|
د. مضاوي الرشيد |
(طال عمرك)!!
حملات التويتر: مغردون يحطمون الصنم
د. مضاوي الرشيد
تعتمد الانظمة الفردية على مبدأ تضخم الذات الحاكمة،
فتنشأ حولها جملة من السرديات المتضاربة ـ وربما المتناقضة
ـ لتخلق هالة لها شبه قدسية، تدعمها الصورة والصوت والتمثال
والالقاب، ولتخلق حالة رمزية تستحضر من اجل تثبيتها في
الذاكرة الجمعية للرعية كعامل يردع التشكيك او التساؤلات
حول شخصية الفرد الحاكم وسياسته، فتتحول عملية التضخيم
الى غطاء تختبئ تحته زلات البشر ونقصهم وضعفهم وسوء تدبيرهم
للشأن العام. وكلما زاد التسلط في اطار الحكم الفردي،
كلما تزينت الشوارع بالصور العريضة، وارتفعت الاصوات هاتفة
بمزايا تصبح خارقة وبعيدة عن الطبيعة البشرية، وزج بالاقلام
تنظم المديح والاطراء مذكرة بفروسية سياسية مفقودة، او
حكمة غائبة تصب في خانة الدعاية المفبركة والخطوط العريضة.
وليس من المستغرب ـ عندما تسقط الرموز ـ فإن اول ما
تقوم به الشعوب الحية، هو تمزيق الصور، وتحطيم التماثيل،
وتغيير اسماء الشوارع والساحات والازقة، كشاهد على نهاية
مرحلة وبدء اخرى جديدة؛ وتسقط معها منظومات عبادة الفرد
ورموزها المرئية، لتستبدل بأخرى؛ فينشدّ العالم لصور التهشيم
التي تستعرض على الملأ، في عملية تطهير واجتثاث لرمزية
العصر البائد بسرعة فائقة، رغم ان تفكيك البنية القديمة
قد يحتاج الى سنوات قبل ان تظهر ملامح العصر الجديد، وتتضح
صورة جديدة للكيان القادم.
تتهاوى ملامح الصور القديمة والتي تقف على تقاطع الشوارع،
وتتصدر جدران المباني الرسمية وغير الرسمية، وهي صور قد
لا يتجرّأ الكثير للنظر اليها، والتحديق بها، عندما يكون
الفرد الحاكم في موقع القوة والهيمنة. لكن فجأة وعند اللحظة
الحاسمة يحدق المواطن بها ويزدريها، وتمتد يده اليها لتمزيقها
او حرقها او البصق عليها، في تحد واضح وصريح لرؤيتها التي
قيدته واسرته لمدة طويلة. وتصبح عملية تمزيق صورة ما عملا
بطوليا، ومشهدا مؤثراً في الذاكرة الجمعية القادمة، والتي
تتمخض بعد عملية ولادة عصيبة. وهكذا تصبح عملية تحطيم
رموز الماضي عملية سهلة عفوية تنبثق من كبت جماعي استحوذ
على المجموعة وهي تحاول التخلص من هذا المكبوت فجأة ـ
وبسرعة غريبة ـ للتعويض عن سنوات القهر الممزوجة بالرمز
المزيف.
وقد عرفت المنطقة العربية مثل هذه الحالة خاصة، وان
انظمتها استفردت وطورت الحكم الفردي حتى اصبحت سمة ملازمة
للمنطقة، وكأنها قدرها وماضيها وحاضرها، حتى جاء الربيع
العربي ليحطم اصناما سقطت تحت ضغط شعبي لم تعرفه المنطقة
منذ ان تصدت للاحتلال الخارجي في مرحلة التحرير، وخمدت
تلك اللحظة التي تسلق عليها مجموعة من الرموز، وتخفوا
خلف شعاراتها ليثبتوا دعائم حكم يجتر شعارات قديمة، لم
تعد تصلح لمثل هذه المجتمعات التي ارهقها مبدأ عبادة الذات،
وتضخم الانا ورموزها.
