تقديمه، يتولى
العقل الباطني مهمة تصنيع عالم بديل، مفعم بألوان شتى
من الأحلام، والقصص الأسطورية، والخيالات الشعبية حتى
وإن جاءت متناقضة تماماً مع ما يجري على أرض الواقع.
يخوض العقل الباطني لدى السلفي لعبة الحقيقة والزيف
بطريقة مختلفة، فهو لا يقيم وزناً للبيانات العسكرية،
ولا الحقائق الميدانية، بل هو يتخيل الحقيقة التي يريدها
أن تكون، وليست كما هي كائنة. هو يريد أن يرى صورته المتخيّلة
في الخارج، ولذلك يضع كل طاقته المخيالية في خدمة العقل
الباطني، كيما يرسم له عالماً وردياً، يحقق فيه أحلامه،
وانتصاراته، ومعاجزه.
حين بدأ التدخّل العسكري السعودي في حرب اليمن ضد الحوثيين،
كان العقل الباطني السلفي متأهّباً لسماع أنباء الانتصارات
الإسطورية التي تحققها القوات السعودية بطريقة ساحقة وحاسمة
وفي جولة واحدة خاطفة. بلا ريب، يستحضر العقل الباطني
لدى السلفي قصص البطولات التي تحققت في مناطق قريبة سواء
في لبنان أو فلسطين، وربما في العراق وأفغانستان، وربما
حتى قصص مواجهات القاعدة، بمفعولها الفنتازوي، تصبح جزءً
من تكوين العقل الباطني السلفي.
منذ إقرار الحكومة السعودية بدخولها في الحرب في اليمن
ضد الحوثيين في بداية نوفمبر من العام المنصرم، كان للعقل
الباطني سيناريو عسكري خاص. فمنذ الأيام الأولى للتدخّل
العسكري السعودي في الحرب وقع جبل الدخان تحت سيطرة الحوثيين،
ومازالت سيطرتهم مستمرة، ولكن العقل الباطني السلفي يأبى
قبول مثل هذه الحقيقة الميدانية، لأنها تمزق غشاء التفكير
الباطني المصمّم لإنتاج حقائق أخرى.
يبدأ العقل الباطني بصوغ البيانات العسكرية بصورة منفردة،
وبعيداً عن ساحة المواجهات. في 4 نوفمبر الماضي نشر موقع
جازان نيوز على الشبكة خبراً يقول ( أبطالنا يستعيدون
السيطرة على جبل الدخان، وأقدامهم تدوس على جثث ورقاب
الحوثيين)، لم يكن الخبر عادياً فهو يمثل سلوة لجمهور
شعر بمرارة الإنكسار العسكري السعودي الذي فقد مواقعه
لصالح الحوثيين. وهنا يفتح العقل الباطني الباب أمام تعليقات
المتماثلين نفسياً وذهنياً، لتبدأ عملية مراكمة للمخيال
السلفي لتضطلع بإعداد (التفكير الحالم) فقد علّق أحدهم
(كم اتمنى أن يستغلوا هذه الفرصة و يمسحوا هؤلاء الشرذمة
من الوجود فأنا لا أعتقد أن ذلك صعب على قواتنا).
ومايلبث أن يحيك العقل الباطني قصة المعركة المتخيّلة
بعيداً عن أرض القتال، فقد نقل أحدهم خبراً في الأيام
الأولى للتدخل السعودي يقول فيه (تم ضرب مخبأ عبدالملك
الحوثي قائد الحوثيين بعدة طلعات جوية ـ ومصادر ترجح مقتله
وأخرى تنفي بحجة إقامته بدولةأخرى بدين لها بالولاء)،
أي إيران. ويكتب آخر بطريقة المواجهات الخاطفة التي تقع
في الأفلام الكارتونية، وتعكس المدى الذي يصل إليه الاستبطان
النفسي في مثل التجييش الطائفي (أتمنى من قواتنا البريه
والجويه أن تدكهم بشكل متواصل ليل نهار حتى يختفي أثرهم
للأبد..).
