أسامة أنور عكاشة:
(وهبنة) الثقافة المصرية
هيثم الخياط
يشعرك كاتب السيناريو المصري المعروف أسامة أنور عكاشة
الذي كان حتى نفسه الأخير يلامس مكامن تجربة الألم والضياع
التي عاشتها مصر خلال العقود الأربعة الماضية، بأن ثمة
ما يستحق البكاء على مصر، فهو يصوّر الوهابية باعتبارها
رمزية لإنحطاط ثقافي مروع، وظاهرة اقتلاعية لهوية وجذور
وكيانية الإنسان المصري، كما يراها الآخر الذي يتجابه
معها في معقله، وتربته، وصورة وطنه.
يشعرك عكاشة بأنه يحاول البوح بكل ما يختمر بداخله
من صدمة التيه، عن الهوية، والثقافة، والعبقرية، وحزن
الخسارة، خسارة الأصالة التاريخية، وعبق الشخصية الحضارية..الإنسلاخ
من الأنا والحلول في الآخر، ليس مجرد الإنتقال من الأعلى
للأدنى فحسب، بل هو التلاشي الفارط في السذاجة في هوية
الآخر، دون جدارة، ولذلك، فإن الإقتباس لا يعدو مجرد نمط
ثقافي، بل هو شكل من أشكال الإختطاف والمصادرة الشاملة.
لاريب أن أموال النفط، كانت هي الرافعة الكبرى لانتشار
الوهابية ليس في مصر بل في كل بقعة تصل إليها، وهي التي
جعلت لهذه الأيديولوجية الإقتلاعية حضوراً قوياً وضارياً
في أماكن عديدة وبعيدة من مركز نشأتها، ولا شك أن الإكسسوارات
الوهابية (الثوب القصير، المسواك الخشبي، اللحى الطويلة،
ودهن العود..)، ترسم نمطاً ثقافياً وهوية، فهي كما يصفها
الدكتور حمزة المزيني مزيجاً بين الدين كفكرة وبين البداوة
والإنغلاق وثقافة القبيلة البدوية. هي عدّة ثقافية متكاملة،
ولكن رائحة النفط لا تغادرها، فهي تدّل على أن ثمة تسلّلاً
قد حصل في مصادر توجيه ووعي الضحايا الجدد.
فلماذا تنسى مصر بطولاتها في حروب الأمة مع الكيان
الإسرائيلي فتجد في الوهابية ملاذاً، ولماذا تستقبل الجزائر
الوافد الوهابي الجديد من صحراء الجزيرة العربية، ولما
تذبل قروح مليون شهيد في معركة التحرير، فتقدّم 100 ألف
قرباناً على مذبح الوهابية، ولماذا تتحيّن الأخيرة فتناً
في بلاد الشام والعراق وباكستان وحتى في قرغيزستان كيما
تثبت وجودها الدامي.
مات كاتب السيناريو المصري المعروف أسامة أنور عكاشة،
ونصب أشياع النظام السعودي محفلاً لأن موته أراحهم من
شخص كشف بعضاً من آثام الوهابية ومخازي آل سعود. لم يخضع
لسياسة (العصا والجزرة) التي طالما لوّح بها الأمراء لخصومهم
إما لتحويلهم حلفاء أو تحييد أدوارهم، وبقي هو صوتاً يجهر
بالنقد المفتوح ضد أشكال التدخّل السعودي في مصر الكنانة،
بل ودور فكرها الديني المتطرّف في تفريخ الإرهاب والجماعات
المسلّحة، التي تسلّلت إلى مصر باستغلال حاجة الفقراء
والمعدمين للمال ورغيف الخبز.
