العلاقات الروسية السعودية
مواجهة القلق بالشراكة أو الحرب
علاقة بقيت مضطربة على الدوام رغم محاولات الطرفين
إخراجها من دائرة الارتياب الى التعاون الوثيق. لم تحدث
الاتصالات بينهما أي تغيير في مجال التبادل التجاري الذي
بقي أدنى من نصف مليار دولار، فيما كانت الصفقات المعلن
عنها مجرد وعود لم تكتمل شروط تحققها على الأرض.
جاءت المشاركة العسكرية الروسية في سوريا لتضع العلاقة
بين موسكو والرياض على المحك. وبات على الطرفين أن يقررا
البقاء في المنطقة الرمادية أو انحياز كل طرف الى مواقفه
الحقيقية.. إخفاء السلاح خلف الظهر لم يعد مجدياً، فقد
حسمت موسكو خياراتها، وأوصدت الباب أمام محاولات التسوية
مع الرياض ولكن ليس على حساب مستقبلها الاستراتيجي في
المنطقة بما يشمل بقاء بشار على رأس السلطة.
بعد إسقاط الطائرة المدنية الروسية في سيناء وإعلان
تنظيم داعش عن مسؤوليته بات على موسكو التفتيش عن الجذور
الأيديولوجية لهذا التنظيم، وعن مصادر دعمه وتمويله..وهنا
تبدأ رواية صحيفة (البرافدا) الروسية المقرّبة من الرئيس
فلاديمير بوتين والتي كانت ناطقة باسم الاتحاد السوفييتي
سابقاً. نشرت المقالة في 19 نوفمبر الماضي بعنوان (روسيا
تحذّر تركيا وقطر) والتي تضمن تحذيراً شديد اللهجة الى
كل من السعودية وقطر وتركيا لكونها ترعى التنظيمات الارهابية،
ولوّحت الى إمكانية استخدام موسكو القوة ضد السعودية وقطر.
ونورد هنا أهم ما جاء في المقال:
توعّد بوتين في عام 1999 بملاحقة وقتل الإرهابيين حتى
ولو كانوا في مراحيضهم. في إشارة الى أن بوتين نفّذ وعده
وقام بتصفية أمراء الحرب الشيشانية، الذي كانوا يقاتلون
ضد الغزو الروسي لبلادهم.
وذكرت الصحيفة بأن الهجمات الصاروخية الاخيرة التي
نفذتها روسيا (في سوريا) باستخدام القاذفات الاستراتيجية
والغواصات تعطي إشارة تحذير للدول التي تدعم الإرهابيين.
ومضت الصحيفة «في مجال مكافحة الإرهاب، روسيا ستقوم بالتصرف
وفقا للمادة 51 من ميثاق الأمم المتحدة، التي تضمن حق
الدول في الدفاع عن النفس، وفق ما صرح بوتين، ووفق ما
أكد وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف خلال لقائه مع
نظيره اللبناني،حين أوضح أن روسيا سوف تطبق هذه المادة
بكل الوسائل العسكرية والدبلوماسية والمالية».
وتنص المادة 51 من ميثاق الأمم المتحدة على أن لأي
دولة عضو في الأمم المتحدة الحق في الدفاع عن النفس في
حالة وقوع هجوم مسلح على تلك الدولة، إلى أن يقوم مجلس
الأمن الدولي باتخاذ إجراءاته للحفاظ على السلم والأمن
الدوليين.
وعلى غرار ما فعلت الولايات المتحدة بهد هجمات الحادي
عشر من سبتمبر سنة 2001، حين دعت مجلس الامن الدولي لإصدار
قرار يجيز استخدام القوة ضد حركة طالبان، بكونها الحاضنة
لتنظيم القاعدة المسؤول عن تلك الهجمات، وبناء عليه صدر
قرار من مجلس الامن يمنح امريكا الحق في الدفاع عن نفسها
عن طريق استخدام القوة ضد التنظيمات الارهابية، فإن موسكو
سوف تلجأ الى المادة نفسها من أجل الدفاع عن نفسها إزاء
ما تعتبره التهديدات الارهابي..