وبالرغم ما تفشي هذه الأمنية من نزعة استئصالية، فإنها
تمثّل حفلة بيع أوهام يشارك فيها الجميع، ومطلوب من الجميع
المشاركة فيها وإلا تعرّض لتهمة التخوين السياسي أو التكفير
العقدي، فيجب أن يشارك الجميع في احتفالية نصر يصنعه الجميع،
بل وتوفير كل ما يعزّز هذا الشعور، ويجلب الرضا النفسي.
في هذه الاحتفالية الجماعية تصنع بطولات غير ميدانية.
خطورة هذا الشعور الوهمي يكمن في أنه ينطوي على صدمة نفسية
عنيفة فيما لو تبيّن التناقض الفاضح في النتائج بين الميدان
الحقيقي والميدان المتخيّل، الذي يعيشه الجمهور ويصنعه
رجال الدعاية من مشايخ وإعلاميين وقادة سياسيين وعسكريين.
أحدهم عبّر مخاوفه بطريقة مختلفة بالقول (على المملكه
أن تضرب وبعنف وقوة كي تبين للعالم أنها لن تكون سهلة
حين يعتدى عليها وإلا سنرى الحوثيين كل يوم في كل مكان).
ويعلّق آخر (والله وفتحوا على نفوسهم باب من أبواب جهنم
هالحوثيين على بالهم القوات السعوديه مثل اليمنيه!!).
إنه العقل الباطني الذي يحاول صوغ مشهد البطولة المتخيّلة
وبطريقة مفخّمة.
ما يلفت الإنتباه، أن العقل الباطني وهو يزاول مهمة
تغذية المخيال الشعبي السلفي والنجدي بقصص الإنتصارات،
يستشعر في لحظة ما بأنه كمن يقوم بعزف منفرد فيما بقية
أعضاء الأوركسترا متوقفة عن العزف. أحدهم علّق على غياب
الإعلام الرسمي في الإحتفالية الوهمية وقال (إلى الآن
(واس) ـ وكالة الأنباء السعودية ـ نائمة!! ما سرّ هذا
الركود الإعلامي الذي يصل إلى درجة التبلد؟؟!). ربما لأن
لا شيء يستحق الذكر هو سبب الصمت، ولكن لا يجوز في العقل
الباطني أن تلوذ واس بالصمت، فعليها أن تشارك في صنع مخيال
النصر.
أحدهم قام بعقد مقارنة بين لقطات الفيديو التي بثّها
الحوثيون، والتي يظهر فيها سيطرتهم على مناطق جبل الدخان
والرميح والجابري وغيرها، ليقوم بتقديم لقطات مضادة بغرض
نفي تقدّمهم في أرض المعركة، ويختم جولته التصويرية المثيرة
للشفقة بالقول:
(أخيراً بناءً على كل هذه التفصيلات أعلاه، نرجو من
كل الاخوة الإطمئنان تماماً بأن لهذه الدولة رجال و قادة
يعون ما يفعلون ، وبأن الإعلام المضاد لا يمكن في يوم
الأيام أن يكون مصدراً، وذلك نظراً لكذبه و تلفيقه والذي
نفضحه للمرة الألف، لنكن مع رجالنا الصناديد بالدعاء في
ظهر الغيب و بإذن الله إننا على مقربة من النصر الكامل).