ورغم أن لحظة تحطيم الصنم وصوره كانت لحظة حاسمة قصيرة،
الا انها دائما تكون مسبوقة بسرديات مخفية تتراكم خلال
سنوات طويلة، اول ما تطمح اليه هو تهشيم الرمز، إما بالكلمة
الجريئة، او النكتة، او حتى بالكتابة على الجدران، من
مبدأ ان القوة تكون دوما مصحوبة بالمقاومة، وكل من يفرض
رمزه على الآخرين، سيواجه بسلسلة طويلة من السرديات المضادة.
وهناك امثلة كثيرة منها: اهازيج العبيد في الولايات المتحدة،
حيث كانت اغانيهم في مزارع القطن والتنباك تبلور مرحلة
المقاومة للعبودية، وتحطم شخصية السيد المتجبر، قبل ان
تتبلور حركة شعبية مدنية مناهضة للعنصرية وداعية للحرية.
والاهازيج ليست وحدها وسيلة لمثل هذه المقاومة، بل
ان الرقص هو ايضا قد يتحول الى مقاومة بالجسد بعد الكلمة
تماماً، كما فعل عمال كوبا في تطويرهم لفن رقص السامبا
وغيره من فنون، كانت تخرج من رحم الاستبداد، وتحرر الجسد
من العبودية، قبل ان يتم التخلص من قيود الأصنام المفروضة
عليهم. فمقاومة الاصنام المتحكمة الفردية تبدأ اولا بمظاهر
قد لا تعتبر في بدايتها وسيلة فعالة او مجدية، لكنها تحضر
مسبقا لعملية قادمة، بتأهيل النفس البشرية للمواجهة، فتصبح
مهيأة وقادرة على كسر حاجز الخوف عند لحظة الحسم.
وفي عصرنا الحالي نرصد مثل هذه المظاهر والتي تهاجر
الى العالم الافتراضي، لما يوفره من تخف وتستر قد لا يكون
مضمونا بشكل كلي، الا انه موقع آمن بعض الشيء، اذا ما
قارناه بالاساليب الواضحة والصريحة لمقاومة رمزية الفرد.
وقد اثبتت القدرات البشرية ومخيلتها الخصبة جرأتها عندما
استغلت كل الوسائل الافتراضية المتاحة حاليا، وسخرتها
لاسقاط هيبة الفرد ورمزيته ومؤخرا، كان منها حملة جديدة
بدأت بالسعودية مستغلة توفير وفاعلية في نشر سردية مضادة
دون حسيب ورقيب، هدفها اسقاط رمزية الصنم، وكانت تحت عنوان:
(طال عمرك)، موجه الى رموز الامراء، وتنال من ممارساتهم
وتتهكم عليها، متجاوزة بذلك قوانين القدسية التي اسقطت
مؤخرا على رموز النظام، حيث اسبغت عليهم عصمة ان اخترقت
فستلقى العقاب، والذي قد يتجاوز عشر سنوات في السجن.
استطاع مغردو التويتر ان يثيروا بلبلة، حيث لم يتعود
بعض افراد المجتمع على عملية هدم الرموز، وتحطيم الصور
المرتبطة بالعائلة المالكة، لانهم تعودوا وتربوا على صمت
لم تبدده حتى هذه اللحظة الا تغاريد متفرقة لن نستطيع
ان نستحضرها لما فيها من بعض التعابير الجارحة، والتي
نترفع عنها. الا انها ظاهرة جديدة اخترقت المجتمع في الجزيرة
العربية، خاصة وانه اصبح من اكثر المجتمعات المستخدمة
للتويتر ومشتقاته. وهذا انعكاس لانسداد القنوات المفتوحة
كوسيلة للتعبير عن الرأي المضاد دون التعرض للتنكيل والسجن.
فكلما ازداد انحسار المساحات المفتوحة، نتوقع ان تزداد
هجرة الاصوات المتململة الجريئة الى العوالم الافتراضية،
حيث لا حسيب ولا رقيب؛ بل هناك جرأة تصل الى درجة التجريح،
رغم انها مبتكرة في استغلال ما يتوفر لها من اجل الاطاحة
بالأنا المتضخمة ورمزيتها.
