مكة للأغنياء:
المكّان الأقدس في الإسلام يتحوّل الى لاس فيجاس
جيرومي تايلو
خلف الأبواب المغلقة ـ في أماكن حيث لا تستطيع الشرطة
الدينية الإستماع ـ بدأ مقيمون في مكة يحيلون الى مدينتهم
بأنها باتت مثل لاس فيجاس، والإسم الأخير ليس مدحاً. خلال
الأعوام العشرة الماضية خضع المكان الأقدس في الإسلام
لتحوّل هائل، وأدى إلى إنقسام الرأي بين المسلمين في كل
أرجاء العالم.
وفيما كانت الصحراء المغبرة التي تصارع من أجل تحمّل
العدد المتزايد من الحجّاج الوافدين للحج سنويّاً، فإن
المدينة الآن تسابق الأماكن المحيطة بها بصفّ برّاق من
ناطحات السحاب، والأسواق التجارية، والفنادق الفارهة.
وبالنسبة لعائلة آل سعود المالكة، فإن مكة هي رؤيتهم للمستقبل
ـ مدينة من الحديد والخرسانة المسلّحة بنيت من أرباح الثروة
النفطية الضخمة، التي تعكس شموخهم الوطني.
ولكن الأعداد المتزايدة من المواطنين، وخصوصاً أولئك
الذين يعيشون في المدينتين المقدّستين مكة والمدينة، ينظرون
الى ذلك بذهول، حيث أن الميراث الآثاري للوطن يداس تحت
هوس البناء المدعوم من قبل رجال دين متشدّدين تقوم دعوتهم
الدينية على التفريط بتراثهم. مكة، المكّان الذي أصرّ
فيه النبي محمد (صلى الله عليه وسلم ـ المترجم)، ذات مرة
على أن المسلمين جميعاً متساوون، أصبح ملعباً للأغنياء،
كما يقول ناقدون، حيث الرأسمالية العارية إغتصبت/استولت
على الروحانية، علّة وجود المدينة.
قلة هم الذين يرغبون في مناقشة مخاوفهم بانفتاح بسبب
المخاطر المرتبطة بنقد السياسة الرسمية في المملكة التسلّطية.
وأيضاً، باستثناء تركيا وإيران، فإن البلدان الإسلامية
النظيرة قد قبضت بصورة كبيرة ألسنتها عن الكلام خشية التداعي
الدبلوماسي والقيود على تأشيرات الحج لمواطنيها. علماء
الآثار الغربيون صامتون خشية من أن المواقع القليلة التي
سمح لهم بالوصول اليها قد تغلق عليهم. ولكن عدداً من علماء
الآثار والمؤرّخين السعوديين يجهرون باعتقادهم أن فرصة
إنقاذ المواقع التاريخية المتبّقية في السعودية تتلاشى
بسرعة.
(ليس هناك من لديه الجرأة للوقوف وشجب هذا التدمير
لمعالم الحضارة الإسلامية)، كما يقول الدكتور عرفان علوي،
المدير التنفيذي لمؤسسة الأبحاث في التراث الإسلامي، والذي
ناضل، ولكن في سدى، لحماية المواقع التاريخية في بلاده.
يقول (لقد خسرنا حتى الآن 400 ـ 500 موقعاً. أتمنى ألا
يكون الوقت متأخراً جداً لناحية وقف مسلسل التدمير).
سامي عنقاوي، الخبير السعودي المعروف في الفن المعماري
الإسلامي في المنطقة، قلق بنفس القدر. يقول (إنه ـ ما
يجري ـ تناقض مطلق مع طبيعة مكة وقدسّية بيت الله).. أبلغ
وكالة أنباء رويترز في بداية هذا العام. (كل من ـ مكة
والمدينة ـ هو من الناحية التاريخية إنتهى تقريباً. ولن
تجد شيئاً سوى ناطحات السحاب).
القلق الأشد إلحاحاً لدى الدكتور علوي هو خطة التوسعة
بكلفة 690 مليون جنيه إسترليني للحرم المكّي، المكان الأشدّ
قداسة في الإسلام، والذي يحوي الكعبة ـ التي بنيت على
يد إبراهيم، والتي يتوجّه إليها المسلمون للصلاة.
لقد بدأ البناء بصورة رسمية في بداية هذا الشهر (سبتمبر)،
مع دعوى وزير العدل السعودي محمد العيسى، بأن المشروع
سوف يحترم (قداسة وجلال الموقع، والذي يتطلب الإهتمام
الأعلى والتنبّه لخدّام الإسلام والمسلمين).
|
د. عنقاوي: مكة التاريخية
انتهت تدميراً |
مشروع التوسعة لمساحة 400,000 متر مربع يجري بناؤها
لاستيعاب الزيادة المقدّرة بـ 1.2 مليون حاج كل عام والتي
ستحيل المسجد الحرام الى أكبر بناء ديني في العالم. ولكن
مؤسسة التراث الإسلامي جمعت قائمة من المواقع التاريخية
الرئيسية التي تعتقد بانها الآن باتت تحت الخطر من قبل
خطة البناء الجارية في مكة، بما يشمل الأقسام العثمانية
والعباسية القديمة في المسجد الحرام، والبيت الذي ولد
فيه النبي محمد والبيت الذي تربّى فيه عمّه لأبيه حمزة.
