السعوديون الخوارج ونحن.. إلى أين؟
محمد بن علي المحمود
يبدو أنه من قدر الدول التي تقوم على فكرة دينية، أن
يأتي إليها من داخلها من يزايد عليها في الفكرة ذاتها؛
إلى درجة الخروج عليها من خلالها، ووضعها - بعد ذلك -
في موضع الآخر من الخطاب الذي تقوم عليه الفكرة الاولى..
وهذا قانون عام يشمل كل ايديولوجية، وخاصة في مراحل تطورها
الأخيرة.
هذه المزايدة تأتي كنتيجة لمحاولة بعضنا ترسيخ ما أصبح
في الوعي الجمعي من المقومات العامة، أو ما يظن أنه كذلك.
يصبح الأمر بعد كل هذا مباراة خطيرة في التقرب إلى المسلمات
والمثاليات في العرف الاجتماعي أو الديني؛ لا فرق.
دولة الرسالة، ومن بعدها الخلافة الراشدة قامت على
أساس الفكرة الدينية التي بنيت الدولة الإسلامية الاولى
من خلالها. توحيد القبائل العربية، ومد النفوذ الإسلامي
إلى الصين في المشرق وإلى الاندلس في المغرب، كان عن إيمان
عميق بالفكرة الدينية، واستعداد كبير للتضحية في سبيلها.
ونتيجة لذلك تسرب إلى الوعي العام أنها فكرة ذات عائد
مادي ملموس، يتمثل في هذا التضخم الامبراطوري الذي لايزال
يمثل الهاجس الأول للإسلاموية المعاصرة.
التأثيرات المادية ذات الأثر العميق تتوالى على الحواس
المرهفة تجاه هذه الفكرة (المعجزة) التي صنعت الحدث الإسلامي
الأول. الفكرة استنفدت - أو كادت - مخزونها من العنفوان
العسكري، وكان المنتظر منها بعد ذلك أن تحقق شيئاً مختلفاً
عن كل ما سبق تحقيقه في المرحلة الاولى.
مرحلة البناء المدني؛ وتأسيس دولة العدالة، واجهتها
الخروقات الكثيرة في الفترة العثمانية التي تقاطعت مع
الهم العشائري، والتي كانت تنأى بها عن الهدف المكنون
في أعماق تلك الجموع المأخوذة بالمنطق الإيماني.
كان الجمع الإسلامي مأخوذاً بالمنجز الأول، وكان -
من جهة أخرى - متألماً للانحرافات التي تطاله من حيث بنائه
التنظيمي القائم على العدالة الاجتماعية. تلك الانحرافات
كانت تهز الثقة في قدرة النموذج على الاستمرار. وكان هذا
شيئاً مرعباً للمخيال الجمعي. وعلى قدر سذاجة الاعجاب
وعاطفيته، كان التألم يشتد، ويأخذ مساراً غير عقلاني.
وكانت النتيجة أن انفجرت الأوضاع، وعادت العشائرية بأنفاسها
البدائية؛ لتقضي على الأحلام المدنية في مهدها، وتنكص
تلك القبائل الشتات على أعقابها، في رحلة التيه والشتات،
فكراً وواقعاً.
ظهر الخوارج من خلال المزايدة على الفكرة الدينية الأولى
التي تكون المجتمع الإسلامي بواسطتها، والتي يؤمن بها
الجميع. آمن الخوارج بها!، كما آمن غيرهم، ولكن، أصبح
المجتمع الإسلامي - كما يرى الخوارج - كافراً؛ كفراً أكبر،
إما بالأصالة؛ لارتكابه الكبائر، أو بالتبعية لحكامه الكفار.
لم يكن التكفير هنا هامشياً، بل كان موجهاً إلى أحد
رموز الخلافة الراشدة: علي - رضي الله عنه -، وإلى من
تبعه من جماهير المسلمين. لم يكن الأمر سهلاً؛ ولذلك كان
الحل حاسماً على يد الإمام علي - كرم الله وجهه - فعمد
إلى القضاء على الخوارج قضاء مبرماً في معركة النهروان.
