الصحافة السعودية بين السير للأمام أو النكوص
جمال خاشقجي
أجمل عبارة قرأتها في مستهل مقالة، كانت للكاتب الاستاذ
جميل فارسي عندما علق على زيارة خادم الحرمين الشريفين
الملك عبدالله الشهيرة الى حي فقير في الرياض قبل عدة
أعوام، فكتب الفارسي في صحيفة المدينة الغراء مخاطبا الملك
يحفظه الله والذي كان حينها وليا للعهد بما معناه (عندما
أحنيت رأسك لتدخل من الباب الصغير لبيت ذلك الفقير البائس
المتواضع رفعت رأس كل سعودي).
كان الكاتب يتحدث عن صورة نشرت في صباح اليوم التالي
في معظم الصحف السعودية لسمو ولي العهد انذاك وهو يحني
رأسه ليدخل من باب منخفض لبيت مواطن سعودي معدم، فكانت
صورة اكثر من معبرة، وابلغ من ألف مقالة واكثر اقناعا
من أي بحث علمي عن حالة الفقر في المملكة، لقد وضع يومها
خادم الحرمين بكل شجاعة تلك الحالة تحت الف ضوء وضوء،
كان بإمكانه حفظه الله أن يطلب من وزارة الشؤون الاجتماعية
دراسة للتحقق من حالة الفقر، وأعداد الفقراء ومستوى دخولهم
وأسباب فقرهم، وهناك بالتأكيد عشرات الدراسات، لتنشر في
الصحف ووسائل الاعلام.
ولكن كانت زيارته شخصيا ضرورية، لاحداث الوقع الاعلامي
المطلوب، فاصطحب معه كاميرات التلفزيون ومصوري الصحف،
لا للشهرة او الدعاية فهو اكبر من ذلك ولكن كي يبلغ رسالة
الى كل وزير ومسؤول ومواطن ان بيننا نحن السعوديين المشهورين
بثروتنا النفطية، وعمائرنا الفارهة، وشوارعنا الفسيحة،
وبنوكنا القوية، وصناعتنا المنتشرة، فقراء بائسين لا يشتركون
معنا في رغد العيش او حتى في الحد الادنى من العيش الكريم،
وانه كولي امر على هذه البلاد لا يستحي من الحق، ولا يستنكف
ان يقول ان من بين رعاياي فقراء معدمين، ولو لم يحصل ذلك
الحدث الاعلامي، لظللنا حتى اليوم غافلين عن المشكلة،
نتفاعل معها باستحياء وكحالات منفردة وليس كحالة منتشرة
في اكثر من مدينة وقرية.
بعد تلك الزيارة الشهيرة والتي جرت منذ عدة أعوام،
تحركت اكثر من وزارة وهيئة حكومية كل تبادر الى فعل ما
لمساعدة الفقراء، البلديات باتت تدرس تطوير الاحياء الفقيرة،
وزارة العمل وضعت ابناء الفقراء على خارطة مشاريع التوظيف،
امراء المناطق اهتموا بمشاريع مساكن الفقراء، رجال الاعمال
ساهموا ايضا في مشاريع مماثلة، حتى الجمعيات الاغاثية
التي وصل خيرها الى افغانستان وتشاد وغاب عن احياء تبعد
عنها خطوات انتبهت الى خطئها فوجهت قدراً اكبر من خيرها
للأقربين الذين هم اولى بالمعروف، ولكن الأهم الذي تحقق
من وراء تلك الجولة التاريخية هو الاعتراف بحجم المشكلة
وأنها في اعلى سلم اوليات ولي الامر، والحق ان البطل الثاني
الذي كان له الفضل في تحقيق الهدف الذي اراده خادم الحرمين
الشريفين من وراء جولته تلك هو الاعلام السعودي الذي غطى
الزيارة بالتفصيل، ثم توسع في الحديث بالكلمة والصورة
عن حالة الفقر في المملكة.