وصف عكاشة الوهابية بأنها الأب الشرعي للجماعات الإرهابية،
وقال بأنها وريثة الخوارج. وحين سئل عن سر عداءه الدائم
للوهابية، أجاب (الوهابية من وجهة نظري مذهب ديني متنطع،
من بقايا مذاهب الخوراج، ويزايدون دائما على بقية المسلمين،
وهم يعتنقون مذهب التحريم على إطلاقه، كما أنهم الآباء
الشرعيون للجماعات الإرهابية المتطرفة، وهو ما أرفضه،
ويرفضه أي مسلم عاقل يحترم دينه ووطنه). وخالف الرأي القائل
بأن مصر وسورية ولبنان أصبحت أرضاً خصبة للتطرف والإرهاب،
وقال بأن هذه الدول (تم غزوها ووهبنتها منذ عام 1975،
خاصة في مصر مع بداية الانفتاح وسفر المصريين للعمل في
السعودية، فتم و"هبنتهم"، وعادوا بعادات وهابية جديدة
على المجتمع المصري، وقد صدَّرت السعودية المذهب إلى بقية
الدول في المنطقة، بهدف تحويل الإسلام السمح إلي الإسلام
الإرهابي).
وقبل أيام من رحيله، أعاد عكاشة تأكيد مواقفه بشأن
دور الوهابية في تهميش الثقافة المصرية، وقال في لقاء
نشر في 23 مايو الماضي بأن (هناك مؤامرة تُحاكُ في الظلام
لتهميش الثقافة المصرية وإحلال ثقافة تيار السلفية، وخاصة
هذا الفصيل الذي يتلقّى الدعم من معاقل الوهابية، ولكن
مع كل هذا.. فالثقافة المصرية أكبر من تلك السخافات).
وكان عكاشة قد حذّر في يونيو 2007 من وقوع مصر تحت
تأثير الثقافة الوهابية، وقال بأن أعداء مصر يريدون أن
تظل مصر تدور في ركب السعودية، ولا يريدوا لها أن تصبح
دولة قوية. وقال بأن السعودية مركز رعاية الوهابية، حسب
وصفه، تغلّغلت في كل مكان واستطاعت التأثير على دعاة القومية
العربية. وأضاف بأن (ثقافة البدو الصحراوية نجحت في وهبنة
الإسلام المصري. وتوجد محاولات لمسخ الشخصية المصرية خاصة
من جهة الوهابيين هم يسعون لتخليص ثأر قديم مع إبراهيم
نجل محمد علي عندما هزم الوهابيين بالسعودية).
وقد حذّر عكاشة من أن هوية مصر في خطر، بفعل الوهابية،
وفي حوار مع عكاشة في نوفمبر 2007، أضاف إلى ما سبق من
تحذيرات بأن هناك مخطّطاً يتم تنفيذه على مراحل وأن (ما
يحدث لمصر الآن هو مد وهابي وغزو وهابي)، حسب قوله. وأوضح
ذلك بقوله (لقد تأكدت عبر تاريخ طويل أن وسطية الإسلام
واعتداله تأكّدا في مصر، فمصر لم تعرف التطرف وكل عقيدة
جاءتها اصطبغت بصبغتها لأن العقلية المصرية كانت قادرة
على تمثّل وهضم أي عقيدة وثقافة وكانت قادرة على تكييف
هذه المعتقدات دون الإخلال بها..وفق نمط ثقافة مصر ووفق
تراكم معرفي وتراثي سابق ووفق نمط واحتياجات حياة). إذن
متى بدأ الخلل، أي متى أصبحت مصر عرضة للغزو الوهابي؟
يطابق عكاشة تصوّره مع تصوّر الكاتب المصري المعروف
محمد حسنين هيكل الذي صكّ مصطلح (الحقبة السعودية) التي
بدأت بعد رحيل جمال عبد الناصر، وارتفاع أسعار النفط في
منتصف السبعينيات من القرن الماضي، حيث تحوّلت السعودية
إلى قوة مالية فصادرت مكانة مصر التاريخية، والكاريزما
الناصرية. وفيما تنطلق رؤية هيكل حول الدور السعودي من
منظور سياسي، كانت رؤية عكاشة تقوم على اعتبارات ثقافية
وإيديولوجية. يرى عكاشة بأنه منذ منتصف السبعينيات، وتحديداً
بعد حرب أكتوبر وارتفاع سعر النفط أصبحت السعودية قوة
نافذة ثقافياً وإيديولوجياً، ويرجع ذلك إلى عامل اقتصادي،
حيث أن السعودية هي الأغنى، (فتحوّلت بذلك إلى ملاذ للعمالة
المصرية التى عملت هناك لسنوات وعادت متوهبنة حتى الأزهريون
منهم لم يسلموا من هذا التأثير عادوا أيضاً متوهبنين،
هؤلاء الأزهريون الذين كانوا رمز الإعتدال والوسطية والذين
كانوا حائط الصد والأمان ضد أى تيارات دينية متطرفة أيضا
لوثتهم أموال النفط الوهابية).