وبقدر ما تألم علي - رضي الله عنه - إبان قتاله البغاة
من أصحاب الجمل وصفين، بقدر ما فرح أشد الفرح بقتله الخوارج
المارقين. كان يقاتل البغاة والناكثين وقلبه يحترق، ولكنه
كان يرى هذا القتال ضرورة لا محيد عنها. أما في قتاله
الخوارج، فقد كان مبتهجاً ومستبشراً بأنه الذي جرى على
يديه قتال المكفراتية الذين وردت النصوص بفضل التصدي لهم.
التفريق هنا مهم جداً، إذ إن هذا التفريق يجب أن يكون
محدداً سلوكياً لنا في الموقف من الخوارج المعاصرين.
الموقف من التكفير الخارجي يظهر من خلال هذه الدرجة
العالية من الحسم، مع قلة الخوارج النسبية آنذاك. وهنا
يظهر التكفير - وهو الأهم هنا - كخاصية خارجية بامتياز،
وتظهر خطورته وادراك المجتمع الإسلامي - حتى في خضم صراعه
الدامي على الشرعي وعلى السلطة - خطورته على السلام الداخلي.
كان علي - رضي الله عنه - يقاتل البغاة ويقاتلونه،
ولكن، لا هو يكفرهم، ولا هم يكفرونه. أي كان هناك اعتراف
بالإسلامية من كلا الطرفين. وهذا يعني أن هناك خيطاً من
الشرعية التي يمكن العمل من خلالها في اطار الميدان الإسلامي
الواحد، ومن داخله، لا من خارجه.
أما الخوارج فكانوا يرون كفر علي - رضي الله عنه -
ومن ورائه جماعة المسلمين، من أطاعه ومن عصاه. الفرق هنا
كبير وجوهري ويستحق التأمل العميق، الخوارج هنا ليسوا
جماعة مسلحة خارجة على النظام المتعاقد عليه دينياً أو
اجتماعياً. ليسوا مجرد مجرمين؛ بأي درجة من درجات الإجرام،
كما كان غيرهم من البغاة الذين كانت حربهم من باب حفظ
الأمن والوحدة.
الخوارج أكبر من مجرد مجرمين أو مفسدين، يراد ردعهم
والحد من ضررهم الإجرامي في الفكر والواقع. هم جماعة مؤدلجة؛
تلغي الإسلامية - بكافة مستوياتها - عن المجتمع حكماً،
وتخرج عليه - بالتنظير أو بالعمل المسلح - بوصفه مجتمعاً
كافراً، بل بوصفه كافراً محارباً!
ما ينساه - أو يتناساه - كثير من المنظرين الشرعيين
عندنا، وخاصة المعنيين بالأمر عناية مباشرة، من أساتذة
العقيدة في جامعاتنا، أن الخوارج لم يكونوا حالة تاريخية
مستثناة، وانهم موجودون باستمرار؛ كجزء طبيعي من إفراز
الحالة الإسلامية في أقصى اليمين من طرفيها.
دراسة الخوارج يتم عرضها في مناهجنا، بوصفها حالة بعيدة
عنا في زمانها ومكانها، ولا تدرس بوصفها حالة فكرية وعاطفية
تنمو وتتغذى داخل الجسد الإسلامي. لا يتم التصريح بأنها
حالة نسبية؛ تتلقى خصوبتها - غالباً - في المجتمعات المتشددة
فكرياً، أو التي تميل إلى العنف في سلوكها العام.
ما أؤكده لطلابي دائماً، ويقع منهم موقع الغرابة، أن
الفكر الخارجي حالة ليست ببعيدة عنا. الحالة الخارجية
لها نسبتها الخاصة، وقد تنمو داخل الفرد ببطء؛ دون أن
يشعر، وقد تتسرب إليه من أقرب الأقربين. بل قد يكون أقرب
الناس إليه - والداه أو اخوته مثلاً - من غلاة الخوارج،
ولكنه يستبعد أن يكون هذا القريب الذي يطمئن إليه غاية
الاطمئنان، من الخوارج الغلاة الذين يقرأ عنهم وعن تكفيرهم
ووحشيتهم. لا يكادون يصدقون هذا؛ مع أنهم يعرفون تمام
المعرفة أن الخوارج القدامى خرجوا من صميم المجتمع، ومن
بين أهليهم وجيرانهم؛ لينقلبوا على المجتمع تكفيراً وتقتيلاً.
