إرضاع الكبير..
رمزية الفقه العبء
عبدالحميد قدس
في مقابلة تلفزيونية في 20 مايو على القناة السعودية
الأولى أجاز الشيخ عبد المحسن العبيكان، المستشار القضائي
بوزارة العدل وعضو مجلس الشورى السعودي، إرضاع الأجنبي
كيما تحرم عليه فيدخل عليها، جدلٌ فتح الباب مجدّداً لمواجهات
ثقافية بين التيارين الديني والليبرالي.
العبيكان الذي فصل نفسه منذ سنوات عن التيار الديني
المتشدّد، كان قد عارض تورّط طلبة العلم بإثارة الفتاوى
التي من شأنها بث الجدل بين المسلمين، وطالب بتقنين عملية
الإفتاء، من خلال تشكيل لجنة عليا تختّص بإصدار الفتاوى
ومراجعتها وضبطها، وقدّم آراء معتدلة في القضايا الجدلية
والساخنة، مثل فتوى الشيخ محمد صالح المنجد بقتل ميكي
ماوس، والتزامه مواقف صارمة ضد فكر القاعدة، وكذلك فتوى
قتل أصحاب الفضائيات الصادرة عن رئيس مجلس القضاء الأعلى
السابق الشيخ صالح اللحيدان، والتي اعتبرها العبيكان بأنها
فتوى على طبق من ذهب لمقاتلي القاعدة.
ولكّن العبيكان وقع في ما يشبه مصيدة فتوى جدلية، كانت
قد تسبّبت لغطاً كبيراً في الوسط الديني والثقافي المصري
قبل أعوام قليلة، فواجه انتقادات واسعة على خلفية إجازته
إرضاع الكبير، مؤيّداً بذلك أقوالاً شاذة لمشايخ في الأزهر
الشريف في هذا الشأن، والتي واجهت انتقادات عنيفة من قبل
علماء آخرين. وقال العبيكان بما نصّه (إذا احتاج أهل بيت
ما الى رجل أجنبي يدخل عليهم بشكل متكرر وهو أيضاً ليس
له سوى أهل ذلك البيت ودخوله فيه صعوبة عليهم ويسبب لهم
إحراج وبالأخص اذا كان في ذلك البيت نساء أو زوجة فإن
للزوجة حق إرضاعه)، واستشهد في ذلك بحديث سالم مولى حذيفة
وأقوال أخرى منسوبة لأم المؤمنين عائشة رضي الله عنها
زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكذلك أقوال لشيخ الإسلام
ابن تيمية، كما جاءت في عديد من مؤلفاته. وقال العبيكان
بأن الإرضاع في تلك الحالة لا يختصّ بزمن معين وإنما هو
للعامة في جميع الأزمان.
تجدر الإشارة إلى أن الشيخ ناصر العمر كان هو الآخر
قد سئل قبل أربع سنوات عن صحّة فتوى إرضاع الكبير، وقد
أجاب عن ذلك (كما هو مثبّت في موقعه على شبكة الإنترنت
بتاريخ 17 ربيع الثاني 1427هـ الموافق 15 مايو 2006)،
وثبّت صحة الحديث المروي عن أم المؤمنين عائشة رضي الله
عنها، وقال بأن الحكم عام وليس خاص بحسب رأي الشيخ إبن
تيمية، بناء على القاعدة الفقهية (فإذا وجدت العلة وجد
الحكم، ولا دليل على الخصوصية). وانتقد العمر الذي يسخرون
ويتهّكمون ووصف فعلهم بأنه (عمل أهل النفاق في كل زمان
ومكان).
