مصير تنظيم الإفتاء
الصراع بين القرار والفتوى
يحي مفتي
في أول وأبرز تحدٍّ لقرار الملك بتنظيم عملية الافتاء
في السعودية، قررت اللجنة الدائمة للبحوث العلماء والافتاء
التابعة لهيئة كبار العلماء أن تكون أول من تحمل راية
المخالفة مع الدولة. فبعد أن أجازته وزارة العمل منذ 4
أشهر، قررت لجنة الافتاء تحريم عمل المرأة في وظيفة (كاشيره)
أي محصّلة في المحلات التجارية. وأصدرت اللجنة الدائمة
للبحوث العلمية والإفتاء السعودية فتوى رقم (24937) وتاريخ
23/11/1431 الموافق 31/10/2010 وهذا نصها:
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده..
وبعد:
فقد اطلعت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية
والافتاتء على ماورد إلى سماحة المفتى العام من المستفتي
(...) والمحال إلى اللجنة من الأمانة العامة لهيئة كبار
العلماء برقم (1467) وتاريخ 18/11/1431هـ وقد سأل المستفتي
سؤالاً هذا نصّه: (قامت العديد من الشركات والمحلات (هايبربنده،
مرحبا، رد تاج) بتوظيف النساء بوظائف كاشيرات (محاسبات)
تحاسب الرجال والنساء بإسم العوائل تقابل في اليوم الواحد
العشرات من الرجال وتحادثهم وتسلّم وتستلم منهم، وكذلك
ستحتاج للتدريب والإجتماع والتعامل مع زملائها في العمل
ورئيسها؟ ما حكم عمل المرأة في مثل هذه الأعمال؟ وماحكم
توظيف الشركات والمحلات للمرأة في هذه الأعمال أفتونا
مأجورين).
وبعد دراسة اللجنة للإستفتاء أجابت: لايجوز للمرأة
المسلمة أن تعمل في مكان فيه اختلاط بالرجال، والواجب
البعد عن مجامع الرجال والبحث عن عمل مباح لا يعرّضها
لفتنتها ولا للإفتتان بها، وماذكر في السؤال يعرّضها للفتنة
ويفتن بها الرجال فهو عمل محرم شرعاً وتوظيف الشركات لها
في مثل هذه الأعمال تعاون معها على المحرم فهو محرم أيضاً،
ومعلوم أن من يتقي الله جل وعلا بترك ما حرم الله عليه
وفعل ما أوجب عليه، فإن الله عز وجل ييسر أموره كما قال
تعالى (ومن يتّق الله يجعل له مخرجاً. ويرزقه من حيث لا
يحتسب) وفي الحديث المخرج في مسند أحمد وشعب الإيمان للبيهقي
عن رجل من أجل البادية قال سمعت رسول الله صلى الله عليه
وسلم يقول: (إنك لن تدع شيئاً لله عزّ وجل إلإ بدلك الله
به ما هو خير لك منه). قال البيهقي رجاله رجال الصحيح
ومعلوم أن جهالة الصحابي لا تضرّ كما نص على ذلك علماء
الحديث، وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله
وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
الرئيس: عبد العزيز بن عبد الله بن محمد آل الشيخ؛
عضو: أحمد بن علي سير المباركي؛ عضو: صالح بن فوزان الفوزان؛
عضو: عبد الكريم بن عبد الله الخضير؛ عضو: محمد بن حسن
آل الشيخ؛ عضو: عبد الله بن محمد بن خنين؛ عضو: عبد الله
بن محمد المطلق.
وتأتي هذه الفتوى من اللجنة الدائمة برئاسة المفتي
العام الشيخ عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ بعد 4 أشهر
من السماح لأحد المتاجر التموينية الكبرى بمدينة جدة بتوظيف
الفتيات السعوديات للعمل في وظيفة محصّلات لمحاسبة الزبائن
رجالاً كانوا أم نساءً. وكانت سلسلة المتاجر الكبرى (هايبربنده)
وظّفت 16 إمرأة على صناديق القبض في متاجر لها في جدة،
ثم تبعتها متاجر أخرى مثل (مرحبا) و(سنتربوينت). وعلى
الرغم من معارضة بعض رجال الدين، إلا أن هذه الفتوى هي
أول رفض ديني بهذه القوة لمبدأ توظيف النساء على الصناديق.