يصعب على الإنسان أن يتخيل ابنه أو أباه أو أخاه خارجياً
تكفيرياً. هذا الانحراف، ولخطورته التي تتضاءل أمامها
جميع أنواع الجرائم، يعز على نفس الإنسان أن يتحسس وجوده
في الأقربين منه ولذلك يسارع إلى نفي وجوده أو التقليل
من تمدداته الفكرية داخل نسيج المجتمع المسلم. يريد أن
ينكر وجود الخوارج؛ لأنه لا يريد أن يصدق أن من بني مجتمعه
من هم من الخوارج.
هؤلاء الخوارج ليسوا من خارج مجتمعنا، بل هم منه، جزء
من تفكيره وتدينه وشططه. لم يبنوا تصوراتهم على عقائد
ومرتكزات مجهولة من لدن المجتمع الذي يمارسون فاعليتهم
فيه، وانما انفعلوا وتفاعلوا مع مفردات عقائدية هي جزء
لا يتجزأ من المنظومة السلفية التقليدية. نواقض الإسلام
التي كانت - ولا تزال - من محاور التفكير السلفي، ومن
آلياته الرهيبة في نفي الآخر واقصائه، هي ذاتها التي يستخدمها
الإرهابي الخارجي لتكفير الدولة والمجتمع.
قبل أكثر من عشر سنوات، كان أحد المعتدلين يشتكي من
حماس الشباب الذي يصل إلى تكفير الدولة، ولم يكن بَعدُ
قد وصل إلى حلقته الأخيرة في تكفير المجتمع، وكان يقول
لنا: كيف أستطيع الرد عليهم وهم يأتون بنواقض الإسلام
ويطبقونها على الدولة؟ آنذاك لم يستطع أحد أن يقول له:
إن الخطوة الأولى معهم أن تبدأ في مساءلة التراث السلفي
الذي أخرج هذه النواقض، ذات الطابع المطلق التي يستطيع
بها كل أحد تكفير كل أحد، والتي كفر بها معظم الأمة في
فترة من فترات التاريخ القريب. لو قال أحد له هذا الكلام
على هذا النحو من الصراحة؛ لكان - في الحال - ضحية سهلة
للتكفير السلفي؛ لأن (من لم يكفر الكافر فهو كافر) إحدى
وسائل السلفي لإرهاب الممتنع عن التكفير!.
كلنا درسنا، وكرر على أسماعنا مراراً، وعبر وسائل عديدة،
أن من نواقض الإسلام العشرة: اعانة غير المسلم على المسلم.
وقد ترسخت هذه المقولة في العقول؛ نتيجة هيمنة السلفية
التقليدية. ولم يعد أحد يجرؤ على مناقشتها؛ لأنه سيصبح
موضع اتهام. اكتفى المعتدلون بالسكوت عليها، وطبقها البعض
على الآخر، علانية أو بدروسهم الخاصة!.
طبعاً لم يطبقها الجميع على النحو الحاد الذي طبقها
به التكفيريون الخوارج؛ لأسباب كثيرة، ليس من بينها انتفاء
الجهل بالدين عن الذين لم يسارعوا فيها. هذه المفردة،
هي من أهم الحجج التي يتوسل بها الخوارج إلى تكفير الدولة،
ومن ثم تكفير المجتمع بواسطة المقولة الاخرى: من لم يكفر
الكافر (ومرادهم هنا: الدولة؛ لأنها داخلة في الأحلاف
العالمية، أي متعاونة!) فهو كافر (ومرادهم هنا: المجتمع؛
لأنه لم يكفر الدولة).
الأمر واضح تمام الوضوح، لمن يريد الفهم بموضوعية خالصة
من آثار الصراعات السلفية. ولذلك لم يكن غريباً بعد مجيء
القوات الدولية إلى العراق أن يصدر أحد المعتوهين مذكرته
الشهيرة بـ (التبيان في كفر من أعان الأمريكان) والتي
يصرح فيها بتكفير من تعاون مع أمريكا ولو بـ (كلمة) وهو
أحد منظري التكفير المشهورين، وممن لهم أثر معلن في التفجيرات
التي وقعت لدينا.
هذا التكفيري المتخم بالتراث السلفي، والذي يعتبره
الإرهابيون - مع زميليه في الغواية - أحد مرجعياتهم، متسق
مع تراثه الذي يتعامل معه، وهو الوفي - منطقياً - لهذا
التراث المشحون بمقولات التكفير. هو ليس كغيره، ممن يسكت
عن الإرهاب، أو يدينه علانية؛ بينما هو يأبى أن ينتقد
المنظومة السلفية التي يصدر عنها، والتي تصرح بتكفير من
أعان الكفار بأي نوع من أنواع الاعانة!