من المفارقات انه قبيل تلك الزيارة بأسبوعين فقط اجتمع
مسؤول اعلامي بالقيادات الاعلامية في البلاد وعتب عليهم
اكثارهم من نشر قصص الفقراء وأصحاب الحاجات في صحفهم،
قائلا ان مثل هذه المواضيع تؤثر على سمعة البلاد سياسيا
واقتصاديا، بالطبع قطعت جهينة قول كل خطيب بعد تلك الجولة
التاريخية التي القت بملف الفقر على مكتب ذلك المسؤول
وكل مسؤول، وتحول ثني الصحفيين عن الاهتمام بالفقر الى
حثهم لجعل الموضوع في اعلى سلم اولياتهم.
موقف ذلك المسؤول يشبه الموقف التقليدي الموروث الذي
يقول اليوم، انه كان حريا بصحيفة الوطن التي نشرت الاسبوع
الماضي موضوعا مثيرا مصورا، أثار ضجة لم تنته بعد، كشفت
فيه عن تردي الاوضاع في مستشفى الصحة النفسية في الطائف،
ما احرج بالتأكيد الجميع من وزير الصحة الى اصغر موظف
في المستشفى، ان لو لم تنشر الموضوع فحملت معلوماتها وصورها
فوضعتها في مظروف مغلق، ثم يطلب محررها موعدا مع معالي
وزير الصحة او محافظ الطائف ليطلعه على ما نمى الى علمه،
ولكنها لو فعلت ذلك لخرجت عن اختصاصها، وتحولت الصحافة
الى هيئة رقابة وتحقيق او مباحث ادارية وهنا تداخل لا
يصح للسلطات سيفسد اكثر مما يصلح.
الذي فعلته (الوطن) بنشرها للموضوع هو الشيء الصحيح،
وفي الغالب لم تفعل ذلك إلا بعدما تأكدت من صحة ما لديها
من معلومات ووثائق وصور، وإن لم تفعل تكون قد شهرت وأخطأت
وحري بها أن تحاسب، علماً إن كبار المسؤولين السعوديين
باتوا يشجعون الصحافة على النقد البناء طالما أنه يقوم
على الحقائق، بعيد عن المبالغة، ولا يمس هيبة الدولة ومصالحها
العليا أو يضر بعلاقتها الخارجية.
إن الأخطاء موجودة في كل بلد، وفي كل وزارة، ومن لا
يعمل لا يخطىء، وهي تنتظر من يكتشفها كي تعالج وتقوم،
لا من يخفيها ويلفلفها في مظروف يسر به خفية لمعالي الوزير
أوسعادة المدير بكل ما يحمل ذلك من احتمالات المحاباة
والأغراض الخاصة والتعدي على صلاحية جهات التحقيق والتحري
المعنية أصلاً.
إن هذا التحقيق الجريء الذي نشرته صحيفة الوطن لشهادة
وسام للصحافة السعودية، وبضله ستستعيد الصحافة بعضاً من
دورها المفترض كسلطة رابعة، المهم الآن أن ترفع الصحف
السعودية من مستوى أدائها وتجيد فن التحري والتحقق فيما
تنشره حتى تحمي نفسها ومراسليها ومحرريها من الوقوع في
خطأ التعجل وعدم استكمال الحقائق، والتأكد من المعلومة
من أكثر من مصدر قبل نشرها فإذا أرادت الصحف أن تتربص
خيراً بالإدارات الحكومية تراقبهم وتحاسبهم وتكشف أخطاءهم،
فإن نفس الإدارات ستتربص بالصحف تنتظر منها خطأ تقع فيه
بنشر موضوع يفتقر إلى مصادر قوية أو موثوقة، أو تشوبه
المصلحة الخاصة، والأفضل أن تكون العلاقة بين الطرفين
علاقة مهنية متكاملة وألا يتوقع أحد أنها ستخلو من احتكاكات
واتهامات متبادلة بين آونة وأخرى.
سيتم بالتأكيد علاج الخطأ في مستشفى الأمراض النفسية،
ويحاسب المقصر، ولكن لابد أيضاً من شكر صاحب الفضل الذي
يجب أن يقال له (رحم الله امرءا أهدى إلي عيوبي)، وإن
كانت النفوس غاضبة على الصحافة ولسانها الطويل فلا داعي
للشكر واتركوها تمضي فإنها مأمورة، إنها مرآة المسؤول
وأداته في نشر ثقافة الإصلاح والتطوير.
صحيفة (الوطن) الكويتية - 5 / 10 / 2005م
|