تجدر الإشارة الى أن مخازن (هايبربنده) وللتخفيف من حدّة
الانتقادات، خصّصت مسارات المحاسبات للنساء والعائلات،
إلا أن الفتوى الأخيرة جاءت صريحة في هذا الخصوص.
وقد وضعت الفتوى بالصيغة التي ظهرت فيها، وكذلك التوقيت،
كونها تأتي بعد أربعة أشهر على قرار من وزارة العمل بالسماح
للنساء بالعمل في وظيفة (محصّل)، في مواجهة مباشرة ليس
مع قرار وزارة العمل فحسب، بل مع خلفية قرار الملك بتنظيم
عملية الإفتاء، والتي كان يهدف من ورائها تسهيل عمل الدولة،
ومنع التصادم بين الأخيرة ورجال الدين من خلال إصدار فتاوى
معارضة لسياسات الدولة. فقد نصّ الأمر الملكي رقم (13876/ب)
الصادر بتاريخ 2/9/1431هـــ، الموجّه الى المفتي العام
للمملكة الشيخ عبد العزيز آل الشيخ (وهو أحد الموقّعين
على فتوى تحريم عمل المرأة في وظيفة محصّل)، على منع الاجتهادات
التي يقوم بها البعض (يتخطى بها اختصاص أجهزة الدولة..)،
وفيما كان الأمر الملكي ينزع نحو مركزة الدولة وتأكيد
مرجعيتها النهائية من خلال التأكيد عل دور الدولة وصلاحياتها
وأنظمتها، فإن فتوى حرمة عمل المرأة في وظيفة (كاشيره)
وضعت الملك في حرج شديد، بين العمل بقرارات وزارة العمل
أو فتوى هيئة كبار العلماء الذي جعلها الأمر الملكي هي
المرجعية النهائية والعليا بخطابه بما نصّه (نرغب إلى
سماحتكم قصر الفتوى على أعضاء هيئة كبار العلماء ، والرفع
لنا عمن تجدون فيهم الكفاية والأهلية التامة للاضطلاع
بمهام الفتوى للإذن لهم بذلك، في مشمول اختيارنا لرئاسة
وعضوية هيئة كبار العلماء ، واللجنة الدائمة للبحوث العلمية
والإفتاء..).
وكما يظهر من فحوى الفتوى والأمر الملكي، أن التعارض
بين الدين والدولة ليس محصوراً في نطاق فتوى هنا وأخرى
هناك قد تخالف سياسات الدولة، فقد أظهرت فتوى هيئة كبار
العلماء في شأن عمل المرأة، وهي بالمناسبة ليست الفتوى
الوحيدة، أن ثمة مجالين عامين يعملان بصورة منفصلة، فلأهل
الدولة مجالهم ولأهل الدين مجالهم ولا رابط ضروري بينهم،
وخصوصاً فيما يرتبط بالشؤون الاجتماعية. فبالرغم من أن
أعضاء هيئة كبار العلماء، بمن فيهم المفتي يبدون مرونة
كبيرة فيما يرتبط بالموقف من أهل الحكم، من الملك والأمراء
وبالرغم من أن الفساد المالي قد تسرّب الى المؤسسات الدينية
الكبرى والصغرى، إلا أن القضايا الإجتماعية غالباً ما
تصدر فيها مواقف متشدّدة من قبل علماء الدين الوهابيين.
ما يلفت في فتوى لجنة الإفتاء التابعة لهيئة كبار العلماء،
جاءت بعد فتوى صدرت من إثنين من المشايخ المتشدّدين اللذين
قد يكون الأمر الملكي بتنظيم الإفتاء قد صدر بناء على
كثرة الفتاوى الصادرة عنهما، وهما الشيخ يوسف الأحمد (صاحب
فتوى هدم الحرم المكي)، والشيخ عبد الرحمن البرّاك (صاحب
فتوى تكفير وقتل دعاة الاختلاط).
