الولايات السعودية المتحدة
د. مضاوي الرشيد
دخل النظام السعودي بالفعل مرحلة افول نجمه في العالم
العربي منذ بداية القرن الواحد والعشرين، وقد افلتت بعض
الشعوب العربية من مرحلة الحقبة السعودية خاصة في لبنان
وفلسطين والعراق، ومؤخرا في مصر والتي كانت حجر الاساس
في المد السعودي الذي هيمن على المنطقة تحت مظلات مختلفة
ومتعددة منها الثقافي والاعلامي والديني والسياسي والاقتصادي.
مرحلة الافول هذه دفعت النظام الى ان يولي وجهه شرقا نحو
دويلات الخليج الصغيرة، وجنوبا باتجاه اليمن فيدفع بثقله
خلف مشروع جديد يختلف تماما عن مشروع مجلس التعاون الخليجي
والذي يقرب ان يصل الى عامه الثلاثين.
الحراك السعودي الحالي يحاول ان ينتشل النظام السعودي
من عزلة فرضتها عليه سياسات خارجية مكنت الانظمة القمعية
العربية على حساب المجتمعات وقضاياها الحية من القضية
الفلسطينية مرورا باحتلال العراق والموقف السعودي المعروف
منه ناهيك عن الحرب على لبنان وغزة والتي جرت النظام الى
مهالك الوقوف جنبا الى جنب مع المعتدي ضد المعتدى عليه.
استطاعت كل هذه المواقف ان تحسر الحقبة السعودية وتجعلها
مرتبطة برجعية لم تعرفها المنطقة العربية في تاريخها الماضي.
وبما ان الحقبة السعودية ارتبطت بالبترودولار، لم تصمد
امامها سوى ارادة الشعوب وليس النفوس الضعيفة التي دفعها
العوز والحاجة والاقتصاد المتردي الى ركوب المركب السعودي
وتمجيده.
السعودية اليوم ليس لها من الخيارات سوى الاتجاه الى
الخليج بدوله الصغيرة والتي تهتز رعبا من خطر ايراني وفوبيا
وتشنج واحتقان بدت ملامحه واضحة وصريحة. تستغل السعودية
اليوم هذا الخوف الحقيقي او الوهمي من اجل تثبيت هيمنتها
على المشيخات الخليجية، وخاصة تلك التي نعتقد انها تربطها
بها اواصر القرابة والقبيلة والجوار والمصالح الاقتصادية
المشتركة.
ترتفع اصوات تنادي وتهتف مستنجدة بعلاقات وهمية اسرية
لتغطية فرضية سياسية تتمثل في هيمنة واضحة وصريحة من الشقيقة
الكبرى على تلك الصغرى والتي بسبب الفوبيا فيها انعدمت
قدرتها على استيعاب حالة الخوف المرضية التي قد اصابتها.
ورغم ان ثلاثا من هذه الدول تتمتع بمستوى معيشي افضل بكثير
من الداخل السعودي، وثروات هائلة وصناديق سيادية، الا
انها تبقى سياسيا ضعيفة ومرتبكة غير قادرة على تحويل القدرة
الاقتصادية الى قوى سياسية حقيقية.. ليس لان حجمها وتعداد
سكانها لا يسمح لها بذلك، بل لان تركيبتها لم تتطور لتكسب
قوى بالمجتمع خلفها.
فالكويت وقطر والامارات تعتبران دولتين قويتين اقتصادياً
ولكنهما ضعيفتان سياسيا امام المد السعودي والذي قد يلتهمها
ويبتلعها او يحولهما الى ولايتين سعوديتين. وتتميز دولة
واحدة كالبحرين بالضعف السياسي والاقتصادي معا، لذلك لم
تستطع ان تصمد امام ثورتها الشعبية دون استحضار القوات
السعودية تحت مظلة درع الجزيرة كغطاء لتدخل سعودي سافر
في شأن محلي بحريني. وبعد ان اعطت الولايات المتحدة الامريكية
الضوء الاخضر لهذا التدخل وقايضته بتدخلها تحت مظلة الشرعية
الدولية والناتو والجامعة العربية في الشأن الليبي، نجد
ان هيمنة السعودية على البحرين قد اكتملت وتوجت بوجود
آلة عسكرية سعودية في ازقة المنامة وقراها، حيث تتم عملية
حجر وتطويق لمعظم شعب الجزيرة الصغيرة. فكانت البحرين
اول غنيمة سعودية على خلفية انحسار تأثيرها في الفضاء
العربي الفسيح، رغم انها تحاول جاهدة ان تحتل بقعة على
خارطة شمال افريقيا حاليا من خلال تبنيها لثورة ليبيا،
وربما يكتشف ثوار ليبيا بعد فوات الاوان معنى التدخل السعودي
في شأنهم الداخلي ويدفعون ثمنا باهظا تماما كما يدفع شعب
البحرين في المرحلة الحالية.
