رسائل اليوم الوطني السعودي: الطاعة المتمردة!
د. مضاوي الرشيد
|
د. مضاوي الرشيد |
للاحتفال باليوم الوطني السعودي تاريخ قصير مقارنة
بالدول الاخرى. في عام 1950 دعا النظام السعودي ممثلي
السفارات لاحتفال محدود تم الغاؤه حيث خرجت دعوات معارضة
من رجال الدين حينها وتزامن الموسم مع وفاة اخت الملك
عبد العزيز حينها. لكن الموسم بدأ يأخذ منحى رسميا اكثر
جدية بعد احتفالات المئوية عام 1999 كان اخرها في 23 سبتمبر
الماضي.
اراد النظام هذه السنة ان يعيد بعض الحيوية لكينوته
ويخرط الشعب في احتفالات تمجد القيادة وتستجدي الثقافة
والفن والطرب لتكرس موقع الامراء في مشروع تأسيس المملكة
العربية السعودية وتوحيدها تحت راية العائلة الحاكمة.
وقد مرت احتفالات سنوية سابقة دون اي احداث مثيرة تذكر
لكن هذه السنة تزامنت اعياد اليوم الوطني بظواهر غريبة
لم تكن متوقعة واضطرابات في الشوارع السعودية ادت الى
حوادث راح ضحيتها البعض منها اصطدام السيارات والتخبط
والرقص بالشوارع وغيره من اعمال وصفت بانها شبابية طائشة
تثير الشغب وتفسد روح اليوم الوطني. هذا بالاضافة الى
دعوات تدعو لمقاطعة اليوم الوطني عارضة الاسباب التي تدفع
لاتخاذ مثل هذا الموقف من يوم المفروض ان يكون مناسبة
يحتفل بها الشعب بكافة اطيافه المتنوعة.
يتطلب رصد تداعيات اليوم الوطني على صعيدين اولا على
صعيد احداث حصلت في الشارع السعودي حيث تصدر الشباب الساحات
بالسيارات ومشيا على الاقدام لكنهم عبروا بطريقة تختلف
عن مشاعرهم حيث كان المطلوب منهم ان يهتفوا بحبهم للقيادة
وانجازاتها وتقديرهم للنعمة التي يتغنى بها النظام ورغم
ان مثل هذه المشاعر كانت حاضرة الا انها ارتبطت بسلوكيات
تمرد على السلطة ورجال امنها اللذين طوقوا المرافق العامة
واضطروا الى تفريق المجمعين وتأديبهم على خلفية تجاوزهم
روح الاحتفال والتعدي على الممتلكات والاحتفال بطرق لم
تعهدها الشوارع السعودية من قبل كرقص الرجال والنساء على
ظهر السيارات وتحطيم بعض المنشآت والمراكز التجارية والتحرش
الجنسي.
فبدلا من اعلام ترفرف وجد الشباب فرصة لتفريغ مخزون
كبير من الطاقات المكبوتة والاحلام المتبعثرة وتحول طقس
الاحتفال الرسمي الى طقس تمرد اجتماعي على السلطة والقيود
التي تفرضها على المجتمع في الاماكن العامة. فالنظام التسلطي
لا يقبل ان يتحول الشارع والميدان الى مساحة حرية او تعبير
عن الفردية بل يريده دوما ان يكون مساحة مرور عابرة والشارع
السعودي ليس شارعا للتوقف او الحديث او النقاش بل هو طريق
يسلكه الانسان ليصل الى نقطة اخرى دون التوقف او التأمل
او التفكير ناهيك عن الاحتجاج او الاعتصام. وتستعرض الدولة
عضلاتها دوما في الشارع والمراكز العامة مذكرة الرعية
انها سيدة الشارع بلا منافس وعلى الكل ان يخضع لقانونها
فلا يتحول الشارع الى مرتع للاحتجاج او التمرد على السلطة
التي رغبت ان يكون اليوم الوطني مهرجانها هي وليس مهرجان
الشعب الذي قد لا يخضع لنفس معايير السلطة.
