|
وليد الخضيري
|
الطائفية في السعودية.. انتصار على الوطن
شحن طائفي واستباحة للدماء برعاية الدولة
وليد الخضيري
عندما تتصفح في دقائق الأرقام المهولة لضحايا الحروب
الأهلية في العصر الحديث، لا يمكن لخيالك تصور حالة حرب
أهلية في بلد يتشكل من نسيج تعددي ديني ومذهبي وعرقي وقومي،
وكأن الطائفي عندما يحتقنُ منتفخَ الأوداج يكاد لم يقرأ
شيئًا من دروس التاريخ.
في عالمنا العربي تحديدا ذهب نتيجة الحرب الأهلية في
السودان في النصف الثاني من القرن الماضي ما يقدر عددهم
2.5 مليون قتيل. وفي لبنان حصدت الحرب الأهلية أرواح 150
ألفا من البشر. وفي العراق لا توجد إحصائيات دقيقة تقدر
عدد الضحايا التي سقطت نتيجة الاقتتال الداخلي ويُقدر
أنها عشرات الآلاف. والسؤال هنا: لماذا سقط كل هؤلاء الضحايا؟
والجواب: عندما اختار الفُرقاء في الوطن الواحد تقديم
المصالح الخاصة على المصلحة العامة. عندما غابت لغة الحقوق،
عندما غابت المواطنة، عندما انتصرت الأنانية. إنها الطائفية.
الطائفية عندما نتحدث عنها، فهي بمفهومها الذي نتج
بعد الدولة الحديثة. الطائفية هنا ليست بمعنى الانتماء
لدين أو مذهب أو أي تكوين اجتماعيّ ما داخل الدولة. بل
الطائفية سلوك سياسي يُقحم اختلافات النسيج الاجتماعي
في الميدان السياسي مخترقًا بذلك معنى المواطنة في دولة
القانون والحريات والمساواة، التي لا فرق فيها بين أحدٍ
وأحد.
عاطفة الانتماء لأي تكوين اجتماعي داخل الدولة ليست
إشكالية طائفية، ولا يمكن إسقاط عاطفة الانتماء هذه من
المجتمع، وما دام الانتماء للمذهب الديني يعني ممارسة
واجباته الدينية داخل مؤسسات المجتمع المدني لا بصفته
يعمل لتسخير الدولة من أجل مصالح طائفية خاصة، فإن هذا
الانتماء ليس عيبا، بل حقًا مشروعًا من حريات الفرد المكفولة
في دولة الحقوق والمؤسسات.
الطائفية سلوك يصدر من صاحب السلطة التي شَرْعَنتها
الغلبة ويصدر كذلك من التشكيلات المختلفة التي تشعر بالتهميش
داخل الدولة. وسواء كانت هذه المذاهب أو الأعراق أقلية
أم أكثرية وسواء كانت الدولة تستند إلى عصبية أكثرية أو
أقلية فإنه لا يمكن تبرئة أي طرف من الطائفية متى ما كانت
منطلقات كلٍ منهما قائمة على إقحام الاختلافات الدينية
بين أبناء الوطن الواحد في ميدان السياسة، وبالتالي تقسيم
الدولة على طريقة المُحاصصة الطائفية.
الدولة الحديثة، دولة الحقوق والواجبات والحريات والمساواة،
لا تُدار على أساس المحاصصة الطائفية، الدولة الحديثة
ليست دولة شيوخ قبائل استبدلوا اجتماعهم للحفاظ على المصالح
المشتركة في الخيمة بقبة البرلمان الحديث. الدولة الحديثة
كذلك لا تلغي التعدديات من مؤسسات المجتمع المدني داخل
الدولة، بل تحتويها وتحفظ حقوقها بما يشمل ذلك من حق المذهب
الديني ممارسة شعائره التعبدية داخل هذه الدولة.
إذن لدينا السلطة السياسية التي هي عمل الدولة لخدمة
(الشعب) وليس لخدمة (شيوخ الطوائف). الشعب، الوحدة التي
ينضوي عليها كل فرد مواطن داخل الدولة. الشعب الذي له
حقوق وواجبات وتحفظ له الدولة الحرية والكرامة، بمساواة
لا تفريق فيها بين فرد وفرد. ولدينا أيضًا مؤسسات المجتمع
المدني التي تعترف وتحفظ التعددية داخل هذا الشعب. الطائفية
هنا تُلغي مفهوم الشعب الواحد، وتجعل الدولة مُسخرةً من
أجل حماية الطائفة وقمع الطوائف الأخرى.
