الحرية السياسية أم الحقوق كافة؟
قيام أحزاب سياسية.. معيار إسلامية الحكم السعودي
د. عبدالله الحامد
|
د. عبدالله الحامد |
حق المعارضة السياسية:
كفل الإسلام حرية المعارضة السياسية، وأجاز تشكيل الأحزاب
والجمعيات السياسية، حتى لو كانت غالية مبتدعة، مادامت
تلتزم الخيار السلمي. والدليل المحكم على ذلك أن علي بن
أبي طالب سمح للخوارج أن يبدوا آراءهم، وأرسل لهم ابن
عباس مناقشاً، ولم يمنعهم من التجمع، وقال: (كونوا حيث
شئتم، بيننا وبينكم أن لا تسفكوا دماً حراماً، ولا تقطعوا
سبيلاً، ولا تظلموا أحدا، فإن فعلتم نبذت إليكم بالحرب).
بل إنه ـ رضي الله عنه ـ أجرى عليهم أرزاقهم ومعاشاتهم،
ولم يحرمهم منها رغم أنهم عارضوه وشتموه وكفروه. قال الإمام
المودودي رحمنا الله وإياه (الذي يظهر من هذا بوجه قاطع؛
أن كل طائفة من طوائف البلاد، لا تحول الدولة الإسلامية
دون إظهارها آراءها، إذا كانت آراؤها لا توافق آراء الدولة)..
إلا إذا حاولت الطائفة حمل الجمهور على أفكارها إكراهاً
وإرهاباً، عاملة على قلب نظام البلاد بالقوة. فالحد الفاصل
ـ كما يقول الفقيه عبدالكريم زيدان ـ بين ما يجوز للمعارضة
وما لا يجوز، هو (الإفساد في الأرض)، كما قال علي أيضا
للخوراج: (لا نبدأكم بقتال، ما لم تحدثوا فساداً). ولمزيد
التدليل انظر للكاتب (عبدالله الحامد): (العدالة والحرية
جناحان حلّق بهما الإسلام).
هذه هي الحرية السياسية في الإسلام، وأعجب من كل ذلك
أن ينسب انتهاكها إلى الإسلام، وأن يتشدّق الحاكم المسلم
في خطبه: بأنه يطبق أحكام الشريعة في الصغيرة والكبيرة،
وأن يتشدق حكام الاستبداد وفقهاؤه بأن كل الأمور في الدولة
التي تسمّى الإسلامية تدار بموجب الشرع: كتاب الله وسنة
رسوله!، فكيف يصح انتساب دولة إلى الإسلام، وقد وقعت في
نواقض العقيدة السياسية في الإسلام، ولا سيما القاعدة
الكبرى: الحرية السياسية، التي هي منصة ( النظام الشوري)،
الذي لا يصح وصف أي نظام حكم بأنه إسلامي، ما لم يطبقها.
والسماح بالمعارضة السياسية هو صمام الأمان لضمان سلامة
الدولة من الفتن الداخلية، وما أخفق العرب في السياسة
والاقتصاد والحرب، إلا عندما شاع القمع السياسي، الذي
نمت في أجوائه كافة ألوان القمع الديني والفكري والاجتماعي،
وكممت الأفواه، فاتسعت الهوة بين الظواهر والبواطن، واستحر
النفاق والكذب، وانتهت الأفكار النيّرة إلى السجون المظلمة،
وهاجرت الكشوف والاختراعات إلى أكاديميات الغرب، لأن المسلمين
اضطهدوا المفكرين، وكافأوا المهرجين ونجوم الرياضة والغناء.
المجتمع المقموع
والعلاقة بين سمات المجتمع المقموع كالذل والتقليد
وفساد الأخلاق بالقمع السياسي، علاقة تراتبية تبادلية
كما بين الكرامة والحرية. فبسبب غياب الحرية، ضعف الشعور
بالكرامة. وعندما لم يستطع المسلمون أن يثمنوا الحرية
السياسية، لم يستطيعوا أن يجنوا الكرامة؛ وكان طبيعياً
أن لا يكونوا دولا قوية ولا شورية، كما كان طبيعا أن يفقدوا
حاسة الاختيار والاشتيار؛ وصاروا يقتبسون علوم الغرب بعد
أن سبقتهم أمم تعرفت على الحضارة الغربية بعدهم كاليابان،
رغم أن رواد البحث العلمي فيها، كانوا يقصدون مصر العربية
الإسلامية، للاستفادة من علومها، في فجر النهضة العربية.
ولا ينقص العرب والمسلمين ثروة ولا مواد خام ولا أسواق،
إنما ينقصهم الإحساس بالكرامة والشهامة، الذي يجعلهم يضحون
بشيء من الراحة المؤقتة، من أجل الراحة الدائمة، فالحرية
هي ضمان حقوق العلماء والمفكرين والمثقفين، الذين إذا
انقمعوا صار التعليم تلقينا وتقليدا، يعطل العقل والإرادة.
