|
محمد الصادق |
أيديولوجيا الدولة السعودية: محاكمة جديدة
محمد الصادق
يحكى أن شبه الجزيرة العربية، وفي منطقة نجد تحديداً،
ساد الاحتراب القبائلي، والضلال الديني، والاهتزاز الاقتصادي،
والتردي الاجتماعي، قبل قيام الدولة السعودية. ويحكى أن
معادلة الإمام والشيخ زاوجت بين الدين والسياسة، فقادت
(ثورة أيديولوجية سياسية) لتهدم كل ما ذكر، وتبني على
ركامه الدولة الجديدة.
تنطلق هذه الأيدولوجيا الثورية من حتمية العودة إلى
الدين الأصيل، واقتلاع الكيانات الفكرية والعقائدية التي
نشرت البدع والخرافات والفقر من جذورها، واستبدالها بواقع
جديد، واقع تتوحد فيه البلاد تحت راية (الإمام)، وتسود
فيها المساواة والاستقرار والرفاه. وهي كثورة، شكلت انقلاباً
على البنية الفوقية والتحتية للمجتمع كالأفكار والقيم
والمبادئ والقوانين السائدة، ليس بالضرورة انقلاباً بمعناه
السلبي؛ والدفع لإحلال البديل المُتخيل، وعزل القوى السياسية
والاجتماعية المقاومة للثورة، بل ونفيها خارج المشهد العام،
في مهمّةٍ تروم تشييد النموذج المثالي، الذي سيحل مشكلات
المجتمع بمجملها، دونما حاجة لعمل مؤسسي تراكمي، بقدر
الحاجة إلى الانعتاق إلا من (الدين الجديد) والسير على
هدى (السلطة الجديدة) في اقتفاء تراث ابن تيمية وتثبيت
نظرية (الغلبة والقهر في تعيين الإمام).
مثلت هذه الدعوة الذخيرة الحية التي زودت السياسي بالعتاد
الإيديولوجي اللازم لتوحيد البلاد وفرض سلطانه على العباد،
وهي العقيدة التي خلقت حركة صالحة لتغيير اجتماعي سياسي،
وهو ما كان الإمام ينتظره منها لتحقيق حلمه، وهي ذاتها
التي تفرض الآن حراسة مشددة على كل ما له علاقة بالسياسة
وبالسلطة والسلطان، عبر مقولات من جنس (من السياسة ترك
السياسة).
يعتمد نجاح الأيديولوجية بقدرتها على الجمع بين الاستدلال
العقلي والشحن العاطفي، وكذلك ما تقدمه من معالجات ممكنة
لأهم مشكلات المجتمع، وهو النجاح الذي حققته الدعوة في
بداية مسيرتها، فقد كان للتحالف التاريخي الفضل في انتشال
منطقة نجد من براثن الاقتتال بين (البدو والحضر) على الموارد
الشحيحة، وتطهير طقوسهم الدينية، وتعزيز مكانتهم الاجتماعية.
وقد تم الترويج لفكرة أن الدولة الأفلاطونية يحققها دين
أهل السلف. استنتجت (الوهابية السياسية) منذ البداية،
أنّ تحويل الدين أو الدعوة إلى قوة سياسية كامن في مصطلح
(التوحيد)، أي في الفكرة القائلة بأن (التشرذم) هو نتيجة
عدم وجود دولة يملكها زعيم قادر على متابعة تطبيق الدين
بشكل كاف في الحياة العامة.
يمكننا الجزم بأن هذه الأيديولوجية أخذت مساراً بيانياً
تصاعدياً مع بداية انطلاقة المشروع، وإنجاز انتصاره النهائي،
لكنها ما لبثت بعد ترسيخ الحكم أن تحولت من حركة استنهاض
لروح التمرد على الواقع، إلى موقع ضرورة المحافظة على
المُنجز.
