على ضوء تقرير (هيومان رايتس ووتش)
هل تحسنت حقوق الإنسان في السعودية؟
سعدالدين منصوري
سؤال ما كان ينتظر طرحه، في أي وقت، في بلد أدمنت فيه
السلطات الرسمية السياسية والدينية على اقتراف أشد الانتهاكات
لحقوق الإنسان خطورة، حتى بلغ الحال في لحظة ما في تاريخ
هذا البلد أن يكون (حق الحياة) وهو الحق الطبيعي لكل الآدميين
تحت خطر الانتهاك، وقد وقع ذلك بالفعل قبل قيام الدولة
السعودية، بل يمكن الجزم بضرس قاطع أن دولة آل سعود لم
تقم في الأصل إلا على أساس انتهاك الحقوق الأولية والأساسية
للسكّان، أي انتهاك حق الحياة، وتالياً الحقوق الأخرى
مثل حق العبادة، والعمل، والتعبير، وحق تقرير المصير.
وهذا ما يجعل منها دولة غير تعاقدية، وبالتالي دولة ليست
طبيعية، أي لم تنشأ بناء على الطبيعة الإنسانية ولم تولد
كتعبير عن إرادة الناس واختياراتهم.
|
منذ العام 1932 وحتى العام 1992 لم يكن هناك نصٌّ مكتوب
في أي من الأضابير الرسمية يشرح حقوق المواطنين فضلاً
عن أن يحدد الضمانات الكفيلة بحفظها وصونها من الانتهاك.
فكانت الأجهزة الأمنية والدينية تعمل وفق آلية ونهج غير
منضبطين بقانون أو حتى بعرف، بالنظر الى تباين الأعراف
من منطقة لأخرى، فما يعتبر خادشاً للحياء في الحجاز قد
يكون محتشماً في نجد والعكس صحيح أيضاً. على أية حال،
فإن غياب القانون لنحو ستة عقود وهب الجهازين الأمني والديني
سلطات واسعة ومطلقة في انتهاك ودونما رقيب وحسيب حقوق
الإنسان الأساسية في هذا البلد، وصدرت أحكام قصوى تحت
ذرائع متعددة (الإفساد في الأرض)، (التجديف والتعرّض للذات
الإلهية) و(تهديد الأمن والوحدة الوطنية)، و(التخابر مع
دولة عدوّة)، وبناء على هذه الإتهامات صدرت أحكام بالإعدام،
بقطع الرؤوس بالسيف، أو الاعتقالات التعسفية لمدد طويلة،
ومنع عشرات الآف من المواطنين من السفر بعد سحب جوازات
سفرهم، وحرّم كثير منهم من الوظيفة التي هي مصدر عيش لمئات
الآلاف من العوائل، أما الحقوق السياسية والاقتصادية المنتهكة
فتلك قصة طويلة ومؤلمة ويتطلب رصد الحالات مجلدات.
كان التعاون بين رجال الأمن ورجال دين في المؤسسة الرسمية
قد بلغ حد التواطؤ، فكان رجل الأمن يعتقل المواطن ثم يقوم
رجل الدين الذي ينتحل صفقة القاضي بمحاكمة المعتقل في
أقبية السجن، وبعيداً عن أنظار العالم، ودون حضور محام
أو شاهد أو أي شخص آخر ويصدر الحكم التعسفي على المعتقل
بالسجن لسنوات بناء على اعترافات تم انتزاعها من المعتقل
بالإكراه والتهديد ووسائل القهر الأخرى (ولا يزال هذا
الأسلوب قائماً في كل سجون المملكة السعودية).
