|
د. مضاوي الرشيد |
السعودية: حل المسألة الشيعية جزء من التغيير السياسي
الشامل
د. مضاوي الرشيد
لا تزال السلطة السعودية تتعاطى مع احداث العوامية
بنفس الاسلوب القديم، الذي يستحضر مقولات الولاء للخارج،
والتشكيك في الهوية الوطنية الشيعية، وانتماء المجموعة
الى محيطها العربي، واعتبار المواجهة بين رجال الامن ومتظاهرين
على الدراجات النارية محملين بقنابل المولوتوف اعمال شغب
قامت بها مجموعة من الخارجين عن القانون، مجرمين بحق الوطن
لا تتجاوز اعدادهم العشرين شابا. وتناست السلطة أن الشرارة
التي دفعت هؤلاء بعد ان طفح الكيل لان يمسكوا زمام المبادرة
ويعترضوا على محاولات لاعتقال مسنين ضغطا على اولادهم
لتسليم انفسهم بعد مشاركتهم في مظاهرات وحراك قديم.
هذا الاسلوب الرخيص والمبتذل الذي تتبعه عادة الانظمة
القمعية في العالم العربي اصبح معروفا وممارسا من دون
قيد او تقنين، وقد اثبت عدم جدواه في التعاطي مع مطالب
حقيقية قديمة تم تجاهلها. ومنذ احداث البحرين في شهر فبراير
الماضي، تمت محاصرة الشيعة في مدنهم، حيث الوجود الامني
المكثف والمستمر، والتفتيش على حواجز تكاد تخنق اهل هذه
المناطق وكأنهم في ثكنة عسكرية. وحسبما وصلنا من اخبار:
يتعرض شباب المنطقة الى تفتيش مكثف لم تسلم منه جوالاتهم
ومنازلهم حتى ضاقت بهم الشوارع.
في ظل هذا الوضع المحتقن لم يقم النظام بأي مبادرة
لتخفيف حدة التشنج والخطاب الطائفي العنيف الذي تبثه اصوات
متعددة، منها الديني ومنها الذي يدعي التسامح ليطوق الوجود
الشيعي بحصار ثقافي سياسي يجعلهم مستهدفين، ويزيد من عزلة
فرضت عليهم وجعلتهم يتقوقعون خلف قياداتهم يرجون حلا عاجلا
لقضيتهم. لم ينفع الشيعة في السعودية المصالحة التي تمت
عام 1993 وادت الى عودة رموز حراكهم من الخارج، ومشاركتهم
في دورات الحوار الوطني، وفتح المجال لمثقفيهم ان يعبروا
عن رؤيتهم في الصحافة الرسمية السعودية.
وبرهنت احداث العوامية استمرار الاحتقان في الشارع
الشيعي، الذي خرج على خطابات التهدئة والتبرئة التي جادت
بها بعض القيادات الشيعية المحلية من رجال امن وقضاة ومثقفين
ورجال اعمال. ومهما حاول هؤلاء تهدئة الشارع الا ان الحراك
الشيعي اليوم قد خرج الى حيز آخر لم تعد تنفع معه بيانات
الولاء والسمع والطاعة من قبل شخصيات فقدت المصداقية على
صعيد الشارع، بعد ان انتظر الشيعة تحسنا ملموسا على الارض
يبدو انه لم يتبلور حتى هذه اللحظة، ولم تنتفع منه شرائح
كبيرة، وظل الشارع هذا يغلي بطموحات مكبوتة وآمال مؤجلة،
وبقي متهما بولائه وارتباطه بطموحات ايران في بسط هيمنة
حقيقية من خلال استغلالها للمسألة الشيعية.
وبعيدا عن هذه المهاترات، نعتقد ان الطائفة الشيعية
في السعودية تعاني من ازدواجية المعضلة، فهي تشترك مع
الاكثرية في مسألة تهميشها والانتهاكات المتتالية لحقوقها
المدنية والسياسية، الا ان قمعها يأخذ بعض الاشكال لسبب
كونها شيعية، حيث تحرم من المشاركة الاقتصادية في مجالات
معينة وتستثنى من المشاركة السياسية ما عدا بعض المناصب
التي توزع على نخب شيعية في اجهزة الدولة لا تقدم ولا
تؤخر، تماما كما يحدث مع الاكثرية عندما تستقطب بعض الزعامات
لتكون واجهة تغطي حقيقة الاقصاء للمجتمع بكامله سياسيا.
