العقل الغائب وأزمة الوعي السياسي
مـحـمـد بن عـلي الـمـحـمـود
لن يكون الحديث هنا عن وعي النخب السياسية الحاكمة
كما يبدو في سلوكها المباشر / المتعين، إذ ليس وعي هذه
النخب الحاكمة - سواء المستقرة أو الثائرة أو المثور عليها
- إلا تكثيفاً لوعي الجماهير، بكل ما في هذا الوعي الجماهيري
من مكونات إيجابية أو سلبية تعكس واقع الوعي السياسي العربي
الراهن، ذلك الواقع الذي يبدو أنه يتكشف كل يوم عن وعي
مأزوم؛ حتى وإن اختلفت نِسَب ومُستويات ومَنَاحي هذا التأزم
الكبير.
الجماهير ليست هي الاستثناء، بل هي الروح العام، هي
التربة الخالقة، التربة الخصبة التي تخلقت بها ومن خلالها
النخب السياسية الفاعلة في عالم السياسة اليوم؛ لأن هذه
الجماهير بزخمها المادي والثقافي هي التي تحمل في مكنون
ثقافتها (الثقافة العالمة أو الشعبية) ذلك الإرث التاريخي
المعطوب بغياب العقل، وبحضور القهر والاستبداد، هي التي
تحمل تمجيد الطغيان وتقديس الأقوى والأقسى، هي التي تحمل
الوعي الشمولي الطغياني، مقابل نفي وإقصاء فردانية الأفراد.
هناك تلازم تاريخي بين تغييب العقل وتغييب الإنسان،
تلازم بين إقصاء العقل واستحضار الطغيان، إلى حتمية القمع
في مجتمعات التقليد التي تلغي الوجود العيني / الفردي؛
لصالح الوجود المجرد المرتبط بعالم الأذهان لا عالم الأعيان.
فمنذ بدأ تاريخنا في قروننا الأولى التي شكلت وعينا بأنفسنا
كأمة، كنا نتململ ونتذمر ونشكو، وأحيانا نثور دونما وعي
ثوري؛ جراء ما نعانيه من استبداد وطغيان. كنا ولا نزال
تواقين إلى الحرية وإلى الكرامة، ولكن وعينا بشروط تحققهما
في الواقع يكاد أن يكون صفرا. بل إن مأساتنا أعمق من ذلك،
إن مأساتنا ربما تكون كوميديا سوداء، فنحن الذين نصنع
الطغاة، نحن الذين ننفخ فيهم، نحن الذين نُنافح عنهم في
عالم الثقافة كما في عالم الواقع، نحن المشروعية الثقافية
لهم، ونحن الذين نُشكل تمددهم في الواقع، وأيضا، نحن -
في الوقت نفسه - من يجأر شاكياً من عالم البؤس الشمولي
الذي يصنعونه لنا وبنا منذ قرون وقرون!.
أولى صور الدعم لبؤس العرب السياسي، هو تغييب الوعي
السياسي من خلال تبرير الوقائع الاستبدادية بالنقل لا
بالعقل. وباتفاق كل الدارسين لإرثنا الثقافي، نجد أن المباحث
السياسية هي أفقر أبواب الفقه على الإطلاق. فعلى الرغم
من أننا ومنذ أيامنا الأولى اقتتلنا على السياسة ولأجل
السياسة، وعلى الرغم من أن مذاهبنا ومعظم رُؤانا الاعتقادية
تشكلت على خلفيات وقائع الصراع السياسي التهالكي على السلطة؛
إلا أن أطروحتنا السياسية كانت جِدّ هزيلة. والأنكى أنها
رغم هزالتها وتهافتها بقيت ضائعة بين حماقة تبرير الواقع
من جهة، وحماقة الغرق في متاهات الأحلام الطوباوية من
جهة أخرى؛ وكأنما كتب علينا أن نكون أسارى الأحلام الكاذبة؛
بقدر ما كنا أسارى ما نصنعه عن واقعنا وتاريخنا من أوهام.
موجة الاحتجاجات العربية الراهنة (أو ما يُسمى بثورات
الربيع العربي) التي تعكس توقا عارما للتحرر من نير الاستبداد،
ليست بأول حركات التمرد على الطغيان، فتاريخنا مليء بمثل
هذا التمرد الاستثنائي الذي سرعان ما انتهى إلى الاستسلام
أو إلى الاندماج في عالم الطغيان.