وتقول الصحيفة: «بعد الهجوم الإرهابي في سماء شبه جزيرة
سيناء، يمكن لروسيا استخدام المادة 51، إما من أجل جلب
الجناة إلى العدالة، أو اتخاذ تدابير أخرى ضدهم (تدميرهم)».
وشنّت الصحيفة هجوماً على قطر وقالت بأنها «واحدة من منظمي
العمل الإرهابي على سيناء». وأضافت: «في قطر والمملكة
العربية السعودية، يوجد هؤلاء الذين ينظمون ويرعون الهجمات
الإرهابية، إنهم أناس معروفون هناك بإدارتهم الأنشطة الإرهابية
في سورية والعراق».
ونقلت الصحيفة عن رئيس معهد الشرق الأوسط «يفغيني ساتانوفسكي»،
كلاماً تحريضياً مباشراً ضد قطر والسعودية، قال فيه إن
هاتين الدولتين يجب أن تخافا من موسكو كما يخاف المرء
من الطاعون، مستدركاً: «الأمر يعود إلى القيادة الروسية
لاتخاذ قرار بشأن كيفية تخويف هؤلاء الناس، وليس بالضرورة
عبر قصفهم، فهناك طرق أخرى مختلفة».
وحذّر «ساتانوفسكي» من إن روسيا إذا ما اختارت طريق
الحرب، ومضت مزودة بترسانة كبيرة من الصواريخ البالسيتية
والسلاح، فأي شيء آخر يصبح بلا جدوى، مستحضراً ذكرى اجتياح
السوفييت لبرلين (عاصمة ألمانيا) واستيلائهم عليها عام
1945 دون التشاور أو التنسيق مع أحد.
وكشفت (برافدا) عن أن الغواصة «روستوف» في نهر الدون
أطلقت صواريخ بالستية من طراز «كاليبر» موجهة ضد داعش
في مواقعه شرق البحر المتوسط (سوريا)، وأن الصواريخ عبرت
فوق تركيا، فيما تولّت القاذفات الاستراتيجية توبوليف
160، تو-95 MS وتوبوليف 22 جزءاً آخر من عملية الاستهداف.
وذكّرت الصحيفة بقول بوتين: «إذا لم تتمكن من منع الحرب،
فعليك المبادرة إلى شنّها»، فعدم مبادرة روسيا إلى شن
الحرب سوف يتيح لحلف شمال الأطلسي استلام الزمام ونقل
الحرب إلى حدود روسيا.
وذكرت الصحيفة أن الاتحاد الأوروبي يناقش «العملية
العسكرية في سوريا» على أساس المادة 51 من ميثاق الأمم
المتحدة. وأن لهذا «الاتحاد» خبرته الخاصة في مجال التدخّل
الخارجي، عبر نشر وحدات عسكرية في أفغانستان والعراق.
وأبدت «برافدا» استغرابها من بقاء السعودية «بلا عقاب»،
رغم أنها واحدة من منظمي هجمات 11 سبتمبر، وتابعت: «لم
يعد يمكن لروسيا بعد الآن تجاهل الحقيقة التي تقول أن
الصراع في سوريا والعراق يؤثر على مصالح موسكو الحيوية،
ولا يمكن لروسيا السماح للإرهابيين بقتل المواطنين الروس،
وخلال توسيع عملياتها الخاصة داخل وخارج سوريا، يجب أن
تؤكد روسيا على بناء تحالف مفتوح».
وختمت الصحيفة مقالها بأنه حان الوقت لرفع قضية في
الأمم المتحدة من أجل «إنشاء محكمة دولية تقاضي حكومات
تركيا وقطر والمملكة العربية السعودية لتورطها في الإرهاب».
في رد فعل على مقالة (برافدا) ورسالة التحذير التي
وجّهتها موسكو للسعودية، الى جانب قطر وتركيا، كتب الاعلامي
المقرّب من آل سعود جمال خاشقجي مقالاً في صحيفة (الحياة)
في 28 نوفمبر الماضي بعنوان (خطر بوتين على السعودية).
خاشقجي فضّل أن يأخذ على محمل الجد التهديدات الروسية
المبطّنة كما جاءت في مقالة (البرافدا) للدول الثلاث المملكة
وقطر وتركيا. سبب ذلك كما يراه خاشقجي هو لتفادي ما هو
أخطر، فقد تكون هناك نيّة لإشعال حرب عالمية ثالثة بسبب
دعم هذه الدول لتنظيم داعش بحسب الرواية الروسية..
