رجال الخليج الملثمون
د. مضاوي الرشيد
تحول اعتماد دول الخليج على المرتزقة المستوردة لحفظ
الامن الداخلي الى سر مفضوح، ففي أثناء بعض المواجهات
|
د. مضاوي الرشيد |
بين اجهزة الانظمة والناشطين، لا يستغرب أن يسقط شرطي
باكستاني او آخر عربي، كما حدث في البحرين منذ فترة قصيرة.
وتتهم معارضات في هذه الدول الانظمة باستعمال المتعاقدين
مع الاجهزة الامنية لقمع الحراك الشعبي في الشارع، وقد
حصل ذلك في الكويت عندما اتهم مسلم البراك حكومة الكويت
باستقدام 3000 شرطي ورجل امن من الاردن لقمع مسيرات الكويت،
ناهيك عن عقود مع شركة بلاك ووتر، ابرمتها الامارات لتدريب
وتجهيز نفسها لمكافحة ما يسمى بالشغب. اما السعودية فلم
تلجأ الى المواربة حينما استقدمت قوة متعددة الجنسيات
في التسعينات لدرء عدوان خارجي عراقي مرتقب، وكانت تلك
الخطوة العلنية عاملا يثبت عدم جاهزية هذه الدول لتثبيت
امن حدودها من عدوان خارجي.
نكاد نجزم ان كل الدول الخليجية لا تواجه معضلة امن/
خطر خارجي، بل ان معضلتها اليوم منبثقة من الامن الداخلي.
ومهما كبرت الانظمة الخليجية ونفخت بالخطر الايراني والتهديد
الذي يمثله مشروع ايران النووي او قنبلتها المزعومة، الا
ان المرحلة الحالية الحرجة قد قلصت هذا الخطر، وتحولت
انظار واعلام هذه الانظمة الى خطر آخر تحت مسمى تهديد
مد الاخوان المسلمين وتغلغله في المجتمعات الخليجية ومؤسساته
التعليمية والدينية والخيرية.
وبعد انتقال الصدام مع الانظمة من الصراع المسلح الذي
مثله تنظيم القاعدة على مدى عقد كامل، الى صراع سلمي استلهم
ابجدياته من الحراك العربي المتمثل بالمظاهرات السلمية..
وجدت هذه الانظمة نفسها في مواجهة غير متوقعة. فخطابات
التحذير من الخلايا النائمة او حتى المؤامرات الانقلابية،
قد لا يجدي في هذه المرحلة التي قلبت معايير واستراتيجيات
التغيير من العنف المسلح الى الاحتجاج السلمي في الشارع.
فخرجت المظاهرات اولا في البحرين ثم الكويت والسعودية
لتجد الانظمة نفسها وجها لوجه مع كتلة بشرية تجمع اطيافا
متنوعة من الناشطين، وان حاولت الانظمة اسقاط الخطاب الطائفي
على مثل هذه الكتل كما حصل في البحرين وشرق السعودية.
الا ان محاولة تقزيم وتحجيم هذا الحراك تحت مصطلح الطائفية
لا يزال غير قادر على احتواء الحراك والمطالب التي هي
بدورها جاءت مختلفة ومتنوعة بين بلد وآخر.
فمن اسقاط الانظمة الى اصلاحها او حتى شعارات اطلاق
مساجين الرأي، والمطالبة بحكومات منتخبة.. وجدت الانظمة
الخليجية نفسها مع حراك جديد خاصة في السعودية، حيث سقطت
ثنائية العنف او مهادنة النظام؛ وتحولت الى استراتيجية
تركز على المطالبة بحقوق محدودة كما هو حال الاحتجاجات
التي تشهدها السعودية في عمقها وليس على طرفها الشرقي
فقط، حينما خرجت النساء في مظاهرات ولو محدودة للمطالبة
بمحاكمات عادلة لمساجين الرأي والذي يتهمهم النظام بتهم
مبهمة تتراوح بين مناصرة القاعدة، والتعدي على ولاة الأمر
أو تعطيل التنمية.