ثمة نقاش ضئيل بأن مكة والمدينة بحاجة ماسة الى تطوير
البنية التحتيّة. وهناك إثنا عشر مليون حاجاً ومعتمراً
يزور المدينتين (مكة والمدينة) كل عام، مع أعداد يتوقّع
زيادتها الى 17 مليون في العام 2025.
ولكن النقّاد يخشون من أن الرغبة في توسعة مواقع الحج
سمح للسلطات بأن تعلو بوحشية على التراث الحضاري للمنطقة.
معهد الخليج ومقرّه في واشنطن يقدّر بأن 95 بالمئة من
بنايات الألفية الأولى في مكة المكرمة قد تمّت إزالتها
في العقدين الأخيرين وحده.
إن التدمير كان مدعوماً من قبل الوهابية، التفسير الصارم
للإسلام، والتي مثّلت الدين الرسمي للمملكة منذ إمساك
آل سعود بالسلطة في الجزيرة العربية في القرن التاسع عشر.
من منظور الوهابيين، فإن المواقع والمقامات التاريخية
تشجّع على (الشرك)، ولا بد من تدميرها. وحين انتشرت قبائل
آل سعود في مكة في عشرينيات القرن الماضي، فإن أول شيء
فعلوه كان إلقاء الأوساخ في المقابر التي تحوي الكثير
من الشخصيات الهامة في الإسلام. فكانوا يقومون بتدمير
تراث البلاد منذاك. ومن بين المواقع الثلاثة التي سمح
فيها السعوديون لهيئة الأمم المتحدة بتصنيفها ضمن مواقع
التراث العالمي، ليس من بينها ما له علاقة بالإسلام.
أولئك المتحلّقين بالكعبة بحاجة فقط للنظر باتجاه السماء
لرؤية المثال الآخير للشهية الشرهة للعائلة المالكة في
الآثار المطليّة. فعلى ارتفاع 1,972 قدم، برج ساعة مكة
الملكية، فتحت في بداية هذا العام، وتحلق فوق المنطقة
المحيطة بالمسجد الحرام، كجزء من البناء الضخم لناطحات
السحاب التي تضم فنادق خمسة نجوم لقلّة من الحجّاج الأثرياء
الذين يستطيعون تحمّل كلفة الإقامة فيها.
لبناء مدينة ناطحات السحاب، فإن السلطات قامت بتلغيم
ـ بمادة الديناميت ـ جبل بأكمله، وقلعة جياد التي تعود
الى العهد العثماني وتقع على قمته. في الطرف الآخر من
مجمّع المسجد الحرام، تحوّل بيت الزوجة الأولى للنبي (صلى
الله عليه وسلم) خديجة الى حمّامات عامة. إن مصير البيت
الذي ولد فيه النبي (صلى الله عليه وسلم) مجهول. وأيضاً
على قائمة المواقع المدرجة في خطة التدمير الأعمدة العثمانية
في المسجد الحرام، والتي تشتمل على أسماء صحابة النبي،
وهو شيء ينفر منه الوهابيون المتشدّدون.
بالنسبة للمكيين العاديين الذي يعيشون أساساً في بيوت
تقع داخل منطقة العصر العثماني والتي تشكّل معظم ما تبقّى
من المدينة القديمة، فإن البناء غالباً ما يعني فقدانهم
بيوتهم العائلية.
لا يستطيع غير المسلمين زيارة مكة والمدينة، ولكن صحيفة
(الايندبندنت) كانت قادرة على إجراء مقابلات مع عدد من
المواطنين الذين عبّروا عن سخطهم عن الطريقة التي يتمّ
فيها تغيير مدينتهم. إحدى الفتيات، التي تمّت إزالة بيت
والدها مؤخراً، وصفت كيف أن عائلتها لا تزال تنتظر التعويض.
وحسب قولها (كان هناك إخطار سريع جداً، فإنهم جاءوا فحسب
وأبلغوه ـ أي والدها ـ بأن المنزل سيتم تدميره وإزالته).
مكّي آخر أضاف: (لو أن أميراً من أفراد العائلة المالكة
يريد توسعة قصره، فإنه يفعل ذلك فحسب. رغم ذلك، ليس هناك
أحد يتحدّث عن ذلك في العلن. فهناك مناخ خوف).
يتمنى الدكتور علوي بأن المجتمع الدولي سوف يبدأ أخيراً
في أن يصحو على مايحدث في مهد الإسلام (لن نسمح لأحد بتدمير
الإهرامات، فلماذا ندع تاريخ الإسلام يختفى؟).
الانديبندنت 24 سبتمبر 2011
|