ولا يتوقف الأمر عند هذا الحد، أي، عند عدم مراجعتهم
لمقولات التكفير داخل منظومة التراث السلفي، بل هم يقومون
بالتصدي لأي محاولة من هذا النوع، أياً كانت درجتها. التضليل
والتبديع، بل والتكفير يطال كل من يحاول الاقتراب من تلك
المقولات المقدسة، التي يتفق بها السلفي مع التكفيري في
التنظير التأصيلي لها، ولكنهما يفترقان في ظروف تنزيلها
على الواقع. البراجماتية هي التي تضع الفرق بين الاثنين.
منهم من يأخذ بها ومنهم من لا يأخذ!
وبصراحة، فالخلاف بينهم ضئيل، لا يتجاوز: هل الظرف
السياسي يسمح بتفعيلها في الواقع أم لا؟. والفرق هنا،
أن التكفيري يقدس مثالية (المراد هنا بالمثالية: تعاليها
على الواقعي) تلك المقولات، فيطبقها مهما كانت الظروف؛
بينما الآخر يخضع للظروف؛ فيرجىء تطبيعها إلى سماحة الظرف
السياسي. وهنا يظهر الأخير بمظهر المداهن. وهي التهمة
الشهيرة التي يوجهها التكفيري الخارجي لزميله السلفي القاعدي.
ليس صحيحاً أن هؤلاء الخوارج يستمدون رؤيتهم من سيد
قطب، بل ربما كان العكس هو الصحيح، كثير من هؤلاء الخوارج
يرون كفر سيد قطب، وقليل منهم يقف به عند حدود التبديع،
حفاظاً منهم على سابقة جهاده. الطائفة المنصورة!!!، ليست
هناك، بل هي هنا!، وكما يقول أحدهم: هي في هذه الهضبة
لا غير.. إلقاؤنا بالتهمة على الغير لا يحل المشكلة، بل
يحتال عليها، ومن ثم يترك لها الفرصة لتتفاقم، وتعود أشد
ضراوة وعنفاً.
هل أستطيع هنا التصريح بأسماء الكتب التي تباع في الأسواق،
وتدرس بالجامعات والمساجد، أو على الأقل يشار إليها كمراجع
معتمدة؛ بينما هي مشحونة بمقولات التكفير السلفي للمسلمين،
ممن وصفوا بالصوفية أو القبورية أو الرفض أو حتى من داخل
التيار الحنبلي، حين افترق الرفقاء؟!!! حقاً لا أستطيع.
فاللوبي التقليدي قادر على قلب هذه الصراحة - المؤجلة
إلى أجل غير مسمى - إلى صورة العدوان على العقائد الإسلامية
ذاتها، ومن ثم، يظهر الذي يمارس الشجاعة فيها، وكأنه يمارس
الانتحار المعنوي، وذلك في سياق تقليدية تضرب بأطنابها
في نواحي الوعي العام المأزوم.
ومع صعوبة التصريح، ففي التلميح ما يغني اللبيب. انها
مراجع تتغيا الصفاء العقدي بزعمها، وتدخل من يتماهى معها
في تصورات متنرجسة غاية التنرجس فيما يخص التصنيف العقائدي.
هي تزعم - أو يزعم التقليدي من خلالها - أنها الوريث الشرعي
للإسلام، وأنها الحق، وما سواها فبدعة وضلال. تصح عقائد
الآخرين بقدر اقترابهم منها، وينحرفون بقدر تذكرهم لمقولاتها.
الجميع يعرف أين توجد هذه التصورات المرضية، والتي تؤدي
إلى نوع من الحدية العقائدية التي تقود في النهاية - بل
وربما في البداية! - إلى التكفير والتفجير.
ومع وضوح البعد الأيديولوجي الذي ينطلق منه هؤلاء الخوارج،
وتحديدهم - بأنفسهم - المرجعية التراثية التي يمتاحون
منها؛ إلا أننا نقف من هذه الأيديولوجية، وهذه المرجعية،
موقف المتسامح في أحسن الأحوال، وموقف المعذر فيما سوى
ذلك من أسوأ الأحوال. هناك (حالة) راهنة من التدين، وهذه
الحالة لها امتداداتها التاريخية التي تتعانق بها مع المرجعيات
التأويلية لهذه الفئة، خاصة في بعض أبعادها. وهذا ما يجعل
تفكيك خطاب التطرف يبقى ناقصاً في كثير من الأحوال.
