السعودية: تهاوي منظومة الريع مقابل الولاء
د. مضاوي الرشيد
|
د. مضاوي الرشيد |
لعقود طويلة ظلت الحكمة القديمة مسيطرة على مخيلة المحللين
والمراقبين للشأن السعودي تقول: ان الريع النفطي عامل
مهم في ولاء المجتمع للقيادة، حيث لا يضطر النظام الى
تقديم اي تنازلات سياسية طالما انه لا يفرض الضريبة على
المجتمع، وذلك من مبدأ: لا تمثيل سياسي لشعب لا يدفع رسوما
للدولة. وظلت هذه النظرية منبثقة من التجربة الغربية ذات
التحول التاريخي الخاص ببيئتها وسياق التطور الاجتماعي
فيها، فكانت عملية اسقاطها على البيئة السعودية غير قادرة
على احتواء الحالة السعودية، ورسخت هذه النظرية مفهوما
قاصرا للسياسة في بيئات بعيدة كل البعد عن التحولات في
بلدان غير اوروبية او غربية. كما كرست مفهوم الشعب المرتشي
الذي يحصر همومه بالامور المعيشية من مأكل وملبس وتربية
وصحة ومرافق حيوية ضرورية لاستمرارية العيش؛ كما رسخت
لمفهوم الشعب المرفه المتلقي للمكارم والاتاوات والهبات
الآنية التي تستعملها الدولة لامتصاص اي تململ شعبي او
مطالبة بالاصلاح السياسي كديمومة مطلقة، لا يخل بتوازنها
سوى شحة الموارد والثروة، في حال تدهور اسعار الطاقة النفطية
وتذبذبها في السوق العالمية. كما تأصل تحت مظلة هذه النظرية
السياسية الاقتصادية مفهوم القائد الأب، الذي يوزع الهبات
بين افراد اسرة كبيرة من منطلق الأبوة البطريركية والهيمنة،
فأسقط النظام الاسري البطريركي على الدولة والامة التي
يسيطر عليها، بحيث صار حق الاب مطلقاً مهيمناً؛ وواجب
المجتمع الطاعة والولاء، وعدم طرح التساؤلات على منطق
الأبوة الفوقية وطفولة الاسرة بمعنى فضفاض يحتوي الوطن
بكهوله وصغاره وبنسائه ورجاله.
تكرست هذه النظرية ليس فقط في اطروحات علم السياسة
الاكاديمية، بل في ممارسات السلطة المطلقة السعودية، وشرائح
اجتماعية انتفعت من منطق الولاء مقابل الريع. وكانت اول
خطوات احتواء تداعيات الثورات العربية في السعودية، سلسلة
من الوعود المالية والهبات واوهام التوظيف، لاحتواء شرائح
الشباب المتململة من الوضع الاقتصادي المزدوج، حيث تتلازم
عملية تكديس الثروة النفطية مع ظاهرة البطالة المتفشية،
على امل ان تمتص الهبات المعلنة حالة التململ والاستياء
من اختلال معادلة الولاء مقابل الريع. وتغنت القيادة بالابوة
الكريمة، ونشرت لوائح واحصائيات البعثات التعليمية للخارج،
وعدد الاسرة في المستشفيات والوظائف الحكومية التي تنتظر
الشباب العاطل عن العمل، لتحفر في مخيلة المجتمع صورته
كطفل مرفه مدلل، يتم تطويعه وترويضه في سوق الشهوات المفتوحة
التي يوفرها اقتصاد الاستهلاك الليبرالي، والذي انخرطت
فيه السعودية من مبدأ الرفاهية الاستهلاكية التي يوفرها
انفتاح السوق السعودية لكل ما طاب من السلع والاشياء الباهرة
صاحبة البريق الذي يدغدغ غريزة الانسان في امتلاك الشيء
المبهرج كبديل للانتاج والعمل.
وكلما تململ الطفل المرفه المتمرد المطالب بمزيد من
الاشياء، كلما وفرت له القيادة اشياء استهلاكية كألعاب
الطفولة المعروفة منذ الصغر، والتي تنطلق من غريزة الامتلاك،
كتعويض عن رشد سياسي، وبديل لتبلور انطلاقه من الطفولة
الى سن الشخصية المستقلة الفاعلة. فالطفل يبقى (مفعولا
به) متلقيا للاوامر والالعاب، وما عليه الا السمع والطاعة
والولاء الى قيادة ترسخت صورتها كقيادة فاعلة.