من هنا لا يمكن عزل القضية الشيعية عن الحالة السياسية
العامة والشاملة، ورغم وجود مطالب مستحقة في الشارع الشيعي،
خاصة انهم اقلية، الا ان هذه المطالب ستبقى عالقة مهددة
باندلاع العنف بين الحين والحين في مناطقهم تماما، كما
حدث في العوامية مؤخرا، طالما ظل النظام مقفلا غير مستجيب
لمطالب اصلاحية سياسية شاملة ينتفع منها الشيعة والاكثرية.
أما اذا بقيت المطالب الشيعية محصورة في القضايا الشيعية
العالقة، بعيدة عن المطالب الشاملة للمجتمع، فسيبقى هؤلاء
عرضة لعمليات الاقتناص والتشكيك في الولاء والعنف المستمر،
حيث تعزل السلطة المطالب الشيعية وكأنها مطالب فئة مرتبطة
بالخارج، وتحشد الجمهور خلفها في عمليات امنية تطال المناطق
الشيعية وتنذر بمواجهات قادمة تهدد الامن، وتفتك بالمواطنين
وكأنهم طابور خامس يأتمر بأوامر جهات معادية للسعودية،
تماما كما حدث في السابق وبالاخص بعد احداث عام 1979.
بقاء القضية الشيعية معزولة عن القضايا الحقوقية المدنية
والسياسية للاكثرية يهدد الاقلية ذاتها، ويزيد الحشد ضدها
من قبل النظام، حيث تصبح فئة وطنية ذات حقوق مشروعة بؤرة
تمتص الغضب الشعبي ضد السلطة وتحوله الى عنصر يعتبر الآخر
العدو الداخلي، وهذه لعبة اصبحت معروفة، لانها قديمة جربها
الكثير من انظمة العرب البائدة والاخرى التي هي في طريقها
الى الزوال.. وتؤدي الى زيادة تطرف الاقلية المحاصرة اجتماعيا
وسياسيا ودينيا لمواجهة حملات التخوين المتتالية.
ورغم ان بعض قيادات الشيعة فتحت مجالات الحوار منذ
اكثر من عقد، ومدت يدها لعناصر وطنية في الداخل السعودي،
الا ان قنوات الحوار والعمل الجماعي ظلت مسدودة غير قابلة
على الاختراق وتفعيل العمل الجماعي بين الشيعة والاكثرية
في ظل التأزم الطائفي والخطاب المحتقن بين الجهتين. يتردد
الكثير من اصلاحيي الداخل في فتح قنوات اتصال حقيقية مع
الاقلية الشيعية، رغم محاولات سابقة خوفا من خسارة الجمهور
العريض المحتقن الذي يقبل سرديات النظام التي تتهم الشيعة
بالخيانة والولاء للخارج، بينما يصمت البعض الآخر عن قضية
الشيعة وكأنها لا تعنيه خوفا من الدخول في مواجهة مباشرة
مع تيارات طائفية متشنجة افرزها النظام ذاته.
وقد برهنت الاحداث العنيفة التي تتفجر بين الحين والحين
في المنطقة الشرقية قصر نظر الاكثرية، خاصة تلك الاصوات
التي تنادي بالضرب بيد من حديد كل من يهدد امن الوطن،
والمقصود هنا الشيعة بالذات، حيث يتجرد هؤلاء من المنطق
والعقل والانسانية عندما ينأون بأنفسهم عن قضية تهدد بالتحول
الى مواجهة، ان بدأت لن تعرف نهايتها، وهي بلا شك ستكون
ذات عواقب وخيمة ليس فقط في المحيط الشيعي، بل ستطال امن
المجتمع بكافة اطيافه.
لا نعتقد ان حل القضية الشيعية سيحصل بمعزل عن تغيير
سياسي شامل في ممارسة الحكم ومؤسساته، وستظل هذه القضية
عالقة وشائكة، ولن تنطفئ نارها بمجرد بعض التعيينات والاصلاحات
الشكلية التي يطلقها النظام بين الفترة والأخرى، فنظام
لا يستطيع ان يستوعب اقلية رغم ثرائه وقدراته الاقتصادية
هو نظام فاشل في ادارة التعددية واشراكها في التنمية الحقيقية،
وغير قادر على تفعيل المساواة الحقيقية التي يطمح لها
ليس فقط الشيعة، بل ايضا شرائح كبيرة في المجتمع.