ومع ان كان الحراك السلمي قديم في مجتمعات مثل البحرين
والكويت، الا انه لم يتبلور الا بشكل محدود في السعودية
خلال الخمسينات والستينات، وقد تم القضاء عليه بسرعة لفتوته
وانحساره في حركة عمالية لم تستطع اختراق المجتمع، فبقيت
محدودة في محيطها النفطي، وظل المجتمع معزولا عنها غير
متجاوب مع مطالبها.. ولذلك لم تتحول بدايات الحراك العمالي
الى حركة شعبية. واستعمل النظام حينها استراتيجيتين لوأد
ذلك الحراك العمالي:
أولها: القمع المباشر والسجن والنفي لرموز الحركة العمالية،
ومن ثم تجريم الاتحادات العمالية.
وثانيها: استراتيجية تحجيم مشاركة المجتمع في العمل
عن طريق استيراد اليد العاملة الاجنبية العربية والآسيوية،
بحيث يضمن بذلك تسيير الاقتصاد بمعزل عن كوادر عريضة لها
جذور في المجتمع، والاستعاضة عنها بيد عاملة تفتقد للحقوق،
وتعتمد على عقود عمل آنية تتجدد حسب الضرورة. وبهذا تم
تحييد المجتمع عن تلك المهن التي قد تتبلور حقوقها في
تجمعات عمالية او مهنية. فقسمت اليد العاملة الى محلية
تتمركز في القطاع العام وتحت سيطرة النظام، ويد عاملة
مستوردة ذات وضع آني طارئ.
وقد بدأ هذا النمط يتغلغل في مشاريع خصخصة الامن الداخلي
حيث يناط بتنفيذه والحفاظ عليه: كوادر مستوردة ليس لها
جذور اجتماعية في البيئة التي تحاول السيطرة عليها؛ ومن
هنا جاءت العقود الامنية التي لا تقتصر على استيراد الاسلحة
في سوق عالمية مفتوحة، بل وايضاً استيراد الخبرات التدريبية
وحتى البشرية لتنزل الى الشارع عند الضرورة، فتقمع كما
تشاء دون ان تكون مرتبطة بهذا المجتمع او ذاك عن طريق
اواصر قربى او لحمة اجتماعية، وتكون هذه الشرائح المستوردة
جاهزة لتنفيذ الاوامر مقابل الاجر المدفوع لها.
اعتمدت الانظمة الخليجية على الفائض العسكري الذي ترعرع
في البلدان العربية تحت مظلة حكم عسكري، واستوردت من الدول
العربية الكوادر، التي هي اما مرتبطة بأنظمتها او المطرودة
منها. واتجهت أنظمة الخليج الى السوق العالمية الامنية
لتشتري المرتزقة وقد انتجت مثل هذه البيئات المعولمة خبرات
امنية تسوق نفسها في هذه السوق: من جنوب افريقيا الى اوروبا
الشرقية مرورا بباكستان والتي جمعتها سياسة قديمة بأنظمة
مثل النظام السعودي، فصدرت باكستان ليس فقط اليد العاملة
بل ايضا الرجل المعسكر والذي يبيع خبراته تحت مظلة عقود
امنية تبرمها حكومته مع الحكومات الخليجية المحلية، وقد
لقي احدهم حتفه مؤخرا في البحرين.
ويمكن اعتبار المنظومة الخليجية للامن الداخلي الحالية
امتداد لمنظومة سابقة كان يعتمد الامير او الشيخ او الملك
على اساسها في امنه على حلقة صغيرة من العبيد الذين يدينون
له بالولاء المطلق؛ ويستعمل جيش حضري وقبلي لحفظ الامن
بمفهومه الواسع من امن المدن الى امن الحدود. وبعد تعثر
هذه المنظومة نتيجة مصادمات او مواجهات مع السلطة في مراحل
تاريخية سابقة، وصلت الانظمة الى قناعة ان الامن موضوع
خطير لا يمكن ان يسلم الى تكتلات قبلية معروفة قد تنافس
السلطة او تقوض مصلحتها المحدودة، فأبقت على هؤلاء بصورة
شكلية استعراضية، وسلمت الملف الامني لاشخاص قد لا يتمتعون
بتلك العلاقات او الطموحات الكبيرة، وبذلك خلقت لهم ادوارا
في شرطة المرور او السوق، وابعدتهم عن المفصل المركزي
في امن الدولة، ما عدا اجهزة المخابرات التي تعمل في دولة
الظل المتمثلة بشبكة امنية واسعة متغلغلة في الخفاء، وتدير
ملفات الاعتقال والتجسس وغيره من اساليب خفية.