من نافلة القول، ليست البرافدا وحدها التي وجهت رسالة
التحذير للسعودية بل سبق لموقع «صدى موسكو» أن نقل كلاماً
لمستشار سابق للرئيس بوتين دعا فيه لاستهداف مواقف عسكرية
ونفطية في السعودية وقطر..
وبلغة انفعالية وصف خاشقجي بوتين بأنه «أحمق ودموي
ولا يؤتمن وأعتقد بأنه يكرهنا أيضاً، ويجب أن نعتبر هذه
التهديدات صادرة عنه مباشرة». لغة خاشقجي تخفي قلقاً وخوفاً
من روسيا وكانت المشاركة العسكرية الروسية في سوريا قد
رفعت منسوب القلق لدى الرياض.
شنّ خاشقجي حملة على شخص بوتين وقال بأنه «رجل روسيا
القوي الذي لا يرحم، وأسس شعبيته بتحفيز مشاعر القومية
والفخر الوطني الروسي، أشعل جذوة في نفوس الروس تشبه الفاشية،
فعوضهم بذلك عن فشله الاقتصادي وأكبر حال تفاوت في الثورة
في العالم بين فقراء ومتوسطي الدخل، هم أقرب إلى الفقر،
وأقلية حاكمة فاحشة الثراء». وزاد على ذلك بأن قال عنه
بأنه أوغل قتلاً وتدميراً في الشيشان وضم القرم الى الامبراطورية
الروسية «مخالفاً بذلك الشرعية الدولية»، ليصل الى بيت
القصيد «ثم جاء القيصر إلى عالمنا العربي حيث يزعم أن
له فيه «مصالح حيوية»، فدخله من دون استئذان وتربع فيه،
وتحالف مع الأقلية الطائفية وشرع معها يقتل ويستبد ويفرض
أمره الواقع». في إشارة الى التدخل العسكري الروسي في
سوريا، حيث بدت النظرة الطائفية لدى خاشقجي واضحة في تصويره
التحالف الروسي مع سوريا العلوية، مع أن النظام في سوريا
تحكمة أغلبية سنيّة، بما في ذلك المؤسسة الأمنية التي
تتهم غالباً بأنها المسؤولة عمّا أصاب السوريين من ظلم
وقهر..
عدّ خاشقجي الهجوم الروسي على النموذج الاسلامي التركي
بأنه مقدّمة للهجوم على الاسلام السعودي وأنها مجرد «مسألة
وقت، وسيهاجم السعودية ويحمّلها وزر القديم والجديد معاً».
تجدر الاشارة الى أن خاشقجي تحوّل بعد مقالته هذه ومقالات
أخرى مماثلة الى هدف للسخرية من كتّاب آخرين محليين من
بينهم قينان الغامدي في صحيفة (الوطن) السعودية، وتهكم
على نزوعه نحو تبوء موقع المقرّب من صنّاع القرار..
يرى خاشقجي بان بوتين يريد إقامة امبراطورية روسية
تمتد من القرم الى الشام وأن من قطع عليه حلمه هي ثلاث
دول «السعودية وتركيا وقطر». كيف ذلك؟ مع أن هذه الدول
بقيت على تواصلها مع موسكو بعد قضية القرم بل إن السعودية
حافظت على علاقتها مع روسيا حتى بعد حادث اسقاط الطائرة
الحربية الروسية من قبل سلاح الجو التركي، فضلاً عن أن
تملك هذه الدول القدرة على قطع حلم دولة عظمى بحجم روسيا،
والسؤال كيف تمّ ذلك؟
خاشقجي يعتبر اسقاط المقاتلة الروسية في حد ذاته انكساراً
روسياً وليته سأل الرئيس التركي أردوغان إن كان يحمل هذا
الانطباع، وهو الذي تمنى لو لم يتخذ قراراً أحمقاً كهذا،
ويكاد يتوسل للروس بوقف العقوبات المتوالية ضد تركيا.
أما السعودية فإنها بلعت لسانها وأبقت قنوات الاتصال مفتوحة
بل والزيارات الاعتيادية على حالها باستثناء زيارة سلمان
التي أجّلت بعد نشر (البرافدا) المقالة ـ الانذار..