ولأن اللقطات التصويرية مجرد مجهود فردي، في ظل غياب
أي مصادر إعلامية أخرى بما فيها السعودية لتثبيت صحّتها،
فإن أحدهم اعتبر من قام بذلك عملاً خارقاً فعلّق قائلاً
(جميع محبيك يثنون عليك وقد قمت بما لم يقم به الاعلام
الحربي الذي لم يستطع الا ان يأخذ عملك هذا). فالإمبراطورية
الاعلامية السعودية بأكملها تعطّلت في تغطية مجريات الحرب،
فيما تكفّل أحد الهواة بتغطية (النقص) الحاصل في الاعلام
الحربي السعودي. ولأن العقل الباطني يستوجب حضوراً صورياً
من أي نوع كان لجهة إثبات الحقائق المرجو حصولها في الميدان،
فلا بد أن تخرج الصورة مطابقة تماماً لتمنيات الجمهور
الواقع تحت مغنطة المخيال السلفي.
ولذلك جاءت التعليقات متطابقة ليست مع الصورة المبثوثة
في التقرير الذي قام به أحد الهواة، ولكنه يلبي حاجة نفسية
ضاغطة تنزع نحو العثور على نصر. كتب أحدهم: (جميل هذا
التحليل الذي فضح وكشف ألاعيب وضحالة تفكير هؤلاء الشرذمة..)،
وعلّق آخر (عموماً..هم يعلمون بأنهم مدحورون بإذن الله،
ويعلمون بأنهم سيُردون خاسئين ناكسي رؤوسهم.. لذلك لن
يألوا في استغلال الإعلام كساحة لتعويض ما يلاقوه في زوايا
هذه الحرب..)، وقال ثالث (لله درك عزيزي. نعم المجاهد
أنت هنا. لقد نقلت لنا صورة حقيقية عن الموقف)، وقال رابع
(انني من الأشخاص الذين يتهافتوون على الحقيقه من يد (...)،
لا عربيه وبلا أخباريه إنما..). بالرغم من أن (العربية)
و(الأخبارية) حاولتا استعمال أقصى ما يمكن أن تصل إليه
قدرتهما الإعلامية والخبرية في نقل ما يشير إلى استعادة
السيطرة على أي منطقة من أيدي الحوثيين سواء داخل الأراضي
اليمنية أو داخل الأراضي السعودية.
|
الحرب تكشف كنوز المخيال
الوهابي! |
ولأن العقل الباطني مطالب بأن يستعمل كل ما يملك من
قدرة على تصنيع صور الإعلام الحربي، من تشويه، وكذب، وخداع،
فلا يكف هذا العقل عن فبركة صورة الخصم ليس بما هي في
الواقع، ولكن بما يجب أن يراها الجمهور. أحدهم علّق على
صورة حسين الحوثي بعد مقتله في الحرب الأولى سنة 2004:
وقد سمعت بأذني أحد أتباعة يقول (وما قتلوه وما صلبوه
ولكن شبه لهم). ولأن كل أدوات الحس تبدو موجّهة لخدمة
المخيال الشعبي السلفي والنجدي، فإن السمع والبصر والفؤاد
ليس مسؤولاً في مثل هذه الحرب، هكذا يخبر العقل الباطني،
ولذلك المطلوب هو تصديق كل شيء سواء صدر عن عين أو أذن
غير مثبتّتين في رأس بشر، فليس هنا مجال الفصل بين الحقيقة
والزيف، والحق والباطل، فقد تحدّد الحق الذي عليه الجمهور
السلفي وتحدّد الباطل الذي عليه جمهور الحوثيين، وهذا
من شأنه أن يعفي المرابطين على جبهة تخصيب المخيال الشعبي
من أية مسؤولية طالما أن ما يقولونه يتوافق مع متطلبات
العقل الباطني.