وبالفعل تحول الشارع بعد ان احتله الشباب الى مساحة
وضعت بالفوضى والشغب بعد ان خرج الجمهور من قبضة السلطة
واجندتها لليوم الوطني وعبر عن مكبوته الشخصي مستغلا فرصة
اليوم الوطني وهي الفرصة الوحيدة المتاحة له تحت مظلة
القيود التي يفرضها النظام على الحيز العام والمساحات
في المدن الكبرى. اصبح الشارع السعودي في اليوم الوطني
مساحة تمرد بامتياز حيث توقفت الحركة النظامية وبدأت الحركة
الشبابية الرافضة لمقاييس السلوك المسموح به فقلب الشباب
معايير الاحتفال الرسمي وحولوه الى احتفال شبابي تخللته
اعمال لا تروق للاجندة الرسمية. واختلطت مشاعر البهجة
بمشاعر الغضب والتمرد حيث ازال الشباب الخط الفاصل بين
الطاعة والتمرد وهي الثنائية التي حرصت القيادة السعودية
على تثبيت اركانها. واثبت هؤلاء ان الخط الفاصل بين الطاعة
والتمرد هو خط وهمي من الممكن ازاحته وتجاوزه بسهولة فائقة
معتمدا على زخم العدد الموجود في الشارع لحظة الطاعة المتمردة،
فاستغل الشباب لحظة الطاعة المتوقعة من قبل النظام، وحولوها
الى لحظة تمرد بامتياز، بحيث قلبوا المعايير، واثبتوا
وجودهم على ساحة كانت دوما مقيدة ومراقبة من قبل النظام،
وبرهنوا ان لهم طاقة كبيرة في تجاوز المحظور، واحتلال
الشارع بسلوكيات مبتكرة تبدو وكأنها طقوس طاعة قلبت الى
طقوس مقاومة لعقود من التهميش والنفي والتشكيك بتصرفاتهم
ونياتهم، واثبتوا انهم مختصون في اساليب جديدة يمكن ان
توصف بانها الطاعة المتمردة تحت غطاء شرعية الاحتفال باليوم
الوطني وهدم القيمة المعنوية التي بني عليها.
ويعلم الشباب ان التمرد التقليدي السلمي من مظاهرة
الى اعتصام يقع ضمن الممنوعات في المملكة ناهيك عن التجمعات
الشعبية المستقلة نصرة لقضية او تعاطفا مع مشكلة اجتماعية
او سياسية او اقتصادية ويبدو ان النمط التقليدي للاحتجاج
يؤدي بالمنخرطين به الى متاهات السجن تماما كما هو حال
المنظمتين لمثل هذه السلوكيات الذي ينتهي عملهم بالاعتقال
لذلك برزت على الساحة السعودية انماط جديدة تقلب المناسبة
الرسمية على عقبها وتحولها الى مناسبة تقوض المفهوم الرسمي.
وكان من الطبيعي ان تتحول هذه التجربة الى التصادم
مع النظام الرسمي الذي ندد بالاعمال التمردية والتي اتخذت
اشكال الشغب غير المنظم والسلوك غير المقبول. وبغياب مساحات
للحرية يستفيد منها الشباب وتمتص طاقاته لجأ هؤلاء الى
اعمال تضر بالممتلكات والارواح متجاوزة حدود التمرد السلمي
الى اعمال عنف وحوادث غير متوقعة لكنها مأساوية اودت بالبعض
الى المستشفيات نتيجة الاصطدام او التعدي المباشر عليهم.
ورغم روح الاحتفال الا ان السلوكيات الشبابية عبرت عن
المكبوت الذي ينفجر لحظة اتاحة الفرصة وجاءت النتيجة كصفارات
الانذار تنذر باحداث مماثلة في المستقبل واصبح اليوم الوطني
يوما لتفريغ الغضب والتمرد تحت مظلة الاحتفال الرسمي.
وان كان هذا هو حال الشبيبة على ارض الواقع فلم يكن
الوضع مختلفا على مساحات الحرية الجديدة في العوالم الافتراضية
وهي الصعيد الثاني الذي رصدناه كنافذة نظل منها على المخزون
المكبوت في المجتمع السعودي فالشارع الرئيسي الحقيقي عبر
عنه بطريقته الخاصة الاحتفالية الملونة، لكن الشارع الآخر
كان شارع تويتر المفتوح بلا نهاية، حيث لا فواصل فيه الا
فواصل الهاشتاق المعروفة، حيث تكدست الجمل القصيرة الضاربة
في عمق اليوم الوطني ورموزه وسياساته.
ورغم ان الجسد كان محور التمرد الاول في الشارع الرسمي
الحقيقي، فقد جاءت الكلمات والصور لتحتل الموقع الاول
في الشارع الافتراضي، في عملية ربطت بين الشارعين وأزالت
الحواجز بينهما. وان رقص الشباب واحتج بجسده في الشارع
الحقيقي نجدهم في شارع تويتر يرقصون على الكلمات والالغاز
ومصطلحات التمرد ويطعمونها بصور الكاريكاتور الضاحكة ويحركونها
تارة بغضب المفردات والمصطلحات، وتارة بروح النكتة والتهكم،
فقلبوا دعاية الوطن للجميع، الى مملكة الشبوك، مشيرين
الى تشبيك الاراضي واستئثار الامراء بمساحات شاسعة من
صحاري الجزيرة العربية ومدنها.