لم يتغيّر حال حقوق الإنسان في هذا البلد بعد العام
1992، أي بعد الإعلان عن الانظمة الثلاثة (النظام الأساسي،
ونظام مجلس الشورى، ونظام مجلس المناطق) في مارس سنة 1992،
ولكن الذي جرى هو أن تبدّلاً جرى في طريقة الانتهاك، فبعد
أن كان الانتهاك يتمّ بصورة سافرة ومفضوحة، بسبب غياب
القانون، فإن ما جرى لاحقاً أن قائمة الإتهامات تبدّلات،
فلم يعد استعمال (التجديف) مبرراً مقبولاً على المستوى
الدولي لتنفيذ حكم الإعدام، أو تنفيذ عقوبات قاسية، ولكن
ما جرى هو دخول عناوين جديدة لم تكن متداولة مثل (التورّط
في أعمال إرهابية) تخطيطاً أو/و تمويلاً أو/و تمجيداً،
ومن آيات السخرية أن يصيب دعاة الإصلاح بعض من هذه الإتهامات.
بعد هجمات الحادي عشر من سبتمبر 2001، طرأ جديد ليس
في الوعي الحقوقي الرسمي ولا في إرادة العائلة المالكة
لناحية تحسين أوضاع حقوق الإنسان، ولكن انكشاف الدولة
السعودية بكامل حمولتها على الخارج جعل منها مركز اهتمام
دولي إعلامياً وسياسياً وأيضاً حقوقياً، وكان من بين الملفات
المطروحة للفحص هو ملف حقوق الإنسان، ومن بينها حرية التعبير،
وحقوق المرأة، وحقوق الأقليات بمن فيهم العمال الأجانب،
ودور منظمات المجتمع الأهلي في امتصاص فائض الطاقة لدى
الشباب من أجل تجنيبهم مخاطر الانخراط في منظمات إرهابية.
وفي يناير 2003 إنطلق تحرّك شعبي واسع النطاق، عبّرت
عنه وثيقة (رؤية لحاضر الوطن ومستقبله)، والتي مثّلت ذروة
الحراك السياسي والشعبي في بلد لم يألف التقاء طيف واسع
ومتنوع من الفئات الإجتماعية والسياسية والأيديولوجية
على مطالب مشتركة، ومنها المطالبة بوضع دستور ثابت يكفل
حقوق المواطنين ويرسم علاقة واضحة ومنضبطة بين الحاكم
والمحكوم، وإرساء أسس دولة القانون وفصل السلطات الثلاث.
وفي ذلك العام أيضاً، شهدت البلاد ربيعاً حقوقياً غير
مسبوق في تاريخ الدولة السعودية، فقد وجدت الأفكار الحرّة
طريقها الى الرأي العام عبر الصحف والمنتديات الالكترونية
والعرائض والمجالس الشعبية، وأصبح لدى الناس الشجاعة الكافية
لنقد الأوضاع والجهر عالياً بالمطالب المشروعة. ولكن ذلك
لم يكن ممكناً في حال كانت الدولة قوية بما يكفي، ونتذّكر
أن ذلك العام شهد تحوّلين بارزين: انفجار العنف القاعدي
في الداخل، وسقوط النظام العراقي وانهيار النظام الإقليمي
برمته، ووصول رسائل الى آل سعود بأن دولتهم باتت في خطر،
وأنها مهددة بالزوال بانتظار استكمال خطة ضبط الأوضاع
الأمنية والسياسية في العراق.
ولذلك، ما إن نجح الأمير نايف في استيعاب دوامة العنف،
كان القرار التالي مباشرة هو الإنقضاض على حقوق الإنسان:
إعتقال رموز الإصلاح (بمن فيهم المطالبين بإنشاء لجنة
أهلية لحقوق الإنسان)، وإبلاغ الصحف المحلية تعليمات شفهية
بعدم تداول موضوعات الإصلاح (بل واستبدال كلمة إصلاح بكلمة
تطوير)، وملاحقة المنتديات الشعبية التي كانت تقوم بتنظيم
لقاءات مفتوحة ويتم فيها تداول قضايا الإصلاح وحقوق الإنسان،
وقد بلغ عدد المنتديات التي طالها قرار الإغلاق نحو 200
منتدى في أرجاء المملكة.