ويضيف إلى ذلك ما لحق بمؤسسة الأزهر العريقة، حيث تسلّلت
إليها الوهابية عبر المال السعودي (وأصبح مشايخ الأزهر
رسلاً للوهابية واستبدلوا الزي الأزهري، بالزي الوهابي
فاصبحوا يرتدون الطاقية البيضاء والشال وهكذا فعل الشيخ
الشعراوي فكان ذلك إيذاناً ببدء العصر الوهابى فى مصر
ومن بعده الحجاب فى نفس الفترة اكتشف الناس أنه ليس هناك
إسلام فى مصر فجاء شكري مصطفى ووصف مصر بدار الجاهلية،
وأن نساءها متبرّجات ويجب أن يعدن لحظيرة الحشمة ومن جانبهم
قد شجع الوهابيون هذا ودعموه بالمال والدعاة والشرائط،
وهؤلاء الدعاة الذين امتلأت بهم الفضائيات هم دعاة وهابية
لا إسلام وجميعهم يدين بالولاء لأصحاب النعمة، كل الفضائيات
تروّج للوهابيين باستثناء قنوات قليلة جداً..).
لم يستثن عكاشة مؤسسة ولا هيئة علمية ولا مجمع للبحوث
في مؤسسة الأزهر من تأثيرات المال الوهابي، ودلّل على
ذلك بالوصاية الوهابية على الإبداع وحرية الرأى والكتابة،
وقال بأن الحرية أصبحت (نهبة بين محامين مغمورين وقوانين
الدولة الصارمة وجهات التوصية الدينية ومن بينها مجمع
البحوث هذا.. الخلاصة أن الوهابيين يمهدون ويخططون لقيام
حكومة وهابية طلبانية فى مصر).
ويرى عكاشة بأن الوهابية تجد مرتعاً خصباً في مصر،
بسبب غيبة نظامه السياسي، وانهمار أموال الوهابيين، ورأى
بأن (خطر إسرائيل أقل وأضعف من خطر الوهابيين على مصر
لأن عدوك المباشر أنت تعرفه جيداً أما العدو الذى يتسرّب
لك من تحت ثيابك فهو أخطر، ذلك أن الوهابيين يعرفون أن
المصريين شعب متدين بطبيعتهم، وهم يحاربوننا بسلاح مشاعرنا).
وفق هذا التصوّر يندب عكاشة حال الثقافة المصرية، بل
الشخصية المصرية التي كان ينظر إليها المفكر الراحل جمال
حمدان بأنها منبع العبقرية، حيث يشعر عكاشة بأن الشخصية
المصرية (فقدت خصوصيتها وانهارت كما تعرضت الثوابت الوطنية
للفناء والضياع بين اتجاهات وافدة). تبدو الصورة قاتمة
لدى عكاشة حول دور مصر ومستقبله، حيث اعتبر أن مصر فقدت
دورها على جميع الأصعدة، ولم يعد لها دور في محيطها العربي
أو المشهد الدولي، وتحوّلت إلى دولة من الدرجة الثانية
في إفريقيا.