ولا يخفى على الكثير منا التردد الذي يمارسه بعض العقائديين
لدينا في إدانة الإرهاب بصراحة وقطعية، وذلك بنسبتهم الحالة
الإرهابية إلى الخطأ أو الجهل بالمبادئ المتفق عليها،
لتبرئة المبادئ من تلبسات الحالة. إضافة إلى أن البعض
لم يصدر عنه إلى الآن تجريم واضح وحاسم للإرهاب عامة،
وللإرهاب لدينا خاصة.
هذا التغاضي المريب من بعضهم ليس تجاهلاً لخطر الإرهاب،
بقدر ما هو صيانة للمبدأ المشترك بينه وبين الإرهابي،
أي حماية هذا المبدأ من أن (يميّع) بزعمه. ولهذا ؛ نراه
يستنكر الفعل (الممارسة الإرهابية) دون الخوض في أبعادها
العقائدية على نحو تفصيلي، وإنما بعموميات يكثر فيها مجال
الاحتمال. أي أنه يراها مجرد خطأ في التطبيق المرتبط بسياق
ما.
وفي ظني أن مواجهتنا الفكرية للإرهاب لا زالت هزيلة
في كثير من ملامحها التي تظهر في الساحة الآن. فبينما
حقق الشطر الأمني - ولا يزال - نجاحات باهرة في ميدانه،
نجد أن الشطر الآخر (الفكري) لا يزال متردداً في بعض أطيافه.
إن هذا النجاح الأمني بقدر ما يبهج، بقدر ما يكشف عن رؤيتنا
المحدودة للقضية، وأنها تتجه صوب الأمني المحسوس، أكثر
مما تتجه صوب الفكري المضمر.
ومن المؤسف أن يحدث هذا، مع أن القضية - كما أشرت -
ليست مجرد جريمة منظمة، بحيث يمكن أن يردعها حجم النجاحات
الأمنية، والعقوبات القضائية الصارمة، بل هي عقائدية بالدرجة
الأولى، إلى درجة تجعل المنخرط فيها لا تعنيه النتائج
المتعينة، بقدر ما يعنيه ذات الفعل، بصرف النظر عن مآله
ومآل جماعته.
ومع صعوبة حصر المحاور الفكرية التي يجب التركيز عليها،
من حيث كونها ذات تشعبات عقائدية شائكة، إلا أن هناك بعضاً
من المحاور التي لها طابع العلاقة الخاصة بالموضوع. وبهذا
يمكن أن يكون هذا (البعض) مدخلاً ذا طابع استقطابي، يتم
من خلاله تناول القضية، في الوقت الذي يفتح فيه هذا التناول
المجال لكثير من الإضاءات التي يجب أن يقوم بها المعنيون
ذوو الاختصاص، كل في مجاله. وأهم هذه المحاور فيما أعتقد،
ما يلي:
1 - مفهوم الجهاد. فالجهاد في مقارباتنا الفكرية، لا
زال يطرح بعيداً عن التصورات المدنية المعاصرة. الرؤية
الفقهية التاريخية لا زالت تحكم الطرح الديني في هذا السياق،
وتجبره على أن يحكم الوقائع، أو على نحو أدق تجبر الوقائع
على أن تستجيب - قسراً - للتنظير التاريخي.
إن الجهاد، مع كونه - في صورة من صوره - عملاً تطوعياً،
إلا أنه لا يمكن أن يتم خارج المؤسسة العسكرية النظامية.
أي أن الجهاد في القديم هو المؤسسة العسكرية في الحديث،
مع أخذ فوارق المعطيات المعاصرة بعين الاعتبار. لم يكن
الجهاد - إبان التشريع له - تقوم به جماعات دون نظام.
وكان من يريد الجهاد يتقدم بطلب الانضمام إلى الجيش الرسمي،
فربما قبل طلبه، وربما رد، لسبب عسكري أو لسبب سياسي.
ولم تكن هناك جماعات تطوّع خارجة عن الإطار السياسي، بحيث
تعمل لوحدها، إلا فيما بعد زمن التشريع، وهي من أسباب
الاضطراب الذي لحق الأمة في معظم فتراتها.