اما الكويت فقد بدأت بالفعل التململ من الثقل السعودي
خاصة وانه دوما يدخل من باب مساندة الحكام على حساب المجتمع
ومن باب اخطر بكثير وهو باب الطائفية البغيضة. لا تسلم
اي بقعة في العالم ان امتدت اليها اليد السعودية الخارجية
وقد بدأت تتضح ملامح التأزم والتشنج الطائفي، ليس فقط
بين السعودية وشرائح من المجتمع الكويتي، بل بين الكويت
والبحرين بسبب تصعيد الخطاب الطائفي السعودي وتفشيه في
اذاعات وقنوات اعلامية وجرائد محلية تخلت عن كل معطيات
الوطنية والانتماء الى الارض لتحقن المجتمعات بحقن البغضاء
والاقتتال الطائفي، وان كانت هذه الدول الخليجية قد تمكن
منها داء الفوبيا الايرانية.. الا ان الواقع يعكس ان الخطر
الحقيقي يأتي من التصعيد الطائفي، خاصة ان هذه الدول لم
تكن يوما ما متجانسة على المستوى الشعبي، بل هي بوابات
خليجية ومرافئ اقتصادية، لها باع طويل بالاتجاه نحو البحر
واقتصاده، مما ادى الى موزاييك اجتماعي قبلي ديني وعرقي
مختلف ومتباين، لو قدر له ان يتطور لكان نمطا مشرفا من
انماط العولمة البشرية، وانصهار الاجناس والاعراق، بدلا
من ان يصهر بالقوة، ويعجن بالعنف حتى يغطي تعددية كانت
في الماضي من عوامل القوة والابداع وليس الضعف.
ستأتي مرحلة الهيمنة السعودية مصحوبة بعنف ثقافي وحقيقي
على الارض، ناهيك عن عنف ديني يختزل سكان الخليج بمنظومات
لم تصلح ولم تحتو التعددية في داخل الجزيرة العربية، ناهيك
عن شواطئها الفسيحة والتي احتضنت في الماضي ثقافات وابداعات
اقتصادية من صيد اللؤلؤ الى السفن الشراعية التي ابحرت
الى شرق آسيا وسواحل افريقيا. اما قطر وان كانت اليوم
تتصدر عملية انتقائية لدعم الثورات العربية من خلال اعلامها
القوي.. الا انها تظل تتوجس من الهيمنة السعودية والتي
ربما تكون قطر قد اجلت تفعيلها الى المستقبل. لكن المواجهة
قد تحدث خاصة وان السعودية تستطيع ان تقصم ظهر قطر من
خلال اللعب على وتيرة القبلية، تماماً كما حدث عندما تأزمت
العلاقة مع الشقيقة الكبرى وربما ان القواعد العسكرية
في البحرين وقطر تمثل حماية ليس من ايران، وانما من المد
السعودي المرتقب، تماماً كما كانت البحرية البريطانية
في مطلع القرن العشرين تمثل ضمانة لمشيخات الخليج ضد المد
السعودي المتكرر على المرافئ الخليجية.
وتبقى عمان كحالة خاصة اذ انها اضعف اقتصادياً من السعودية،
لكنها تبقى سياسياً اقوى بكثير، خاصة وان مفهوم الدولة
فيها له بعد تاريخي عميق، يرتبط بثقافة دينية تختلف تماماً
عن السعودية، وقد تنجو عمان من المد السعودي رغم ضعفها
الاقتصادي بسبب ارثها الحضاري التاريخي، وتطور مفهوم الدولة
شعبياً واجتماعياً، رغم انها حالياً قد تكون في مرحلة
انتكاسة سياسية. سيظل ارثها القديم جاهزاً للتفعيل عند
اي خطر يهدد امنها، وسيكون هذا الارث هو صمام الامان الذي
سيعود اليه المجتمع عند تعرض الدولة لاي هزة، وستتدارك
عمان الخطر القادم من الخارج والداخل، تماماً كما تداركته
في العصور القديمة.