حاول العبيكان التخفيف من وطأة الفتوى وردود الفعل
الناقدة، وقدّم توضيحاً في حديثه مع موقع (العربية) على
شبكة الإنترنت في 21 مايو الماضي حول طريقة الإرضاع وأنه
(يجب أن يتم أخذ الحليب بطريقة مناسبة بعيدة عن ذلك، ويتم
تناوله من قبل الشخص المعني). كما حاولت وسائل إعلام سعودية
رسمية تخفيض درجة الحرج التي تسبّبها مثل هذه الفتاوى،
عبر الإضاءة على فتاوى مطابقة لرجال دين آخرين في مصر،
حيث بدأ الجدل حول هذه الفتوى على وجه التحديد في مايو
2007، عندما أفتى عضو في هيئة التدريس بجامعة الأزهر فتوى
أباح فيها (رضاعة المرأة العاملة لزميلها في العمل)، فقرر
المجلس الأعلى لجامعة الأزهر وقف صاحب الفتوى عن العمل
وإحالته للتحقيق، كما قام رئيس الجامعة بوقف رئيس قسم
الحديث بكلية أصول الدين في الأزهر عن العمل أيضاً وإحالته
الى لجنة التحقيق. وقد التزم كبار علماء الأزهر بمن فيهم
شيخ الأزهر محمد سيد طنطاوي موقفاً صارماً إزاء صاحب الفتوى،
التي اعتبروها متنافية مع مبادىء الدين الإسلامي الحنيف
ومع (مبادىء التربية والأخلاق ويسيء إلى الأزهر الشريف).
|
العمر، العبيكان، السدلان:
تأييد إرضاع الكبير!! |
العبيكان الذي ساءته حملة الانتقادات في الصحافة المحلية،
حاول استيعاب تداعيات الفتوى، واختار مفردة (إرضاع الكبير
في العمل)، لتعديل موقفه الفقهي، حيث عارض هذا النوع من
الإرضاع واعتبره أمراً خطيراً. وقال في لقاء مع صحيفة
(الرياض) نشر في 25 مايو الماضي بأن القول بإجازة إرضاع
الكبير في العمل (كلام خطير ولا يصح). وبرر إصداره فتوى
إجازة إرضاع الكبير بأنه جاء في سياق برنامج تلفزيوني
(ووجب عليه أن يبين الحكم الشرعي وألا يكتم العلم..)،
وهي إجابة تنطوي على خطورة، خصوصاً إذا ما كان المكتوم
من العلم على شاكلة هذه الفتوى التي تمثّل صدمة للعقل
الإنساني وللفطرة السليمة.
المثير في الأمر، أن العبيكان أسهب في دفاعه عن نفسه
في شرح مدة الرضاعة وكيفيتها، وكأنه يريد القول: بعد أن
وقع الفأس في الرأس فلا مناص من توضيح المسألة بكل أبعادها،
فراح يشرح طريقة إرضاع الكبير بأن تكون على نحو مختلف
عن الإرضاع الاعتيادي المعروف من المرأة (وإنما تحلب له
من ثديها في إناء، ويشربه خمس رضعات مشبعات للصغير كما
جاء في النقل عن العلماء). وأورد أدلة الجواز من أقوال
منسوبة إلى زوجة الرسول المصطفى (صلى الله عليه وسلم)
أم المؤمنين السيدة عائشة رضي الله عنها، وكذلك أقوال
علماء دين مثل إبن تيمية، وإبن القيم، والصنعاني، والشوكاني،
والألباني، والنجمي، وقال بأن (الحكم بذلك يكون مطلقاً
غير مقيّد بوقت).
فيما يبدو من محاولات العبيكان لجهة توضيح فتوى إرضاع
الكبير، أنه لم يستطع وضع نهاية مريحة وحاسمة للإنتقادات،
الأمر الذي دفعه للتنكّب الى موضوع آخر، فطبيعة الفقه
العبء لا تدع فرصة للإنتصار، ولعل في السابقة الأزهرية
عبرة له، فقد أضيف إليه نعت جديد وهو (صاحب فتوى إرضاع
الكبير)، بحسب ما جاء في تعريف صحيفة (الوطن) له في 2
يونيو.