في قصيدة بعنوان (جن الجزيرة والحوثيين) للشاعر الشعبي
ماجد بن حمد الزيد الخالدي، ثمة بتر واضح بين ما هو حق
وباطل في المخيال السلفي، فهو يدمج في القصيدة بين تاريخ
العرب قبل الآسلام والتاريخ الاسلامي والإرث القبلي واللهجة
الطائفية النافرة، لتتحوّل إلى حرب بين العرب والفرس،
والمسلمين والمشركين، وحروب القبائل. ولم يخفِ في السياق
انكسار السعودية في لبنان بعد 7 مايو (أيار) 2008، حيث
يخاطب الحوثيين:
الجزيرة ماهي بْلبنان/ خـبت وخاب عـشْمك
دونها سبع القبايل/ واخيـع اركـع صـال صايـل
ما يلفت أن القصيدة حملت نبرة كراهية دينية واضحة،
تطال مواطنين في هذا البلد وهم الشيعة في المنطقة الشرقية
ونجران والمدينة المنورة وغيرها، كقوله:
كلّ شبرٍ بالوطن دونه حمام الموت حامي
والله إن يشرب كدرْه الرّافضي ويموت ضامي
بل ثمة أبيات تنطوي على تهديد بالقتل ضد الشيعة في
المنطقة الشرقية كما في الأبيات التالية:
علّموا الرّهبان شرق المملكة غرب المنامة
إن ظهر فيهم خميني ورامت تْطير النّعامة
والله إن تغضب ليوثٍ ما عليها من ملامة
وتغرز أنياب الشّهادة فيهم بشتّى الوسايل
وهذا يلتقى مع ما قاله الشيخ العريفي في خطبة الجمعة
الشهيرة التي تعرّض فيها أيضاً لشيعة السعودية وقال لولا
يقظة الأجهزة الأمنية لأتوا بالكبائر. فالعقل الباطني
لا يضمر خشيته ولا كراهيته الدينية هنا، بما يحمل من تحريض
طائفي قد يتم توظيفه في لحظة ما في مواجهة مسلّحة داخلية.
والقصيدة في مجملها لا تخفي الرؤية السعودية حول حربها
ضد الحوثيين حيث يجري تصويرها على أنها حرب ضد إيران على
خلفية مذهبية، وهذا ما تعكسه أيضاً مواقع سلفية وليبرالية
نجدية. فقد نشر موقع (أنا المسلم) الذي يشرف عليه سلفيون
وثيقة مزعومة عن مراسلات جرت بين السيد بدر الدين الحوثي
والسيد جواد الشهرستاني مسؤول مؤسسة آل البيت في قم، مؤرّخة
في الأول من ربيع الأول سنة 1425هـ، أي قبل الحرب الأولى
بين نظام علي عبد الله صالح والحوثيين. تذكر الرسالة بأن
ثمة مراسلات جرت بين السيد بدر الدين الحوثي والسيد علي
السيستاني في النجف. ثم تذكر الرسالة على لسان السيد بدر
الدين الحوثي بأن السيستاني طلب الإيضاح عن الغموض حول
توجّهات الحوثيين في اليمن (وقد أحالها الى المرجعية آية
الله محمد الإصفهاني). وفي سؤال عن التقاليد السائدة في
العمل المرجعي الشيعي، يظهر أنه ليس من عادة المرجعيات
الشيعية إحالة رسائل تصل إليهم الى مرجعيات أخرى أدنى
منهم مرتبة، فضلاً عن أن يكون ثمة مرجع في الواقع بإسم
محمد الأصفهاني، دع عنك الطريقة التي يكتب فيها الصفة.
فلم يكتب مثلاً المرجع بل المرجعية، وهذا غير متعارف عليه
في التقاليد الشيعية، لكل من قام بجوجلة سريعة في الشبكة
على المواقع الشيعية الخاصة بمراجع الشيعة.
يقول أيضاً بأن الإصفهاني وضع بعض الملاحظات على الرسالة
المحالة من السيستاني، ثم يقول الحوثي الأب (ونحن في اليمن
نرى في هذه الملاحظات عقبة كؤود في طريق نجاح الحركة في
اليمن التي تهتدي بنهج (..) الأمة وقائد الثورة الاسلامية
الامام القائد والموجه السيد روح الله آية الله الخميني
قدس الله سره وجعلنا من خدمه من اليوم الى يوم الدين).