فبعد صدور الأمر الملكي بضبط الفتوى، أصدر الشيخ يوسف
الأحمد فتوى تحرّم عمل النساء في وظيفة (كاشيرات). وقال
في إجابة عن سؤال عن عمل المرأة في أسواق (بنده) على قناة
(الأسرة) بأنه (محرم شرعاً.. لما فيه من اختلاط النساء
بالرجال) وأنه (من وسائل تطبيع المشروع التغريبي وفرضه
على المجتمع حتى يتدرب عليه ويتقبله) واصفاً هذا المشروع
بأنه (من مشاريع المنافقين ويجب وقفه ومنعه وصده). ودعا
الأحمد لمقاطعة أسواق (بنده) المنتشرة في كافة أنحاء المملكة،
والمملوكة من قبل شركة (صافولا)، واصفاً المقاطعة بأنها
(من وسائل الإحتساب على المخالفين لشريعة الله). ودعا
الملك عبد الله للعمل (على إيقاف المشروع ومحاسبة القائمين
عليه والموافقين على إمضائه) .
وكان مدير مكتب العمل في محافظة جدة قصي فلالي أكّد
بأن المرأة ستتمكن قريباً من العمل في وظائف كاشيرات في
المتاجر الكبرى في أسواق التجزئة مبيناً (أن خطة تطبيق
عمل المرأة في هذا المجال، تقتضي عمل حواجز مناسبة بين
الرجل والمرأة أثناء العمل)، وقال الفلالي إن شركات تعمل
في مجال التسويق أصبحت مهيأة تماما لتوظيف السعوديات في
هذا المجال، بعد استكمال الشروط التي وضعت من قبل وزارة
العمل، ملمّحاً إلى أن إتاحة الفرصة للمرأة السعودية للالتحاق
بهذه المهنة، يأتي ضمن توجّه وزارة العمل لفتح مجالات
عمل أوسع، بعدما كانت مشاركتها مقتصرة على وظائف حكومية
محدودة.
يشار إلى أن قطاع التجزئة في المملكة يعمل فيه أكثر
من مليون وخمسمائة ألف موظف، ويعتبر هذا القطاع من أعلى
القطاعات في نسبة التسرب الوظيفي، ولا يتجاوز عدد السعوديين
العاملين فيه حالياً 16 في المائة أي ما يقارب 240 ألف
وظيفة ، في حين أن عدد العاملين في وظائف الكاشيرات في
المملكة من السعوديين يصل إلى أكثر من سبعة آلاف شاب.
من جهة ثانية، قامت (قناة الأسرة) المملوكة للشيخ محمد
الهبدان، إمام مسجد في العاصمة الرياض، بتنظيم حملة لمقاطعة
عمل المرأة، وقد اشتهرت القناة منذ انطلاقتها ببث الفتاوى
المتشدّدة والتحريضية، وشارك في الحملة كل من يوسف الأحمد
وناصر العمر، وكلاهما من المشايخ المتشدّدين الذين يحظون
بدعم أمراء كبار في العائلة المالكة مثل الأمير نايف.
الموقف الآخر صدر عن رجل الدين المتشدّد الشيخ عبد
الرحمن البراك من خلال فتوى وضعت في موقعه بتاريخ 13 شوال
الماضي بعنوان (توظيف النساء بائعات من خطوات الشيطان)،
هاجم فيها وزير العمل الحالي المهندس عادل فقيه متهماً
إياه بأنه على إثر سلفه (إشارة الى الوزير السابق غازي
القصيبي). وقال البرّاك في فتوى تؤيّد تحريم عمل المرأة
(والسماح بتوظيف النساء من قبل وزارة العمل يُصدِّقُ الظن
الذي حصل عند بعض الناس من تعيين وزير العمل الحالي، وأنه
على إثر سلفه).