يبدو أن خاشقجي لم يتابع جيداً مواقف القيادة التركية
بعد التصعيد الروسي، ولولا الدعم المعنوي الاميركي والاوربي
لتقدّم بما هو أكبر من الاعتذار، وإن الخسارة الفادحة
التي تلقاها من بعد حادثة اسقاط الطائرة كانت أكبر بكثير
من توقع أردوغان وأوغلو وكل الحكومة التركية. وإن إسقاط
الطائرة لم يغير قواعد اللعبة الا لصالح روسيا التي وجدت
في الحادثة مبرراً لزيادة تواجدها العسكري في سوريا وتكثيف
عملياتها العسكرية وتوسيع نطاقها الى حد أن تركيا قررت
وقف تحليق الطائرات الحربية التركية في الأجواء السورية
فيما استخدمت روسيا استراتيجية محو مناطق داعش سجّادياً..
يجزم خاشقجي بأن حادثة الطائرة الروسية سوف تتكرر،
وعلى ما يبدو فإنه يقصد بحسب السياق الطائرة الحربية،
ويؤكد بأن السعودية في حالة حرب مع روسيا في سوريا «رغم
كل الزيارات والاجتماعات والابتسامات». ويميل الى فشل
مفاوضات فيينا، على قاعدة أن الأطراف المتنازعة لا تجد
سوى التصعيد سبيلاً لتحقيق نصر يحسم الصراع، والحال أن
خاشقجي لم يواكب جيداً الواقع الميداني السوري أو حتى
مواقف الطرفين النظام والمعارضة بعد مرور أربع سنوات على
الأزمة وما فيينا الا لشعور الجميع بالعجز عن الحسم، باستثناء
الأطراف الخارجية التركية والقطرية والسعودية التي تريد
الانغماس في الوحل السوري على حساب أرواح السوريين. اليوم
هناك اتجاه عريض بين صفوف النظام والمعارضة بالندم بعد
تدمير سوريا وأن هناك حاجة الى التوقف، ولكن ذلك يتطلب
وقف التدخل الخارجي..
تمنيات خاشقجي حضرت بسطوة في مقالته كالقول بأن حادثة
السوخوي قد تتكرر، تمنى على الاتراك أن يفعلوها فيسقطوا
سوخوى أخرى أو ميغ. ومن الواضح أنه لم يتابع مواقف الأتراك
وتهديد روسيا. أما قوله بأن شعبية بوتين تراجعت فهو أيضاً
ينم عن ضعف مواكبة لأن شعبية بوتين تصاعدت بعد إسقاط الطائرة
بنسبة عالية..
خسارة الاقتصاد الروسي يبدو أمنية خاشقجية أخرى لأن
الروسي تمكن من تجاوز الكساد وهو اليوم يدخل في مرحلة
جديدة. أما اتهام السعودية بإحداث أضرار اقتصادية لروسيا
بسبب خفض أسعار النفط، فليس بوتين من قال ذلك بل حلفاء
السعودية وقد هلّل جون ماكين لذلك وقال لقد فعلتها السعودية
وأسدت الينا خدمة العمر في ضرب الاقتصادين الروسي والايراني..
ينفي خاشقجي إمكانية لقاء موسكو والرياض في منتصف طريق
سوري، على أساس أن السعودية لديها مشروعها الواضح، وهنا
تبدو الطرفة الخاشقجية بأن يكون مشروعها هو «استقلالها
التام وقيام حكم ديموقراطي تعددي فيها»، في مقابل مشروع
روسي يقوم على «حكم أقلية وتدخل أجنبي دائم، بغطاء انتخابات
كاذبة وديموقراطية تشبه تلك التي في روسيا». بدا خاشقجي
هزلياً الى حد كبير، ولاسيما حين يضع في سلة حكومة بلاده
الاستقلال والديمقراطية والحرية.. وأسهل شيء وأقبحه في
الوقت نفسه حين تتحدث فلانة عن الشرف..
في ختام مقالته دعا خاشقجي الى الحذر من بوتين، مع
عدم الإنسحاب من الساحة السورية، إذ أن الانخراط فيها
لا مناص منه.
|