تجاهل مصر وعناق إيران
عبد الباري عطوان
من الصعب الجزم بأن قمة مكة الاستثنائية التي اختتمت
اعمالها مساء امس ستحقق كل اهدافها في تحقيق التضامن الاسلامي،
وحل القضايا الرئيسية المطروحة على جدول اعمالها، وأبرزها
الأزمة السورية، ولكنها تعتبر خطوة صغيرة، او اجتهادا
محمودا يعكس نوايا حسنة في هذا الاطار، وان كنا نعتقد
ان النوايا الحسنة وحدها لا تكفي في هذا الزمن الذي تسوده
الصراعات من اجل تأمين المصالح حتى لو تأتى ذلك بالحروب
وسفك الدماء.
متابعة اعمال هذه القمة ووقائعها، يخرج المرء منها
بالعديد من الملاحظات ويرصد بعض التوجهات، فهناك عناقان
وتجاهل، ومفارقة تلفزيونية، يمكن من خلالها جميعا محاولة
استقراء ما يمكن ان تشهده المنطقة من تطورات ومفاجآت مقبلة:
العناق الاول: تم بحرارة شديدة، بل ملتهبة، بين العاهل
السعودي الملك عبدالله بن عبد العزيز آل سعود وضيفه الايراني
محمد احمدي نجاد آخر المدعوين الى هذه القمة، فمن كان
يصدق ان الزعيمين اللذين يخوضان حربا شرسة بالنيابة فيما
بينهما على الارض السورية، يمكن ان يكونا على هذه الدرجة
من الود والحميمية؟ فهل هذا العناق نموذج للنفاق السياسي،
ام بداية انفراج في العلاقات يقود الى تنفيس حالة الاحتقان
الطائفي المتصاعدة، ويحول دون حدوث المواجهة الأكبر في
المنطقة تحت عنوان تدمير المنشآت النووية الايرانية؟
العاهل السعودي وفي برقيات السفارة الامريكية في الرياض
التي نشرها موقع ‘ويكيليكس’ وصف ايران بأنها رأس الافعى
الذي يجب قطعه، اثناء استقباله لوزيرة الخارجية الامريكية،
فهل عملية شحذ السكاكين لقطع هذا الرأس التي تتمثل في
حشد حاملات الطائرات في الخليج ونصب بطاريات صواريخ باتريوت
لحماية دولها من اي انتقام صاروخي ايراني مستمرة، ام ان
هناك استراتيجية جديدة للتعايش مع ايران كقوة اقليمية
نووية قد بدأ تطبيقها، وكانت قمة مكة الاسلامية هذه هي
اول قفزة في هذا الاتجاه؟
العناق الثاني: هو الذي تم بين الرئيس المصري الجديد
محمد مرسي والسيد نجاد، فهذه هي المرة الاولى التي يتصافح
فيها زعيما مصر وايران، ناهيك عن عناقهما، منذ اربعين
عاما تقريبا، وبالتحديد منذ توقيع اتفاقات كامب ديفيد،
وقطع العلاقات الدبلوماسية بين البلدين. فهل هذه الاذرع
المفتوحة التي سبقت هذا العناق ستؤدي الى فتح سفارتي البلدين
في كل من القاهرة وطهران، ووصل ما انقطع، بعد نجاح الثورة
المصرية ووصول مرشح حركة الاخوان المسلمين الى سدة الرئاسة؟
ام انها مجرد مجاملة عابرة أملتها ظروف اللقاء؟
الإجابة الأكثر ترجيحا هي ‘نعم’ لأن النظام المصري
الذي كان يصرّ على استمرار القطيعة سقط، والنظام الجديد
الذي تتبلور هويته الاسلامية يوما بعد يوم، يرسّخ وجوده
من خلال ‘تنظيف’ المؤسسة العسكرية من بقايا ‘ثقافة كامب
ديفيد’ السياسية ورموزها، ولهذا فإننا لا نستغرب او لا
نستبعد قرارا قريبا بحدوث تقارب مصري ـ ايراني، يتوازى
مع التباعد المصري ـ الامريكي ـ الاسرائيلي المتنامي بسرعة
هذه الايام.
التجاهل: اهمال العاهل السعودي الواضح للرئيس المصري،
وعدم تقديره ودولته التقدير الذي يستحق، فقد جلس بعيدا
مثله مثل الزعماء الآخرين، بينما حرص العاهل السعودي ان
يكون امير قطر على يمينه والرئيس الايراني على يساره اثناء
ترتيب الجلوس، والأكثر من ذلك انه وقف يستقبل الضيوف والى
جانبه الرئيس الايراني. فهل هذا من قبيل الصدفة ام بقرار
متعمد؟ في السياسة لا شيء يأتي من قبيل الصدفة، والبروتوكول
يرتب كل صغيرة وكبيرة.
اللقطة التلفزيونية: حدثت اثناء افتتاح القمة الاسلامية
عندما وقف السيد نجاد ملوحا بإشارة النصر امام عدسة محطة
تلفزيون العربية الفضائية، وسؤاله للمصور عما اذا كان
قد سجّل هذه اللقطة ووثقها فعلا.