البرّاك وضع مسألة عمل النساء في المحلات والأسواق
في وظيفة محصّلات (كاشيرات)، في سياق ما اعتبرها القضية
الكبرى، أي (قضية الإختلاط بين الرجال والنساء)، وأن تلك
الوظيفة تنطوي على كل مفاسد الإختلاط بحسب الفتوى. واتّهم
البرّاك المدافعين عن عمل النساء بأنهم (المستغربون الذين
اتخذوا الغرب قدوة، فهم يسعون إلى تفعيل الاختلاط في جميع
مجالات العمل في الأمة، وهؤلاء ضررهم عظيم على الأمة وذلك
لوجهين:
1ـ أنهم من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا.
2ـ أنهم يفعلون ذلك باسم الإصلاح، وما أشبههم بالذين:
(قالوا إنما نحن مصلحون). وحكم الإختلاط قد عُلم، وهو
التحريم، كما أفتى بذلك العلماء قديماً وحديثاً، وجرى
حول ذلك ما جرى في الأيام السابقة من التلبيس والمغالطة
من بعض الناس).
واعتبر الشيخ البرّاك أن عمل المرأة بائعة أسوأ من
عملها في كثير من المجالات، لأنها تواجه المشترين طول
وقت الدوام الطويل، (ومعلوم أنه لا يخُتار لهذا المقام
من النساء إلا من تتوافر فيها اللياقة البدنية وحسن المظهر
واللطف في التعامل، وفي المشترين أصناف من ذوي القلوب
المريضة والعيون الباحثة عن المناظر الجميلة، وأغلب الظن
أن الحجاب محرم عليها في عملها هذا، اللهم إلا في هذه
المرحلة، عملاً بسنة التدرج).
ولم يقتصر عقاب التأثيم على المرأة العاملة في وظيفة
محصّلة (كاشيرة)، بل شملت فتوى البرّاك بالإضافة الى المرأة
نفسها وليّها ومن وظّفها، وصاحب القرار في السماح بذلك،
فقاعدة الشريعة أن المحرم يشترك في إثمه كل من له أثر
في وجوده؛ الفاعلُ، وكلُّ معين عليه، (ولا تعاونوا على
الإثم والعدوان واتقوا الله إن الله شديد العقاب) فعلى
أولياء أمور النساء وعلى أصحاب المحلات والأسواق أن يتقوا
الله ويراقبوه. ولعل الفقرة الأشد إثارة للجدل قوله (وأن
يكون المانع لهم عن فعل الحرام خوفَ الله، لا النظام،
فمتى سمح لهم اتخذوا منه فرصة لتجاوز حدود الله). فكلام
البرّاك ينطوي على نقد مبطّن للدولة نفسها التي سمحت باقتراف
الحرام (هنا عمل المرأة في وظيفة محصّلة) وتشجيعها عليه،
ثم القول بأن النظام ليس هو ما يجب أن يحذروه بل الخوف
من الله عزّ وجل، ما يضع حدّاً فاصلاً بين ماهو لله وماهو
لقيصر، وأن النظام لا يجسّد بالضرورة شرع الله سبحانه.
وكما يبدو، فإن فتوى لجنة الافتاء التابعة لهيئة كبار
العلماء والتعقيب الملتهب للشيخ المتشدّد عبد الرحمن البرّاك
يعزّز الرأي القائل بفشل الأمر الملكي بتنظيم الافتاء،
وحصره في أشخاص تعيّنهم الحكومة، ليس لأن ذلك يخالف طبيعة
الفقه الإسلامي عموماً في رفض محاصرة الإفتاء في أشخاص
محدّدين فحسب، بل إن حجم المزاولين لعملية الأفتاء بلغ
حداً يصعب السيطرة عليه من أية جهة كانت، فضلاً عن انفصال
الطبقات الثانية والثالثة عن الطبقة الدينية الأولى التي
كانت فيما مضى تحظى بسلطة روحية على مادونها من الطبقات،
وأصبحت هناك طبقات موازية إنفصلت من الهرم الديني تزاول
أدواراً أشد تأثيراً وتوازي في أهميتها كبار العلماء.
|