من سمات هذه العوالم الجديدة أنها عابرة للحدود، لا
تعرف جنسية، ولا تقف عند اشارات الوطن، بل هي تهاجر وتضم
تحت لوائها جنسيات متعددة. وهذا بالفعل ما حصل لحملة (طال
عمرك) المغردة عندما التحق بها مجموعة اخرى مصرية، وبدأت
تستعر التغاريد، متحولة بعدها الى ملاسنات انطلقت من جرأة
المجموعة المصرية المكتسبة حالياً، حيث واجهتها تحفظات
سعودية لا تزال غير متحررة من هالة الرمز كلياً. واسقطت
على حملة (طال عمرك) تململا مصريا أثقلته المواقف السعودية
المؤيدة لصنم مصر الراحل، ودعمها له خلال محنته مع شعبه،
اضافة الى قضية المعتمرين المصريين، وسوء معاملتهم في
مطارات المملكة، ولم تتحمل اجهزة المباحث السعودية مثل
هذا التهشيم الجريء، فدخلت على الخط لتغرد منظومتها المملة،
مدافعة عن الصورة وإطارها، والتي اصبحت مكشوفة غير قادرة
على الصمود امام زخم التغريد المضاد، والذي فضح الخطاب
الرسمي بشكل سافر، وبيّن الثغرات والتناقضات التي كانت
سمته خلال مرحلة الربيع العربي.
لا نستغرب مثل هذه الحملات الالكترونية في المستقبل،
خاصة بعد انكشاف النظام السعودي في الداخل والخارج وازدواجية
معاييره التي اعتمد عليها في التعاطي مع الثورات العربية،
حيث ظل مسانداً لأنظمة قمعية في تونس ومصر والبحرين، وبعد
صمت طويل وايعاز من الولايات المتحدة، خرج عن صمته واصبح
ينظّر للديمقراطية في سورية. مثل هذه المواقف لم تعد صالحة
لمواجهة الحراك العربي والوعي المتبلور عند شرائح كبيرة
في الداخل والخارج، وان كان هناك من مخرج فليس للنظام
السعودي الا ان يفتح عينيه، وسيرى صورة غير ايجابية تتجاوز
المخاطر التي حذر منها وزير الداخلية في خطابه الاخير،
والتي تمحورت حول الخطر الايراني الخارجي، والارهاب المدعوم
هو ايضا خارجيا.
لقد تجاوز المجتمع مثل هذه المقولات الباهتة، وان كان
هناك من خطر، فهو سيكون من الداخل؛ وما كانت حملات الانترنت
الا مظهراً من مظاهر مقاومة التفرد بالسلطة، والكذب المرتبط
بالقوة والهيمنة؛ وان كان تحطيم الصورة قد ارتبط بالالفاظ
الهابطة، فهذا لان الذوات المقدسة بدأت تفقد هيبتها، واتسعت
الفجوة بين الخطاب الرسمي والواقع على الارض، ما جعل الصورة
تهتز وتصغر رغم كبر حجمها والتصدي لمحاولات التشكيك بها.
وقد طال هذا السلطة الاولى في الدولة السعودية، بعد ان
اعتقدنا ان المعارضة قد تمركزت على الشخصية الثانية في
الحكم، تاركة الرقم الاول بعيداً عن النقد والتجريح.
وفي ظل المرحلة الحالية التي تميزت بتهاوي صقور العروبة
المزعومين واحداً بعد الآخر، نستطيع ان نجزم ان الوعي
العربي الحقيقي قد بدأ عندما فك الارتباط بين الفرد والشعار،
وعرف حقيقة هؤلاء المتغنين بمثل هذه السرديات الفارغة،
وها هو قد جهز نفسه لحملة تغريد عابرة للحدود، تطعن في
رمزية زائفة لم تصمد امام الانتفاح الاعلامي الحالي، رغم
ما يصرف عليها من اموال طائلة، تحاول ان تحفر لها مكاناً
في المخيلة الجمعية ولكن دون فائدة.
|