ترسم الأيديولوجيا الخارطة الذهنية التي تُلهم الجماعات
طرق الحق أو الباطل، وهي خليط من وعي زائف وحقيقي، كما
تعمل كالنظارة للطبقة المنتفعة، فتسعى لتحديد مواقف وسلوك
الأفراد والجماعات وتوجهها تجاه القضية المطلوب تصويب
النظر عليها، لذا فليس مستغرباً أبداً الاستنجاد بالمحرض
الديني في قضايا اجتماعية وسياسية كقضية قيادة المرأة
للسيارة، أو عملية ردع وترهيب الدعوات الإصلاحية بفتاوى
(تهشيم الجماجم).
لكن محاصرة الوعي، والإشراف على ترتيب محتوياته، لابد
وأن يضعف بتبدل الأوضاع المعيشية، وتطور وسائل المعرفة،
فلو قفزنا على الحتمية التاريخية، والعمر الافتراضي للأيديولوجيا،
ونسينا انشطارها منذ حركة (جهيمان) في نوفمبر 1979، وحتى
مطلع التسعينيات أبان حرب الخليج، وما حدث خلالها من احتراب
بين تنويعاتها التي لم تعد تقف عند يمين محافظ أو يسار
ثائر، وشطبنا من الذاكرة الهجمة العالمية والمحلية التي
ضلت (الوهابية) تحت نيرانها طيلة عقد من الزمن منذ (غزوة
مانهاتن)، وتجاهلنا بأن الاستبداد و الفساد ونهب المال
العام ليس من مذهب السلف... لو فعلنا كل ذلك، فإننا لا
بدّ وأن نتلمس الفجوة بين ما تعرضه هذه الأيديولوجيا اليوم
من بضاعة تبرر الجمود السياسي والتخلف التنموي وتراجع
الدور الإقليمي، وبين ما يطلبه شباب هذا الجيل من مشاركة
في قيادة بلده إلى مستوى أفضل، بالقياس الى المكانة الروحية
والموقع الاستراتيجي والموارد المالية، عندها لا مفر من
ملاحظة بوادر تراجع زخم هذه الأيديولوجية تحت وطأة الإخفاقات
المتراكمة.
الشواهد كثيرة على فقدان هذه الأيديولوجية الوهج الذي
زخرت به. ولأن الأيديولوجية هي الحجاب المانع بين تفكير
المرء وإدراكه للواقع، فإن حلقة (ملعوب علينا) قدمت فضحاً
علنياً نموذجياً لوعي مغلوط، ولنعيم مزيف، تماماً كما
عرّت سيول جدة التنمية المزعومة. لم يعد المرء يحتاج لنبوغٍ
سياسي ليكتشف تهيُّب الدولة من التعرض أو التشكيك بهذه
الأيديولوجيا مخافةً على مآلها، فلو عدنا قليلاً بالذاكرة
إلى الوراء، وإلى حادثة عرض قناة العربية لبرنامج وثائقي
يتناول (الوهابية) ثم ردة الفعل التي تلتها ضد مدير القناة
عبد الرحمن الراشد، لأدركنا حجم المحنة التي تعيشها.
لكن عناصر الأيدولوجيا لا تتهاوى تباعاً، إلا حينما
تخسر مقدرتها على التعبئة والحشد في القضايا الكبرى، وحينما
تفكر الطبقة المنتفعة في استخدام عناصر أيديولوجية من
خارج تركيبتها الأصلية، أو تتناقض معها، فيتبلد الشعور
نحو خطاب الدولة، ويقابله الجمهور بعزوف ولا مبالاة، وهو
ما يطلق عليه انفصال الشعب عن أيديولوجيا الدولة.
بكلمة مختصرة، إنّ هذه الأيديولوجية صُممت للحفاظ على
مصالح طبقة محددة، وهي من برمجت الجهاز المفاهيمي لهذه
الطبقة، بشقيه السياسي والديني. إنّ بوصلة الوعي السعودي
مستمرة في العمل بفضل (بطارية) النفط، برغم كل الضرر الذي
لحق بعقاربها. لكن، هل ثمة من مازال مقتنعا بأننا نستطيع
السير قدماً دون إصلاح عقارب البوصلة؟
عن موقع المقال، 25/11/2011
|