رغم كل ما يبدو في هذه الاحتجاجات من شعارات ليبرالية
تحررية تتغيا صناعة عالم إنساني على أرضية واقع طغياني؛
إلا أنها، شاءت أم أبت، محكومة بطوفان الزخم الجماهيري
المتشبع بالتراث الاستبدادي، والمتشكل وعياً بالتاريخ
الطغياني. أي أنها مجرد قوارب صغيرة تسبح فوق بحر طغياني
يتقاذفها ذات اليمين وذات الشمال، طوفان يصنع مسارها رغم
عنادها التحرري، طوفان سينتصر عليها في النهاية؛ لأنها
لم تتعلم بعدُ قواعد اللعب مع الطوفان، بل لم تتعلم بعدُ
الأبجدية الأولى من قوانين هذا الطوفان.
هذه الموجة من الاحتجاجات التحررية تقوم على فرضية
أولية، فرضية ليست محل خلاف بحال، وهي أنها انتفاضة على
واقع استبدادي طغياني. فهذا الواقع، من حيث كونه واقعا
يستحق الرفض، هو الحقيقة الوحيدة التي لا خلاف عليها في
هذا الربيع العربي الحالم أو الواهم. بينما الخطوات التالية
مسكونة بفوضى الاختلاف، على الرغم من كونها الخطوات الحاسمة
المتمثلة في الإجابة الواقعية عن : كيف ؟، وبأية وسيلة
؟، وبِمَن ؟، وإلى أين ؟...إلخ الأسئلة التي تضيء مسافة
التحدي الواقعية القادرة على التهام أية إرادة تحررية؛
مهما كانت هذه الإرادة صادقة وحازمة في مقاومة الاستبداد.
كل ما في سلوكنا الثقافي أو الواقعي يشير إلى حقيقة
مؤلمة، وهي أننا لا نكره الاستبداد ولا نعادي الطغيان
ولا نريد الحرية، وإنما - فقط - نريد نوعاً من الطغيان
الخاص، ولا نريد النوع الآخر، نرفض هذا النوع؛ لأنه لا
يحمل تلك الشعارات المرتبطة بتحيزاتنا الثقافية، أو المذهبية،
أو العرقية، أو حتى الجغرافية التي ترسم حدود الأوطان
في تشكلها السياسي الحديث.
نحن نكره ونعادي ونحارب طاغية ما من جملة الطغاة، بينما
نحب ونوالي ونُناصر طاغية آخر؛ لمجرد أن الطاغية الثاني
يرفع بعض الشعارات التي تربطنا بعالم الأوهام الجميلة،
أو حتى لمجرد أن هذا الطاغية الثاني يبتعد عنا مسافة ألف
سنة أو أكثر، حيث يبدو الطغيان حينئذٍ وكأنه وقائع لم
تسحق بشراً مثلنا، بل مجرد وقائع من صنع الخيال، وقعت
على أناس من خيال.
نحن متسامحون جداً مع طغاة الماضي، بل ومُمجّدون لهم
ولو بشيء من الاحتراز غير البريء. بينما نحن غاضبون، وحاسمون
في غضبنا، مع طغاة الحاضر، وكأن هؤلاء الطغاة الصغار في
عالمنا الراهن لم يكونوا إلا أحفاداً وتلاميذ لأولئك الطغاة
الكبار، الكبار في طغيانهم، والصغار في ضمائرهم التي كانت
تقمع وتسحق بلا حدود.
تأمل موقف الوعاظ التقليديين الذين يصنعون وعي هذه
الجماهير البائسة من النظام السوري الدكتاتوري. ظاهره
موقف إنساني وديني من الظلم والطغيان. لكن لو تأملت بعمق،
لن تجده موقفاً حقيقياً من الطغيان، بل هو مجرد موقف مذهبي
متعصب بامتياز. لابد أن تكون متسقاً في موقفك من الظلم،
كل الظلم، وإلا كان موقفك (في عمقه الحقيقي) ليس موقفاً
من الظلم، بل مجرد موقف من طاغية ما؛ لأنه يختلف معك على
هذا المبدأ أو ذاك، أو على هذه المصلحة أو تلك. فمثلا،
لا يمكن أن أقوم بتجريم بشار الأسد ونظامه الدموي الإجرامي؛
دون أن تكون إدانتي لصدام، وللحجاج، ولمن ولىّ الحجاج
أكبر وأوضح؛ تبعاً لمستوى الجريمة ولعدد الضحايا، وليس
لـ (نوعية الضحايا) كما يحدث الآن.
عندما يغيب العقل؛ يغيب النقد، ويتضاءل الحس الإنساني،
ويصبح السلوك السياسي للفرد وللجماعة وللمؤسسة محض صراع،
صراع تُوظف فيه كل الأشياء، لا لصالح الإنسان، وإنما لتفريغ
الإنسان من الإنسان.
* عن: الرياض، 3/5/2012
|