عندما تخفق الدولة في إيجاد هوية وطنية مشتركة تجعل
لـ (الشعب) مفهوما راسخا في نفوس المواطنين، فانتظر عندها
أشكال الانقسام التي هيَّأت لها السلطة بنفسها. سيعود
أبناء الوطن الواحد إلى التشكيلات الفئوية الصغيرة، سيكون
الانتماء والهوية السياسية مرتبطة بالمذهب الديني والانتماء
القبلي والعصبية المناطقية والعرقية وسواها.
في العالم العربية لم ترتقِ أي دولة عربية لتكون دولة
حديثة بالفعل، فقد ظلّت المعوقات السياسية الداخلية قبل
الخارجية حجر عثرة أمام التحول لدولة الحقوق والحريات
والعدالة والمساواة ودولة المؤسسات المدنية. بل الأفدح
من ذلك، اعتاشت الأنظمة العربية على التقسيمات الطائفية
عقودا عديدة، واستفادت من التقسيمات الفئوية للمجتمعات
لكي تفرض سيطرتها على المال والأمن والاقتصاد، بل وحتى
أصبحت هي السلطة ذات المشروعية التي تلجأ إليها فئات المجتمع
المتصارعة.
عندما قامت الاحتجاجات في البحرين، قامت الحكومة بقمعها
بشراسة واستغلت التأجيج الطائفي والتخوين لطرف كامل في
الدولة داخل البحرين، داعمةً نفسها بوسائلها الإعلامية،
وبالطبع تاركة لأجهزة الدولة الأمنية العنان لتتصرف بكل
بشاعة ضد المحتجين. وبناء على التقرير الذي صدر من لجنة
تقصي الحقائق الذي قَبِله ملك البحرين، فإن أمن الدولة
قام بارتكاب جرائم وانتهاكات ضد المعتقلين تصل حتى التهديد
باغتصاب ذوي المعتقلين، فضلا عن الأذى الجسدي والقتل الذي
أسقط أكثر من 30 نفسًا بشرية، وفنّد التقرير أي علاقة
لأطراف خارجية بالاحتجاجات داخل البحرين، وقد كانت الحجة
ذات المشروعية الأكبر للمشروع الطائفي، وليس أمام عرّابي
المؤامرات الخارجية سوى قبول هذه النتيجة. وشكّلت هذه
السلوكيات حالة من الاصطفاف الطائفي تجاوز دولة البحرين
إلى سوريّا ولبنان وإيران، فضلا عن السعودية ودول الخليج
عموما.
في المقابل عندما قامت المظاهرات والاحتجاجات في سوريّا
لم يأخذ الأمر وقتًا طويلا لكي يحسم الطائفي السنّي أمره
في الدعم المعنوي للثوار في سوريّا، مقابل التصعيد الطائفي
ضد الشيعة والعلويين. وبعيدًا عن إدراج الفروقات بين الحالة
البحرينية والحالة السورية، فإن حجر الزاوية هنا هو حالة
الاصطفاف الطائفي التي تولّدت في النموذجين، وحالة التناقض
السافر في لغة الحقوق عندما يدعم الطائفي تلك الثورة ويُخوِّن
تلك.
وفي هذين النموذجين يتّضح جليا شكل السلطة عندما تكون
في رعاية الطائفية، عندما يحاول النظام بقوته المادية
إلغاء كل أشكال التعددية داخل المجتمع بإدخاله تحت هوية
طائفية واحدة، ومن ثَم قمع كل شكل من أشكال إثبات الوجود
القانوني لأطراف أخرى داخل الدولة، قمعٌ باسم الشرعية
والنظام. ومقابل هذا السلوك يَصدر السلوك الطائفي المقابل
عندما يعادي الدولة باسم الطائفة لا باسم الحقوق ولو ادّعى
ذلك، إذ أثبت أنه غير صادق في الدفاع عن حقوق المظلومين
في دولة طائفية أخرى.
وفي السعودية على سبيل المثال، لا وجود سياسي للهوية
الجامعة، ولا اعتراف رسمي بالتشكيلات المذهبية الأخرى
في الوطن الواحد. يُكابِر السياسي برفضه أي شكل من أشكال
الاختلاف بين مناطق المملكة بفرضه شكلًا مذهبيًا واحدًا
وتعاليم دينية وعادات اجتماعية وسلوكية متشابهة إلى حدٍّ
كبير. وهنا تكون الدولة بالإضافة لإخفاقها في تشكيل هوية
سياسية جامعة فإنها لم ترتقِ لحالة الدولة الحديثة الراعية
للمؤسسات المدنية، وهذا ما يجعل الفئات المختلفة ترجع
لانتماءاتها القديمة ما قبل الدولة سواء كانت دينية مذهبية
أو قبلية أو مناطقية.