وهنا تبدو الفقرة في غاية الركاكة، فالعقل الباطني يتدخل
كيما يضخ زخماً مفتعلاً بتكديس عبارات التفخيم المصطنع،
كما في عبارة (الموجّه) غربية الاستعمال في هذا الشأن،
خصوصاً بالنسبة لرجل ميّت، ثم عبارة (قائد الثورة الاسلامية
الامام القائد والموجّه)، ثم (روح الله آية الله) وهي
مستغربة أيضاً، بحيث أن واضع الرسالة يجهل الإسم الأول
للخميني وهو روح الله، فكيف يأتي الاسم قبل الصفة الحوزوية
(آية الله).
ويمضي العقل الباطني لواضع الرسالة ويقول بأن من المقاتلين
الحوثيين (من تم تدريبه وتعليمه في معسكرات الحرس الثوري)
لإثبات ارتباط الحوثيين بإيران). ويضيف كاتب الرسالة بأن
ثمة (بعثة عسكرية) إيرانية زرات مناطق حيدان ورافقها الولد
حسين واطلعت على الاوضاع لكل تفاصيلها..الخ.
تقول الرسالة أيضاً بأن يحي الحوثي، المقيم في ألمانيا،
وآخرين سيتكفلون ببدء التحرك وبذل الغالي والنفيس (حتى
تحقق الحركة هدفها النهائي وما علينا سوى استغلال الوقت
وما عليكم غير تقديم الدعم المعنوي والمادي والسياسي الذي
سيمكننا من تحديد زمن المعركة وبدايتها ونهايتها لمصلحة
آل البيت عليهم السلام).
ونظرة في الفقرة الأخيرة تعكس الإستبطان النفسي لواضع
الرسالة، ليس فقط بمحاولة تثبيت العلاقة بين الحوثيين
والسيستاني أو ممثله في قم، ولكن العقلية المؤامراتية
التي تنتج النص بهذه الطريقة من قبيل (استغلال الوقت)
(وتقديم الدعم المعنوي والمادي والسياسي)، و(تحديد زمن
المعركة وبدايتها ونهايتها) و(لمصلحة آل البيت عليهم السلام)،
وكلها عبارات مستوحاة من نظرية مؤامرة مختمرة في المخيال
السلفي الخصب، ثم يختم صانع الرسالة بإسم بدر الدين الحوثي
(المرشد الأعلى لمؤسسة آل البيت في اليمن)، وليس هناك
صفة (مرشد أعلى) إلا في ذهن العقل الباطني السلفي الذي
لم يتقن تزوير الرسائل. الرسالة ـ الوثيقة انتشرت في مواقع
يمنية وسعودية رسمية، مصحوبة بجرعة تحريضية مكثّفة بهدف
تأكيد مزاعم الحكومتين اليمنية والسعودية حول الدور الايراني
أو دور المرجعيات الشيعية وكذلك التطلعات الحوثية لإعادة
إحياء دولة الإمامة!
وبطبيعة الحال، فإن ما هو متوقّع من الانصار وأهل التوحيد
سوى الثناء على (فضح الحوثيين) والدعاء عليهم، كما جرت
التوقّعات في مثل هذه الحالة. ولأن الكذب في الحرب جائز،
خصوصاً مع عدو عقائدي مثل الحوثيين، فإن العقل الباطني
ينعش المخيال السلفي بما يجعله قادراً على انتاج الوثائق
والأساطير التي تساعد على تشويه صورة الخصم، فيصبح كل
ما يفكّر فيه السلفي واقعاً قائماً في الخصم، إذ ليست
الحقائق الواقعية هي المطلوبة في صنع الوعي هنا بل الحقائق
المتخيّلة كونها المطلوبة في المواجهة المفتوحة.