كانت الرسالة واضحة وصريحة ترمز الى غربة في الوطن
وضياع لابسط الحقوق الانسانية، وهي امتلاك المسكن في بلد
نفطي تتغنى قيادته بالنعمة والنعم التي توزع على المواطنين.
وخرجت دعوات تتذكر مرحلة تأسيس المملكة التي قامت على
مبدأ الغلبة ونفي الآخر الذي تمرد على مشروع الدولة رغبة
منه في الاحتفاظ باستقلالية خاصة بعد انخراطه كمساهم في
بناء الوطن.
من خلال قراءة شارع تويتر وجدنا انه ينفي السكوت والسكون
والصمت، بل هو يتأجج بدعوات الاحتجاج ومراجعة التاريخ
وهدم مقولات الدعاية النظامية السعودية، حيث لا تزال شرائح
كبيرة ومعروفة تشعر بالغبن نتيجة عقود من الاقصائية والتهميش
وفرض نمط كان هدفه الاول والاخير صهر المجتمع في مشروع
الدولة، حيث الولاء ليس للوطن بل للقيادة السياسية. نفى
شارع تويتر بتغريداته القاسية الضاربة في عمق الخطاب الدعائي
مشروع الولاء للاشخاص، وركز على الولاء للوطن بمعزل عن
القيادة، واثبتت انه يتوق الى مرحلة جديدة تعاد فيها صياغة
مفاهيم شعاراتية كمفهوم المشاركة في الوطن او مشروع الهوية
الجامعة لاطياف المجتمع المختلفة.
لم تفلت الاحتجاجات المتمردة في الشارع الحقيقي والتويتري
المتوتر من قبضة السلطة المراقبة باجهزتها الامنية الحقيقية
على الارض او جيشها الالكتروني الذي يخوض معارك عنيفة
في العوالم الافتراضية مع كل مشكك بالخطاب الرسمي الدعائي.
ورغم ان اجهزة الاعلام الرسمية ظلت تبث الاغاني الوطنية
على مدار الساعة، وتلحقها بصور المباني والمرافق الشاهقة،
تناست ان تعرض صورا للمواطن، مفضلة استعراض صور القيادة
والامراء على شاشات الاعلام الرسمي.. الا انها لم تستطع
ان تحجر على صور من نوع آخر جاءت كبديل لصور العمران الحجري.
فتصدرت صور الاعتصامات والاحتجاجات وصور صناديق تسكنها
بعض العوائل في المدن وعلى اطرافها صفحات شارع تويتر،
مكرسة في مخيلة متصفحيها صور المملكة الاخرى التي لا يعترف
بها النظام الرسمي، ويعاقب كل من يتحدث في موضوعها، خاصة
بعد التعميمات الرسمية التي تمنع الحديث عن الفقر في الصحافة
الرسمية.
اثبت اليوم الوطني السعودي وما رافقه من جدل وتمرد
افتراضي وحقيقي قدرة الشباب على قلب معايير النظام وتجاوز
قبضته على المجتمع، فاحتلوا الشارع تحت غطاء رسمي باجسادهم،
وحولوه الى مسرحية تمرد بامتياز، بينما لجأ طيف آخر الى
العالم الافتراضي هادما المنظومة الرسمية بدعايتها الزائفة
والمبتذلة.
واصبح اليوم الوطني يوم غضب مرشد وغير مرشد، وطالما
ظل المجتمع ككل والشباب خاصة محرومين من فرص الاحتجاج
المؤطر بمجتمع مدني مستقل وصحافة غير رسمية مستقلة ومساحات
للتنظيم والحراك الهادف.. سيظل الشارع بتمرده وعفويته
وسلوكياته المقبولة وغير المقبولة سيد الموقف، وقد يؤدي
ذلك الى انزلاقات خطيرة، وتعدي على الآخرين، خاصة وان
من صفات الشارع الرئيسية: عدم القدرة على ضبطه ان تجاوز
حدود المعقول والمقبول؛ وستدفع السلطة السعودية ثمنا باهضا
طالما ظلت مستمرة في تراتيل الطاعة والحجر على المجتمع،
خاصة الشرائح الشبابية منه.
عن القدس العربي، 30/9/2012
|