مهما اختلفت مع أسامة أنور عكاشة بخصوص مواقفه السياسية
والثقافية والتاريخية، فإنك دون ريب تحترم رؤيته، ورثاءه،
وصراحته التي تنمّ عن إخلاصه لقضية بقي يؤمن بها حتى الرمق
الأخير. لا يجامل، وتلك شميلة يندر وجودها في عالم قائم
على النفاق السياسي، ولعبة المصالح. فحين سئل عن الأمير
الوليد بن طلال، لم يعرّفه مالياً، بل عرّفه بما هو ظاهرة
ثقافية/إعلامية، وقال عنه: الوليد بن كوهين. وكان ذلك
التعريف ردّاً على خبر الشراكة بين الوليد بن طلال وروبرت
مردوخ، إمبراطور الإعلام اليهودي الاسترالي الجنسية، في
شركة قنوات روتاناً. وقال بأن الوليد مستعد للتحالف مع
الشيطان، واعتبر ما قام به الوليد جزءً من مؤامرة على
التراث الفني لمصر.
كان رحيل عكاشة بمثابة مناسبة فرح للإعلام الرسمي السعودي،
الذي حاول أن يخفي فرحته تحت قامة عكاشة التي لا يمكن
لأحد تجاوزها. وهناك من تمنى أن تطوى الصفحة سريعاً، حتى
لا يعاد فتح الملفات التي أثارها عكاشة حول الوهابية والمال
النفطي وآل سعود. لقد اوحى بعض المواقع الإعلامية السعودية
لبعض قطعانه الدائمين لكتابة تعليقات على خبر رحيل عكاشة.
يوحي كثير منها بأن ثمة انتقاماً مبيّتاً للرجل، ولغة
التشفي بدت طافحة في التعليقات، وكأن فرق المعلّقين قد
تلقّت تعليمات محددة في وقت واحد، فجاءت في نسق منسجم..وحدهم
الأمراء والمقرّبون من عالم الفن يدركون بأن عكاشة كان
مصدر إزعاج دائم لهم، ولربما تمنوا رحيله بأسباب من السماء
أو بعوامل أرضية.. فكانت التعليقات تظهيرات لما استبطن
الأمراء وقطعانهم من مواقف ضامرة ضد عكاشة.
كان يدرك، بحسب مقالة رثاء لصديقه هشام بن الشاوي في
29 مايو، بأن ثمة مجموعة سلفيين متنطّعين يتربّصون به،
فيهاجمونه في العالم الإفتراضي، وكان يقول (أنا لا أعبأ
بهم جميعاً..إنما أعبأ بالمواطن البسيط).
رحل عكاشة ولم يغلق الباب وراءه، لأنه يعلم بأن ثمة
من يريده مفتوحاً، فالحساب لم يغلق بعد، وكان قد وعد بكتابة
قصة رمزية عن الوهابية وآل سعود، يريد تثبيتها في هيئة
وثيقة مصوّرة إلا أن القدر لم يمهله لإتمامها، ولربما
أوكل المهمة لمن يخلفه، فلعل الصورة تكتمل، وتكون أشدّ
وضوحاً.
نجزم بأن عكاشة حاول عبر رواياته إعادة إحياء هوية
مصر الثقافية، ونجزم بأنه فعل ذلك في رد فعل على المدّ
الوهابي، والمال السعودي، فقد جعل من (ليالي الحلمية)،
و(المصراوية) وغيرهما من قصص تحوّلت لمسلسلات تلفزيونية
مشهورة، مادة ثقافية ثريّة لمواجهة محاولات تجفيف المنابع
الثقافية الأصيلة في مصر، وإحلال ثقافة النفط والتطرف
الوافدة من وراء البحر..ولمصر موعد تنتظره كيما تستعيد
دورها.
|