الرئيس نجاد تعمّد التلويح بالإشارة، مثلما تعمد السؤال،
لانه يعرف قناة العربية ومواقفها التحريضية المعادية لايران
جيدا، ومساندتها الملحوظة لأي ضربة امريكية، وربما اسرائيلية
لتدمير منشآتها النووية، وفتح استديوهاتها،اي العربية،
لجميع المؤيدين، بل والمحرضين عليها من الخبراء والباحثين
والمعلقين.
لا نعرف ماذا جرى من محادثات وتفاهمات وصدامات في الغرف
المغلقة والاجتماعات الجانبية التي انعقدت على هامش القمة
الاسلامية الاستثنائية في مكة المكرمة، خاصة بين العاهل
السعودي والرئيس الايراني، لكننا نختلف مع بعض التحليلات
التي تفيد بأن اي تفاهم بين الرجلين يمكن ان يؤدي الى
حل الأزمة السورية، وحقن دماء الشعب السوري.
خلافنا نابع من استنتاج اساسي مفاده ان الدولتين لم
تعودا اللاعبين الرئيسيين في هذه الأزمة، وان كانا من
اهمهم، وان هناك لاعبين آخرين. والامر الاهم في رأينا
ان الاوضاع على الارض السورية توحي بان هناك طرفا ثالثا،
وهو الجماعات الاسلامية المتشددة التي باتت من بين القوى
الرئيسية التي لا يمكن تجاهلها، بعد ان عززت وجودها، واسست
قواعدها، واقامت مناطق آمنة خاصة بها، بل واقامت سلطتها،
والاخطر من كل ذلك انها خارج اي سيطرة محلية او اقليمية
او حتى دولية.
ايران، وبسبب اخطاء السياسات العربية والسعودية منها
خاصة، في العراق وسورية وفلسطين ولبنان، باتت قوة عسكرية
اقليمية عظمى، تسيطر حاليا على ثلثي العراق، ومعظم لبنان،
وكل سورية الرسمية، ونصّبت نفسها القوة الاسلامية الرئيسية
التي تحمل لواء العداء لاسرائيل، وتحقق توازنا استراتيجيا
عسكريا ملحوظا في مواجهتها، وتملك خلايا نائمة وصاحية
في معظم دول الجوار الخليجي، وترسانة ضخمة من الصواريخ.
لا نعتقد ان الرئيس نجاد يمكن ان يتنازل، ان اراد،
او تسمح له قيادته العليا، بالتنازل عن كل هذه المكاسب
الاستراتيجية في لقاء عابر مع العاهل السعودي انعقد في
مكة المكرمة، وفي ليلة القدر، رغم قداسة المكان وروحانية
الزمان. فالايرانيون اثبتوا ان دولتهم دولة مؤسسات، وصناعة
القرار ليست في يد فرد واحد مثلما هو الحال في معظم الدول
العربية.
ان اكثر ما يمكن ان تتمخض عنه قمة مكة الاسلامية هو
مشروع هدنة اعلامية، وربما سياسية، ولكنها تظل هدنة مؤقتة،
سرعان ما تتبخر في ظل قرع طبول الحرب من قبل الاسرائيليين
والامريكيين في المنطقة، وتصاعد عمليات التحشيد الطائفي
غير المسبوقة، لتوفير غطاء لتبريرها، وتعبئة الجانبين
العربي والايراني للانخراط فيها، وهما على اي حال سيكونان
حطب اي حرب تنفجر نتيجة لها.
الاسرائيليون العنصر الحاضر الغائب عن قمة مكة الاسلامية
يستعدون للحرب، ويطلقون اشارات يجب دراستها بعناية في
هذا المضمار، فالمناورات التي لم تتوقف لتحضير الجبهة
الداخلية، وتعيين آفي ديختر رئيس جهاز الموساد السابق
كوزير لحماية الجبهة الداخلية، وضمه الى مجلس الوزراء
المصغر الذي يتخذ قرار الحرب، وتعزيز القبة الدفاعية للتصدي
لاي صواريخ ايرانية، واقامة قبة اخرى مماثلة، ولكن من
صواريخ باتريوت الامريكية فوق دول الخليج كلها، مؤشرات
حرب وليست مؤشرات سلام.
نجمان سطعا في هذه القمة، الاول هو الرئيس احمدي نجاد،
والثاني هو نظيره المصري محمد مرسي، القواسم المشتركة
بينهما عديدة، اولها العداء لاسرائيل، وثانيها الانتماء
الحزبي الاسلامي، وثالثهما التواضع والخلفية القروية البسيطة،
ورابعهما انهما منتخبان من قبل شعبيهما في انتخابات حرة
ونزيهة، وخامسهما الثقل البشري والخلفية الحضارية لبلديهما.
التضامن الاسلامي الحقيقي يتحقق عندما تتوقف كل اشكال
الشحن والتحريض الطائفي والعرقي، ويتعلم ابناء المنطقة
قبل حكامها ابجديات التعايش على قدم المساواة في اطار
ديمقراطي، يرتكز على العدالة والمحاسبة، ويتم توظيف كل
الطاقات الاسلامية نحو هدف واحد يتصدر سلّم الأولويات،
وهو التصدي للمشروع التوسعي الاسرائيلي، اما غير ذلك فإنه
ضحك على الذقون.. وكل عام وأنتم بألف خير.
* عن القدس العربي، 15/8/2012
|