بفقدان الحرية السياسية يذوي الإبداع، ويتحول غالب
المثقفين بكافة اتجاهاتهم وأطيافهم، من تراثي وحداثي،
إلى (جوقات) تردد الكتب الصفراء أو البيضاء، بما فيها
من حسنات ارتباط الماضي بالحاضر، وهي حسنات ضئيلة، وسيئات
كبرى من التناقض وإلف الذلة والعبودية، والسحر والتنجيم
والجنس، أو تردد ما قال (كانت) و (جوته) و(رينان) و (رولان)
و (سارتر) و(كارل ماركس) لا تكاد تفقه أو توطن أو تؤصل
أو تجدد، بل ان غلافات بعض الكتب العربية الحديثة التي
تعرض بعض الآراء المقتبسة إنما هي تقليد لغلاف الكتاب
الأعجمي نفسه.
ولأن التفكير لا ينمو ولا يستقل فضلاً عن الإبداع والابتكار،
إلا في جو يتمتع فيه الناس بحقوقهم السياسية والمدنية،
أصبح القمع الفكري والسياسي داء، ينصب للجهل خياماً، وللظلم
أصناماً، وللفسق أزلاماً. فانطمرت الأفكار في الصدور خوفاً
من المصادرة، وتلعثمت الألسنة خوفا من المعاقبة، فتراكم
الفساد باسم الأخلاق، وسمي النفاق مجاملة، والكبت هدوءاً،
والقمع أمناً، والكذب إعلاماً، واعتبر المصلح متطرفاً،
والمستقيم معقداً، والظالم حازماً. وبهذا انعزلت الدولة
عن المجتمع، والنخبة عن العامة، وتحولت المثل العليا إلى
شعارات مجففة تصرف في أسواق الإعلام، وصارت العقول هزيلة،
وأصبح الناس كالزراعة في البيوت المحمية، حدّد لها الفلاح
الشمس والهواء والغذاء والماء، كما يريد.
بين الحرية السياسية وانتهاك العدالة
صار من المألوف أن تجد فقهاء غبش الاستبداد، الذين
برروا انتهاك الحرية، قد برروا انتهاك الكرامة. وكان طبيعيا
أن يمرروا الظلم والطغيان والاستعباد والبداوة باسم الإسلام،
ويطالبون الناس بطاعته، والسكوت على استبداده، وكأنهم
لا يدركون أن الحاكم لا يطاع إلا إذا أطاع نواب الأمة
المنتخبين (أولي الأمر)، وأذعن لإرادة الأمة، وسمح بالمعارضة
السلمية، وللمجتمع المدني وللتجمعات الأهلية للأحزاب السياسية
بالتشكل وبالحراك، وأذعن - كارهاً أوراضياً - أن يؤمر
بالمعروف وينهى عن المنكر، روحياً ومدنياً، وإن لا كان
طاغوتاً متفرعنا. هناك من يخلط بين مفهومين لا ينبغي الخلط
بينهما: الأول وجوب طاعة الحاكم الشوري في المعروف، وتحريم
الخروج العسكري عليه، الثاني: مشروعية الجهاد الدستوري،
في سبيل إقامة دولة النظام الشورى.
بنقص الحرية السياسية وفقدانها ضاعف الحاكم استبداده،
وزاد فساده، في عصر الهيمنة الصهيونية والأمريكية والأوربية،
فصارت الثروة في يده اليمنى، ومقادير الشعب في يده اليسرى،
وبيده العسكر والبوليس، وبيده الإعلام والقضاء، فصار الشعب
قطيعاً كسائر البهائم، لا يسمع ولا يرى ولا يأكل ولا يشرب
بل ولا يستنشق إلا ما يشاء الحاكم.
التربية والحرية السياسية
الحرية السياسية هي أساس الحياة في الإسلام، ولا تصلح
تربية روحية ولا مدنية ولا علمية ولا اجتماعية إلا في
ظلال الحرية السياسية، فالأحرار هم الذين يفكرون، ويؤمنون
ويجاهدون، ويعبدون الله، ولا يشركون به، ولا يخافون إلا
الله، ولا يرجون إلا الله، ويصبرون صبر الشجاعة والعزيمة،
وبهم يكون مجد الأمم، وهم الذين يقيمون الحكم الشوري،
ويقفون سداً أمام الطغيان. أما العبيد فهم الذين يسجدون
للشهوات، ويسيرون في الشبهات، ويصبرون صبر الذل والهزيمة
والإحجام، لا صبر العزيمة والكرامة والإقدام. ورحم الله
ابن غنيم الذي يقول: صبر الكريم على المذلة والأذى إحدى
الكبائر.
ما نشط العقل الإبداعي العلمي في العصور الذهبية للحضارة
الإسلامية إلا بحرية العلماء، وما انتصر العرب والمسلمون
إلا بالحرية والتجديد، وما ضعف العرب والمسلمون إلا بالقمع
والتقليد، ولا سيقوا أسرى ولا قتلوا، الا عندما رضوا بالاستعباد،
ولا انتهكت حرماتهم إلا عندما أسلموا الحكام مقاليدهم،
من دون محاسبة ولا مراقبة. ولا ديست مقدساتهم إلا عندما
صاروا عبيداً يكررون ويقلدون.
|