عزل القضية الشيعية عن القضايا السياسية العالقة يفشل
في حل المشكلة ويزج بالطائفة الشيعية في مواجهة مباشرة
مع النظام، مما يؤدي الى دفع ثمن باهظ نتيجة العنف المستمر
والمناوشات اليومية التي ستهدد في المستقبل العمق الاقتصادي
النفطي. وتعنت النظام وترديده لمقولات الخيانة لا نجد
لها صدى سوى في دولة الجوار البحرينية مع اختلاف كبير،
حيث يخون النظام البحريني الاكثرية الشيعية ويتهمها بالعمالة
بعد حراك 14 فبراير. وفي السعودية يخون النظام السعودي
الاقلية الشيعية، لكن النتيجة واحدة تعتمد على تجاوز المطالب
المشروعة، وحشد اطياف المجتمع خلف حكمين فشلا في الوصول
الى منظومة المواطنة والاعتراف بحقوق مشروعة.
ومع الاسف يبدو ان القضية الشيعية السعودية قد حكم
عليها بالانتظار حتى تصل الاكثرية الى مرحلة تقتنع فيها
ان الحكم الحالي قد وصل الى طريق مسدود في التجاوب مع
مطالب تنقله من مرحلة الحكم التسلطي المطلق الى حكم فيه
بعض مؤسسات التمثيل الشعبي الحقيقي.
وحتى هذه اللحظة، يرفض النظام السعودي التعاطي مع ابسط
الحقوق ودعوات تقنين الحكم الاسري عن طريق مجلس شورى منتخب،
وقد تأتي قناعة الاكثرية متأخرة، حيث تفلت الامور من ايدي
القائمين على الشأن العام تحت ضغط شعبي قادم، عندها ستجد
الاكثرية نفسها وجها لوجه امام خيارات اكثر خطورة من اعطاء
الشيعة حقوقهم المشروعة الآن، والتجاوب مع مطالبهم التي
كرروها مرارا، وخرجوا الى الشوارع مطالبين بها، ودفعوا
ثمنا باهظا في سبيل المطالبة بها.
ستجد الاكثرية نفسها وجها لوجه امام حركات انفصالية
ليس في المحيط الشيعي فقط، بل في مناطق مختلفة بالسعودية،
حيث تتبلور خطابات تعترض على التهميش والاقصائية ومركزية
الحكم المفرطة. ولن ينفع الاكثرية اليوم تجاهلها وصمتها
على القضية الشيعية وتقمصها لشخصية الحكم وتبنيها لاتهاماته
المباشرة وغير المباشرة للطائفة الشيعية.
فالاستفراد بالسلطة وحصرها في بوتقة ضيقة، قد ينتفع
منه بعض الجماعات المنتقاة، ولكنه يظل محورا اساسيا ينذر
بتفجير الوضع عند اول فرصة لذلك.
ننصح الاكثرية ان تفكر الف مرة عندما تنقض بخطاباتها
المعادية للشيعة ومطالبهم، فالوضع السعودي حاليا يحتقن
ويزداد احتقانه، خاصة وانه لا ينفصل عن محيط عربي واقليمي
متأجج، سيفتح صفحة جديدة لا تعود فيها امكانية المحافظة
على انظمة اسرية متسلطة ترتبط بعلاقات زبونية مع المجتمع،
وتستبعد وجود مؤسسات سياسية وتشريعية تمثل هذا المجتمع.
واذا كانت الاكثرية السعودية تطمح للحفاظ على وحدة الوطن،
فعليها الآن وقبل فوات الاوان، ان تستوعب المطالب الشيعية
كجزء لا يتجزأ من قضية سياسية ملحة، تفتح المجال السياسي
لتغيير حقيقي ونقلة نوعية قبل ان تتفجر المطالب الانفصالية
الشيعية وغير الشيعية التي تيأس من استجابة السلطة لمطالبها
المحدودة.
فقط التغيير السياسي الحقيقي نحو دولة فيها تمثيل شعبي
يحد من استعلائية النظام السعودي ومركزيته المفرطة هو
الضمان الوحيد لاستيعاب المجتمع بكافة اطيافه، بعد ان
فشلت الامبراطورية السعودية في تمكين المجتمع، وابقته
رهينا لتفرد العائلة المالكة بالسلطة، ومكرماتها الملكية.
* عن: القدس العربي، 9/10/2011
|