في ضوء ما سبق، يمكن الحديث عن التقرير الصادر الشهر
الماضي (سبتمبر) عن منظمة (هيومان رايتس ووتش) عن أحوال
حقوق الإنسان في السعودية. حيث جاء في التقرير أن (الحريات
العامة في السعودية ما زالت خاضعة للتغيرات السياسية رغم
التحسن الذي طرأ عليها)، وقال التقرير بأن (الملك عبدالله
لم يمأسس الحقوق التي منحها للسعوديين)، وقالت المنظمة
الحقوقية (إن المواطنين السعوديين إكتسبوا المزيد من الحريات
العامة منذ تولى الملك عبدالله بن عبدالعزيز مقاليد الحكم
قبل خمس سنوات، الا أن هذه الحريات ما زالت غير مشرعنة
ومعرضة للخطر بفعل التغيرات السياسية).
وبينما أكّدت المنظمة في تقريرها السنوي أن النظام
الذي يقوده العاهل السعودي البالغ من العمر 86 عاما (أكثر
تحرراً) من سابقيه، حذّرت من أن المكتسبات التي حققتها
الاصلاحات التي قادها الملك عبدالله قد تختفي في المستقبل.
وجاء في التقرير: (اذا خفّ حماس الملك، او اذا اتبع خلفاؤه
طرقا أكثر محافظة، فإن إرث الملك عبدالله لن يتجاوز كونه
نسمة عابرة عوضاً عن أن يكون إصلاحاً ممأسساً ومشرعناً).
ولفت التقرير الى أن ما وصفه بالاصلاحات التي قادها
الملك قد خففت من بعض القيود التي كانت مفروضة على النساء،
وعززت من شعور المواطنين السعوديين بعدالة الجهاز القضائي،
وزادت من مساحة حرية التعبير في المملكة، حسب ما جاء في
تقرير المنظمة التي تتخذ من نيويورك مقراً لها. إلا أن
التقرير يضيف بأنه ما زال ممنوعاً على غير المسلمين ممارسة
طقوسهم بشكل علني في المملكة، وما زال أتباع المذهب الشيعي
يعانون من التمييز ضدهم، بالرغم من المبادرة التي قادها
الملك عبدالله للتعايش بين الأديان.
ويقول التقرير إن أكثر من ثمانية ملايين من العمال
الوافدين وأسرهم ما زالوا محرومين من أبسط الحقوق الاساسية.
وقال كريستوف ويلكي، الذي اشرف على اعداد التقرير: (إن
الملك قام بالعديد من الخطوات، ولكنه لم يبن المؤسسات
التي تضمن الحقوق التي منحها للمواطنين. مع ذلك، هناك
وعي متنام في المملكة بأن الملك عبدالله يحمل في جعبته
برنامجاً للاصلاح. ولكن كلما بحثت أكثر وجدت بأن هذه الاصلاحات
غير راسخة).
ويقول: (إن السعوديين يتمتعون اليوم بحرية أكبر في
انتقاد حكومتهم إن كان ذلك من خلال وسائل الإعلام أو في
المجتمع بشكل عام. ولكن ما زالت هناك العديد من الخطوط
الحمراء الإعتباطية التي لا يسمح بتخطيها بما فيها توجيه
الإنتقاد للأسرة الحاكمة وللمذهب الوهابي الذي تدين به
المملكة).
في تقييم التقرير يمكن القول بأنه كان متوازناً لجهة
أخذه بنظر الإعتبار ما حسبه معدّو التقرير (مكتسبات) في
مجال حقوق الإنسان بصرف النظر عن الموقف منها، وأيضاً
لجهة تشديده على ماهو مأمول من الحكومة السعودية القيام
به من أجل تحويل المكتسبات الى قانون ثابت.