اعتبر العبيكان الانتقادات التي واجهته بعد إصداره
فتوى إرضاع الكبير بأنها (حملة) مضادة (من قبل بعض الأشخاص
بسبب حربه على الإرهاب والغلو والتطرف الديني)، وكأنه
يلمح إلى أن الحملة لم تصدر من (الليبراليين والحداثيين)
كما جرت العادة، بل يشير بوضوح الى عناصر في التيار الديني
المتطرّف، كما يوضح ذلك لاحقاً (عندما حاربت الإرهاب،
وكنت شديداً في محاربته إنعكست تلك المحاربة علي، فهناك
متطرفون وإرهابيون يثيرون البلابل والقلاقل على أي قول
يقوله العبيكان حسداً وبغياً). وأضاف بأن (هنالك حساد
يستغلون أي فتوى تصدر مني وتكون جديدة على بعض العامة
لإثارة البلبلة..).
ما لم يدركه كثيرون، والكاتب من بينهم، أن العبيكان
سبق أن أفتى بجواز إرضاع الكبير قبل سبعة أعوام عبر شاشة
التلفزيون السعودي الرسمي، أي قبل أربع سنوات من صدور
فتوى الشيخ الأزهري، ولكن كما يقول العبيكان (ولم يكن
هناك أي اعتراض، كما يحدث حاليا بعد ظهوره عبر وسائل الإعلام).
مهما يكن، فإن فتوى العبيكان لم تمرّ بسلام، فقد تربّص
له الصديق والعدو، والحليف والخصم، بل حتى المحايد الذي
لا طمع له في الانتقام أو الثأر الشخصي ولكنه يبحث عن
الحقيقة العلمية، قد وجد في فتوى إرضاع الكبير محرّضاً
على الكتابة سلباً أو إيجاباً، وهي دون شك فتوى تنتمي
الى الفقه العبء وتشعل فتيل المناقشة المفتوحة.
في أي خانة تضع الفتوى ومهما قلّبها المرء فإنه لابد
أن يجد فيها ما يستحق القراءة، ليس لشذوذها فحسب، بل لما
تعكسه من أزمة في العقل الفقهي السلفي، وطبيعة الأولويات
التي تحكم أداء عالم الدين في المدرسة السلفية.
في مقالة للصحافي والإعلامي السعودي تركي الدخيل بعنوان
(إرضاع الكبير... هل انتهت القضايا؟!) نشرت في صحيفة (الوطن)
في 24 مايو الماضي، ثمة ملامسة مباشرة لأزمة الأولويات
في الاشتغالات الفقهية السلفية. يعجب الدخيل من الانصراف
الى موضوعات شاذة فتحتّل مركز اهتمام الفقيه، من بينها
إرضاع الكبير وكأن (القضايا المحليّة انتهت، وأن النوازل
والمسائل الفقهية انقرضت واندرست؛ ولم يبق إلا مسائل الرضع
والإرضاع..)، على حد قوله.
المسألة كما يراها الدخيل ليست كونها مستحيلة التطبيق،
بل إنها ترمز الى انفصال الفقه عن الواقع، وهنا تكمن المشكلة،
حيث يتحوّل الفقه الى مادة إثارة كونه يعالج كل المسائل
المستحيلة التطبيق والمنفصلة عن الواقع.
اختار عبد الله منصور الجميلي في مقالته (يا نِـسـاء
أرْضـعـن الـسـائـقـين..!) المنشور في جريدة (المدينة)
في 24 مايو الماضي أسلوباً ساخراً لا يخلو من دلالات.
حاول الجميلي استحضار ردود الفعل على الفتوى وإسقاطها
على موضوع قيادة المرأة للسيارة، في معالجة تبدو تهكمية
في ظاهرها ولكنها تضيء على مشكلة راهنة، فنقل عن أحد أصدقائه
بأن ثمة إمكانية للإفادة من فتوى العبيكان لمعالجة مشكلة
السائقين الإجانب بالنسبة للنساء، بأن يقمن بإرضاعهم ليصبحوا
محارم للبيت كله.
|