وبعيدا عن الصور الوهمية التي تحولت الى واقع، لا بد
ان تقر ان كثيرا من التحولات التاريخية المفصلية قد تساهم
العوامل الاقتصادية المختلة والعوز الاجتماعي في تأجيجها؛
ولكن من المتفق عليه ان الشعوب المعدومة والفقيرة ليست
هي من يحرك عجلة التغيير السياسي المفصلي؛ حيث تبقى هذه
الشعوب مشغولة في تدبير امرها، واكثر ما تستطيع فعله ساعة
الضغط الاقتصادي والفقر المتفشي، هو انفجارات آنية، واعمال
شغب دورية، يتم فيها التعدي على الاملاك العامة وتخريبها
وسرقتها في فورات اللحظة، تحركها حادثة بسيطة ثم تنتشر
بسرعة، ولكنها تعود وتخمد، كثورات الخبز المعروفة، او
ثورات احتجاجية آنية على رفع الاسعار وتردي القدرة الشرائية
لشرائح كبيرة في المجتمع.
ولكن تختلف الصورة في السعودية حيث تمتص الجمعيات الخيرية
المرتبطة بالمنظومة الدينية طوابير التسول على عتبات القصور
الملكية. مثل هذا الوضع المتفجر، وتحول الضائقة الشرائية
التي يعاني منها طيف كبير في المجتمع الى مسرح لاستعراض
الكرم الملكي الذي يتخطى المؤسسات المعروفة للدولة ذات
المهام التوزيعية لهبات تم مأسستها تحت مظلة الرعاية الاجتماعية
والصحية وغيرها. وتقوم هذه الممارسات خارج المؤسسات بتكريس
علاقة مشخصنة بين الحاكم والمحكوم من منطلق الابوة الوهمية
التي تدبر شؤون الاسرة ـ الوطن الكبيرة.
نستطيع ان نجزم ان منظومة الريع مقابل الولاء عن طريق
مؤسسات الدولة، او عن طريق الهبات المشخصنة، قد سقطت؛
خاصة بعد مظاهر التمرد التي رصدت خلال العامين المنصرمين.
من اهم هذه المظاهر:
اولا: تداعي قدرة النظام على تفعيل اوهام الكرم المطلق
على الارض. فبعد عامين من الوعود البراقة، تظل شرائح كبيرة
في المجتمع غير منتفعة واقعيا. فأرقام الفقر والبطالة
والاقصاء السكني وامتلاكه تظل مرتفعة، والنظام غير قادر
على النهوض اقتصاديا بشرائح مهمشة اقتصاديا وسياسيا واجتماعيا،
مما يشكل خطرا امنيا ينذر بالتفاقم اي لحظة، وعند الشرارة
الاولى.
ثانيا: التوزيع غير العادل للثروة يبقي هذه الشرائح
خارج معادلة الولاء مقابل الريع، حيث تستقر على هوامش
المجتمع وتفرز ممارسات تخل بأمن الدولة والمجتمع معا،
فتنتظر هذه الشرائح فرصة سانحة لتنقض وتفرغ مخزون الاحتقان
الذي تعاني منه. وتعطينا الصحافة السعودية نمطا متكررا
من صور اجتماعية يومية تنذر بتفكك السلم الاجتماعي والامن
الاقتصادي من انتحار وجريمة وتعدي على الممتلكات؛ وكلها
تعتبر ـ من منظور الصحافة الرسمية ـ قصصا مثيرة، لكنها
في الواقع تعبير عن ردة فعل على تخاذل القيادة في التعاطي
مع ظاهرة تعتبر افرازا لعملية التقصير في توزيع الثروة
العادلة.