الشيخ محمد العريفي نقل في خطبته في صلاة الجمعة بجامع
البواردي بالرياض مشاهداته في جبهات القتال ضد الحوثيين،
ولم يبرح العقل الباطني الذي يناقض الواقع الميداني في
الحديث عن بطولات لم يسمع بها أحد، وعن انجازات عسكرية
لم تنعكس في الامبراطورية الاعلامية السعودية، فيما نجحت
لقطات فيديو يبثّها الحوثيون على مواقعهم من تعطيل الامبراطورية
السعودية، حيث تناقلت المحطات العربية والعالمية ما يبثّه
الحوثيون من (كليبات) عن سيطرتهم على مواقع عسكرية سعودية
أو مجازر ترتكبها الطائرات الحربية السعودية ضد المدنيين
وعشرات الأطفال الذين تمزّقت أشلاؤهم بفعل صواريخ المقاتلات
السعودية، فيما تتكبّد القوات السعودية خسائر على مستوى
الأرواح والمعدات والأرض، وعجزت بعد مرور نحو شهرين على
التدخل السعودي عن استرجاع جبل الدخان أو مركز الجابري.
محاولات إلصاق الحوثيين بإيران لم تنجح في إقناع أي
من وسائل الاعلام الاجنبية وحتى العربية، تماماً كما هي
أنباء استعادة الأراضي السعودية الواقعة تحت سيطرة الحوثيين،
ولذلك فإن العقل الباطني يمارس دوراً تعويضياً عن الهزائم
عن طريق تخصيب المخيال الشعبي الذي يشارك فيه المشايخ
الذين يزورون الجبهات ويعودون محمّلين بقصص وهمية كالتي
ينقلها العريفي إلى جمهوره، والتي تندرج في سياق التعبئة
الشعبية ولكن بلغة طائفية، بما يشير الى الحالة المعنوية
المتردّية، خصوصاً بعد مرور شهرين على بدء التدخل السعودي،
حيث تآكلت مصداقية القوة العسكرية السعودية تدريجاً أمام
الجمهور السلفي..
وحدهم السلفيون المقرّبون من آل سعود وأنصارهم من يديرون
دفة العقل الباطني ويغذّونه بانتصارات وهمية، فالأساطير
تصبح حقائق حين تعجز الأخيرة عن الحفاظ على تماسك العلاقة
بين آل سعود وقواعدهم الشعبية. وطالما أن الهدف هو (تعبئة)
الجمهور، فلم لا يكون (الحلف بالله العظيم) أحد أدواتها
لدى الشيخ العريفي وغيره لتثبيت صدقية الأساطير التي نقلوها
من أرض المعركة، بما يجعلها أقرب الى أفلام (الأكشن) التي
لا تتحقق الا داخل استوديوهات التصوير أو على شاشات الكمبيوتر.
هو نفس العقل الباطني الذي يقسم المصير، مصير القتلى
من الطرفين الى الجنة أو السعير، كما في توصيف رائحة جثث
القتلى من الحوثيين والسعوديين، فبينما يصنع العقل الباطني
رائحة زكية كالمسك تفوح من جثث الجنود السعوديين تبدو
رائحة جثث المقاتلين الحوثيين نتنة وكريهة..هذا هو ما
يراه العقل الباطني السلفي في حربه المتخيّلة.
ما نلحظه بوضوح بعد أكثر من شهرين على التورّط العسكري
السعودي في اليمن، أن كثافة التعليقات التي كانت تنهمر
في الأيام الأولى انحسرت تدريجاً، وفيما تخلى الجمهور
العام عن قائمة تمنياته، بدأت المواقع الخبرية، والمشايخ
بالاضطلاع بمهمة شحن المخيال الشعبي بقصص القتال الإسطوري.
لا ترى تعليقات لأفراد في مواقع سعودية سلفية أو ليبرالية
حول يوميات القتال، إلا نادراً فيما تواصل المواقع الخبرية
السعودية نشر تقارير عسكرية ليست بالضرورة واقعية، لأن
الغاية ليست نزاهة التقارير بقدر ما هو تحقيق غرض التعبئة
الشعبية.
|