المشكلة القائمة والمزمنة في هذا البلد أن ثمة علاقة
جدلية دائمة بين ماهو واقع (دي فاكتو) غير مضمون وليس
فيه صفة الديمومة والقانون الثابت الذي يمكن به صون الحقوق
وضمان عدم اختراقها من قبل الجهات الرسمية الأمنية والدينية
والسياسية والتي غالباً ما تكون في مواجهة مستمرة مع حقوق
الناس. ولذلك، فإن كثيراً من الحقوق التي يتمتع بها الناس
تكون خاضعة للعلاقة بين ماهو واقع وبين ماهو قانون، فليس
كل ماهو قائم اليوم قانوني، أي أنه مدوّن ومصون قانونياً،
ولكنّه قانوني بحكم الواقع، بما يجعله عرضة في أي لحظة
للانتهاك أو الزوال.
كان العام 2003 مثالاً بالغ الدلالة على أن الحقوق
غير مكفولة بقوانين ولا مؤسسة، حيث أن الربيع الحقوقي
الذي عاشه كثير من الناس ما لبث أن تحوّل الى خريف بفعل
عودة لغة القمع ومصادرة الحريات مجدداً على يد وزير الداخلية
الذي وضع حداً لتطوّر حرية التعبير والنشاط الإصلاح السلمي،
بل جرى استعمال العنف على نحو مفرط مع الإصلاحيين دون
تمييز بينهم وبين الجماعات الإرهابية الذي حظي عناصرها
بمعاملة حسنة ومغرية بل مثيرة للسخرية لدى بعض الإصلاحيين
الذين نالوا من العقاب الشديد فيما نال المتورّطون في
عمليات إرهابية قائمة إغراءات مالية ومعنوية وأمنية دفعت
بعض ضحايا المطالب الإصلاحية الى تمني أن يكونوا عناصر
في جماعات إرهابية كيما يحصلوا على (حوافز) لم يحلموا
بها من قبل مثل الحصول على سيارة، وزوجة، ووظيفة، ومبلغ
مالي لتلبية متطلبات المرحلة الأولى من الحياة الجديدة
للعائدين الى المجتمع.
من جهة ثانية، فإن ما يعتبره التقرير (مكتسبات) لا
يمكن لها أن تثمر في غياب إطار حقوقي واضح للعلاقة بين
الحكومة والشعب، فقد يصبح الناس على حال غير ما أمسوا
فيه، وقد يمسوا على حال غير ما أصبحوا عليه، لأن المشيئة
ليست مؤسسة على قانون بل على رغبة الحاكم، وهذا الحاكم
قد يكون شخصاً واحداً أو قد يكون أشخاصاً عدّة وقد يكونوا
طبقة حاكمة.
ومن اللافت في هذا البلد أن الحقوق لا تتم بالمراكمة،
فما يمارسه الناس من حق قد يتعطّل لسنوات وربما عقود قبل
أن يتم استئناف العمل به مجدّداً ولكن من نقطة الصفر.
فغياب المراكمة الحقوقية تجعل الناس في حال صدام دائم
مع الدولة، ببساطة لأن ما يمارسونه أحياناً من حقوق يتوافق
غالباً مع معايير دولية بل وواقع دولي ولكنه ليس بالضرورة
منسجم مع رغبة الحكّام، أو أن القانون قد أضفى على الممارسة
الحقوقية صفة قانونية. ويكفي للتدليل على ذلك، أن بعد
ثمانية لقاءات فكرية أو حوارات وطنية لم تسفر أي منها
حتى الآن عن خطة عمل، ببساطة لأن الحوارات مصمّمة لمعالجة
مشكلة الدولة أو بالأحرى نظام الحكم وليس تسوية المشكلات
العالقة في العلاقة بين الدولة والمجتمع.
المطلوب، وبناء على نصائح التقرير وتوصياته، إرساء
دولة القانون وتحويل المكتسبات الحالية، بصرف النظر عن
الموقف منها رغم ضآلتها، الى قوانين ثابتة وتهيئة الأجواء
المناسبة للإنتقال الى دولة القانون.
|