في هذا المثال، بالإضافة إلى البحرين، فإن إخفاق الدولة
في إيجاد الهوية الجامعة، وقمع الدولة لأشكال من مؤسسات
المجتمع المدني، وانحياز الدولة لطيف مذهبي دون آخر؛ يُوجِد
حينها القابلية للسلوك الطائفي عند جميع الأطراف، بما
فيها أطياف المعارضة المهمّشة من قِبل السلطة. فعندما
تقوم أي حركة احتجاج داخل الدولة، ثم يستخدم النظام لُغة
التخوين ولغة الانتصار للطائفة، فإن الاستجابة ستكون سريعة
لدى كل الطرفين. المعارضة ستتخذ لها شكلًا طائفيا، في
الوقت الذي تنحاز فيه الطائفة الأخرى لما يقوله النظام.
بينما في مصر، الصورة ستختلف في ميدان التحرير، والمشهد
يبدو فسيفساء جمعت بوحدتها بين مفهوم (الشعب) و(التعددية).
وبمنطق (فرّق تسُد) كانت الدولة تهيّج أطياف المجتمع ضد
بعضها، وثبت تورطها بحوادث دينية كثيرة، باستغلالها التفجيرات
الإرهابية تارة، وبالصراع بين السلفيين والإخوان تارة،
وبين الأقباط والمسلمين تارة أخرى، وطالما نجحت في ذلك.
وفي ميدان التحرير، حاول النظام جاهدًا استعمال هذا المنطق،
لكنه حتمًا أخفق. ونجاح الميدان في الانتصار على منطق
النظام الطائفي يرجعُ أساسًا لمستوى الوعي لدى الكتلة
التي شكّلت الاحتجاجات، ويرجع كذلك إلى مستوى الخطاب الوطني
الذي تطرحه النُخب المعارضة في هذا السياق. فعندما تُلام
السلطة في الإخفاق عن الانتقال للدولة الديمقراطية، فإنه
لا تُبرَّأ النُخب من مسؤوليتها لإيجاد برنامج انتقال
ديمقراطي، وتهيئة نفسها لاستلام السلطة ونقل الدولة إلى
برِّ الأمان.
في السعودية سيبدو المراقب متشائما في خِضم هذا الزخم
من الشحن الطائفي برعاية الدولة واستجابة المحتجين الشيعة
لهذا الاستفزاز. وسيبدو السيناريو داخل ظلامٍ حالك جرّاء
استساغة استباحة الدماء التي تحدثُ تحت مظلة الدولة وبأجهزتها
الأمنية. إن الرسالة من قتل مواطن في القطيف يجب ألا تتخذ
شكلًا طائفيا، بل بمنطق الوطن الواحد يجب أن يكون المقتول
(مواطنًا) من (الشعب) لا المقتول هو صاحب المذهب والطائفة.
ولكن السلطة اليوم ستستخدم الدعاية الطائفية والتخوين
والاتهام بالعمالة لدول أخرى، وهذه الكارثة التي تجعل
من الشيعي يفكر في البحث عن حلول خارجية، وللسنّي تخوين
أخيه المواطن بلا شبهة في الوقت الذي يعاني السنّي الآخر
من بطش نفس الأجهزة الأمنية! والضحية هو الوطن.
لغة الوصف هنا ليست لغة تعميمة تشمل الجميع ولا تلغي
حالة اعتدال في وسط هذا الجوِّ المشحون طائفيا، بل هي
قبل كل شيء دعوة لاستباق الأحداث واعتناق لغة الوطن الواحد،
واستبعاد أي حديث عن لغة الحقوق المُجتزأة أو المظلومية
الخاصة. الحقوق يشكو من فقدانها الجميع، والظلم يعاني
منه الجميع، فأجدر بكل مطالبة وحِراك أن يكون وطنيّا ولأجل
هذا الوطن بعيدًا كل البعد عن أي لغة طائفية أنانية.
الطائفية.. السلاح الفتاك الذي يهدد الوطن؛ فلننتصر
عليها.
عن موقع المقال، 29/11/2011
|