ويبقى اليمن رغم ضعفه الاقتصادي صرحا لا يمكن ابتلاعه
بالسهولة التي يعتقدها البعض، فهو يشترك مع عمان في ارث
الدولة القديمة ومفهومها وتأصلها في مجلدات ضخمة وملفات
قديمة قدم شعبها. هذا الارث لم يكن ارث مئة او مئتي سنة،
بل هو مرتبط بحضارة قديمة سبقت الاسلام، ومن ثم تمت اعادة
صياغته خلال القرون الاسلامية. ورغم ان المساعدات الاقتصادية
واستقطاب النظام السعودي لشرائح قبلية وغير قبلية والتلاعب
بنسيجه الديني خلال العقود الماضية معروف ومؤصل، الا ان
النظام السعودي لم يستطع حتى هذه اللحظة ان يدخل اليمن
في منظومة الولايات السعودية المتحدة.
ويظل اليمن كما عمان معادلتين عصيتين على المخطط السعودي
بتركيبة النظام السعودي الحالية ومقاومته لاي اصلاح سياسي
حقيقي في الداخل.. سيظل مشروع ولاياته المتحدة مشروعاً
مشبوهاً يحمل في طياته الكثير من المخاطر والانزلاقات،
وان كان هدفه الاول والاخير حماية عروش تدين له بالولاء
والتبعية.. الا ان تبعياته الاجتماعية والسياسية والثقافية
ستكون اكثر هدماً وسلبية. ومنها أولا: تمزيق المجتمعات
الخليجية الصغيرة بفتنة طائفية خاصة وان المخطط السعودي
يتمثل باجهاض اي تحرك سياسي تحت ذريعة انه ينبثق من الطائفة
الشيعية، تماماً كما حصل في البحرين، متجاوزاً بذلك ان
الاكثرية السكانية في البحرين هي اكثرية شيعية تحكمها
أقلية سنية.
ورغم ان ولاء الشيعة في الخليج لدولهم وليس لايران،
تماماً كما هو حال الشيعة بالكويت، حيث انهم اثبتوا انهم
من اكثر الشرائح ولاء لحكام المدينة، تماماً كما هو الحال
في عمان، حيث تتمتع الشريحة الشيعية برخاء اقتصادي ومناصب
مهمة، ويظل ولاؤها لدولتها وليس لعنصر خارجي.. هكذا كانت
وستظل كذلك. اما في دول اخرى فسيجد المد السعودي فسحة
في ثاني المخاطر وهو الانزلاق امام التعصب القبلي واثارة
نعراته من خلال طوابير تجيشها يد النظام السعودي ضد مجتمعها
والذي احتضنها منذ قديم الزمان. فالقبلية كالطائفية هي
اسلحة سعودية تحركها يد النظام وموارده الاقتصادية.
وثالثاً سيكون للمد السعودي اثر خطير فيما يتعلق بتطور
المجتمع المدني الخليجي، حيث ان دخول السعودية على الخط
سيعيده الى الوراء فيتقهقر الاصلاح في هذه الدول تماشياً
مع الحالة السعودية والتي لا تقبل ان تكون نشازاً في الجزيرة
العربية، بل تفضل ان تكون النمط المعتمد والقدوة السيئة.
لا تخاف السعودية من شيء اكثر من خوفها ان تتطور دول الخليج
سياسياً وتنمو تجاربها فينفتح عليها باب من ابواب جهنم
تصيب عدواه الداخل السعودي. ومن هذا المنطلق جند النظام
السعودي نفسه لخنق مبادرات اصلاحية سياسية في دول كالكويت
منذ فترة طويلة، ناهيك عن دعم اكثر الشرائح رجعية على
حساب القوى الوطنية وجعلها كطوابير يكون ولاؤها للشقيقة
الكبرى على حساب ولائها لمجتمعها وظروفه الخاصة، وان فرحت
الشرائح الحاكمة بالدعم السعودي، الا ان اي دعم خارجي
يأتي على حساب مصالح المجتمعات وليس في مصلحتها في نهاية
المطاف.
* عن القدس العربي، 3/4/2011
|