ثالثا: تسقط معادلة الولاء مقابل الريع على عتبات الفساد
الاداري والسياسي الذي يكرس الانتقائية والانتهازية للشرائح
المرتبطة بالنظام، من موظفي دولة وبطانة ومنتفعين، ناهيك
عن الفساد الكبير الذي تتمرس فيه شخصيات مفصيلة في النظام،
والتي تظل تستنزف ليس فقط الموارد النفطية، بل الارض والاستثمارات
الجديدة، ومشاريع التنمية المعلن عنها دوما. فالفساد المستشري
يصبح نمطا مقبولا اذا استطاعت السلطة ان تجبر شرائح المجتمع
على ان تنخرط فيه كوسيلة فعالة للثراء السريع، وانتهاز
الفرص. فالجريمة الفردية تتحول الى جريمة جماعية، لها
شق قيادي متمكن وقوي، وشق ضعيف لكنه انتهازي منخرط هو
الآخر في سلسلة من عمليات الاستثمار والنفع غير المشروع.
وبذلك يصبح الفساد هرميا له رأس كبير، وقاعدة مجتمعية
واسعة تخاف التغيير وتخاف الإنفضاح عن طريق المحاسبة والمساءلة،
حيث تكون هي الضحية الاولى، على خلفية حصانة رأس الهرم.
وفي الحالة السعودية يبدو مصطلح رؤوس الهرم اكثر دقة لوصف
التعددية القيادية المنتفعة سياسيا واقتصاديا.
رابعا: سقطت معادلة الولاء مقابل الريع تحت وطأة تفشي
ظاهرة المحسوبية والواسطة، وهي بالضرورة تعتمد على العلاقة
الشخصية او الاسرية او القبلية او المناطقية او الشللية،
فتجعل وصول الريع مرتبطا بهذه العلاقات، وليس على قاعدة
المساواة امام قانون صريح وواضح، يرشد استلام الريع بكافة
اشكاله الخدماتية والوظيفية.
فالواسطة تقسم المجتمع الى نواة صغيرة متشرذمة منغلقة
على ذاتها، هدفها استغلال الفرد لموقعه في مفاصل الدولة،
لتوسيع دائرة الولاء له وليس للدولة والوطن، فتنمو حلقات
الولاء حول هؤلاء الاشخاص على حساب الحقوق المشروعة للجميع،
وتمنع نمو وعي شامل عام، حيث تتحول المشاكل الاجتماعية
والاقتصادية العامة الى مشكلة شخصية فردية، لا تجد الحل
الا عن طريق الواسطة كهمزة وصل بين المجتمع الكبير والريع
المحتكر. الواسطة ليس فقط ثقافة اجتماعية سلبية، بل هي
افراز من افرازات الحكم الفردي المشخصن المحتكر للريع
وتوزيعه على محاور تعتمد هي الاخرى على العلاقات المشخصنة؛
حيث يتعامل النظام مع المجتمع ليس ككتلة واحدة بل كفسيفساء
وموازييك متقطع، تسهل زيادة تقطيعه عن طريق ممارسات سياسية
تتواصل معه على انه اعمدة متفرقة لا تجتمع؛ فيعزل النظام
هذه الاعمدة ويتماهى في دغدغة مشاعرها عن طريق الريع غير
العادل، ويخلق حالة تنافس شرسة بينها.
واخيرا: سقطت معادلة الولاء مقابل الريع تحت اقدام
خطاب حقوقي جديد ينظر للمواطنة كحق وليس هبة او مكرمة؛
فالتعليم اليوم ليس هبة ملكية؛ والسرير في المستشفى ليس
حنانا واحتضانا من قبل القيادة؛ والوظيفة ليست عظما يرمى
لجائع؛ بل تحولت هذه السلسلة من المطالب الى حقوق مشروعة
بفضل خطاب عالمي قديم، وعربي جديد، نضج تحت عباءة الثورات
العربية، ناهيك عن تأصل فكرة تعتبر الانسان كائنا متكاملا
لا يحيا بالخبز فقط. وتصير الحقوق السياسية والمدنية والحرية
سلسلة من المطالب خاصة عند شريحة شبابية جديدة، مرتبطة
مع العالم، وتتفاعل مع مخاضات الشعوب الاخرى. سيهدم هذا
الخطاب المتأصل صروح منظومة الولاء مقابل الريع الوهمية
التي اعتاش عليها النظام السعودي منذ بداية الحقبة النفطية.
عن القدس العربي، 25/11/2012
|