في الشارع الخليجي، خاصة بعد التحول التاريخي الى اساليب
الحراك السلمي، كان لا بد من مواجهة الحراك البشري بكتلة
بشرية اخرى مطعمة بالمرتزقة المستوردة الملثمة التي تقف
على مسافة قصيرة من المتظاهر في مصادمات اصبحت يومية في
مناطق كالسعودية والبحرين والكويت. ومن اهم ملامح رجل
الامن الملثم: ان لا ملامح له مجازيا وواقعيا، حيث يخفي
لثامه هويته محلية كانت او مستوردة، ويتحرر من حزازيات
القتل وتبعياته في مجتمعات لا تزال غارقة في اعتمادها
على العلاقات الشخصية والتعارف الاجتماعي والتواصل الاسري.
فالملثم المستورد والمحلي بترسانته المنقولة، وادوات
قمعه المعروفة، من خراطيم الغاز وقنابله المستوردة، ناهيك
عن الذخيرة الحية والقنابل اليدوية، ووسائل نقله العصرية..
اصبح ظاهرة ملازمة للتحول الحاصل على الارض من التهويل
بالخطر الخارجي الى واقعية حراك سلمي متكرر يأبى ان يتراجع.
ونستطيع ان نجزم ان ظاهرة رجل الامن الملثم تتلازم مع
انطلاقة هذا الحراك المكثف الذي لم تشهده بعض الدول الخليجية
في العقود الماضية بهذا الشكل رغم وجوده سابقا في مناطق
معروفة.
وكلما شككت الانظمة بولاء المجتمعات، كلما ازداد اعتمادها
على اللثام الحديث، ووسائل القتل والقمع الجديدة، في محاولة
للهروب من مواجهة الحقيقة التي فرضت نفسها في شوارع مدن
عامرة تتباهى بالعمران العصري، وساحات اثقلتها يد السلطة
وصورها المتناثرة على الجدران والمباني والمؤسسات. إن
وجود المجتمع والكتل البشرية في هذه الساحات والشوارع
لاهداف غير التنقل والتسوق المنشود والمتوفر.. غيّر المعادلة
التي حاولت السعودية وغيرها من الدول الخليجية فرضها،
وهي تستهدف تحويل المجتمع من المواطنة الى الاستهلاك.
واليوم نجد اطيافا كبيرة وعريضة لم تقتنع بالاستهلاك كبديل
للمواطنة والحقوق، ولذلك خرجت الى الشارع طلبا لمنظومة
جديدة تحل محل تلك القديمة المشبوهة بالفساد والاحتكار
والانتقائية، والتي اثقلت تلك المجتمعات التي ظلت غير
مقتنعة بتحييدها الى الابد، وانهكت اقتصادها بل استنزفته
تحت شعارات التنمية والاستقرار، وفشلت في توفير اهم حق
يطلبه المجتمع وهو حق العمل المصادر والمعتبر كهبة مقابل
الولاء المطلق.
في ظل التحولات التاريخية التي تشهدها منطقة الخليج
الآن، سيظل رجل الامن الملثم المستورد والمحلي سمة ملازمة
تلجأ اليها الانظمة غير المتصالحة مع مطالب شعوبها والتي
آثرت خصخصة الامن الداخلي على مستويات متباينة بهدف تحييد
المجتمع لتبقى هي المسيطرة على ثرواته وسيادته ومستقبله.
* القدس العربي، 24/2/2013
|