وقد عبَّر بعض الفقهاء المعاصرين - وإن بأسلوب مختلف
- عن هذه الرؤية، وذلك في إلحاحهم على أن الجهاد (أي عمل
عسكري هنا) باطل، ما لم يكن تحت راية لها مشروعيتها السياسية،
بحيث يُعرف البعد الاستراتيجي لمثل هذا الحراك العسكري،
كيلا يتم استغلاله لهذه الفئة أو تلك.
ومن العبث أن يتصور أحد - أو يُصوّر له - أن الجهاد
مجرد تطوّع ذي مبادرة فردية، تتحكم فيه الرغبة الخاصة،
بل هو قرار جماعي. ومن يريد الجهاد فعليه بالانضمام إلى
المؤسسة العسكرية النظامية، والتي لم تنفق عليها المليارات
من أموال الأمة وطاقاتها وأوقاتها واهتماماتها عبثاً.
ومن حق المؤسسة أن تقبل أو ترفض طلب مريد الجهاد، وفقاً
لأنظمتها الخاصة، كما كان هذا يحدث إبان التشريع، فليس
كل من تطوع للجهاد تم قبوله، لمجرد أنه يريد ذلك.
إن الوعي المدني ذو طابع مؤسساتي. وخروقات العمل -
أي عمل - التي تتمرد على المؤسساتية إنما هي من بقايا
البدائية القابعة في أعماقنا، وملمح من ملامح الانشداد
الساذج إلى طرائق التفكير العاطفي. ولا شك أن جزءاً من
إشكالياتنا الراهنة تكمن في أننا لا نزال نعوّل على القرارات
والمشاريع الفردية، ولم تترسخ المؤسسة - كبنية - في وعينا
العام بعد.
إن الجيش النظامي قد يمكث وقتاً طويلاً دون أن يخوض
معركة على أرض الواقع. لكن هذا لا ينفي جهاديته، وأنه
من العدة الشرعية، ولكنها العدة (التي لا تتمنى لقاء العدو)
إكمالاً لشرعيتها. ومن البدهيات أن لا مؤسسة عسكرية دون
مرجعية سياسية، مرجعية تنظم لها مشروعية وجودها في البداية
(لأنها حالة عنف تحتاج لتبرير، والدول هي التي تحتكر العنف،
ليتحول إلى عنف إيجابي، أو هكذا يفترض)، وترسم لها طريقها
في معترك الواقع، ذلك الواقع الذي لا تحكمه معادلات القوة
العسكرية فحسب.
2 - في مقاربتنا للظاهرة الخارجية المعاصرة، يجب أن
نُدرك أننا أمام ظاهرة خارجية فريدة من نوعها. فهي بقدر
ما تتفق مع الخوارج الأوائل في العقائد والأصول، بقدر
ما تختلف عنهم في بعض مناحي السلوك. وأقصد هنا الخوارج
المستترون (المكفراتي الصامت)، دون غيرهم من أرباب العمل
المسلح.
لقد كان الخوارج الأوائل صرحاء مع أنفسهم ومع غيرهم،
حتى (القعدة) منهم لم تكن تسمح لهم أخلاقهم بالمداهنة،
واللعب على أكثر من حبل!. وربما كانت هذه هي الحسنة الوحيدة
التي توفرت في الظاهرة الخارجية في طورها الأول. لكن،
خوارجنا اليوم، وخاصة القعدة منهم، لا يمتلكون قدراً من
الشجاعة يسمح لهم بأن يحددوا مواقفهم من المجتمع على نحو
واضح.
إننا نريد أن نعرف من هؤلاء الخوارج القعدة: هل نحن
- أي كدولة وكمجتمع - في نظرهم مسلمون أم لا؟!. هذا السؤال
ليس سؤالاً ترفياً، بل هو مصيري، لنا ولهم. وهم يعون أن
الإجابة عليه بالنفي أو بالإيجاب، تحدد الكثير من الأحكام
التي تحكم علاقتنا بهم. وأنا هنا لا أقصد موقفهم من عموم
المجتمعات الإسلامية، لأنها في تصنيفهم العام - غير المفصل
- كافرة، إما لأنها لا تحكم بما أنزل الله أو تسكت عن
الحاكم في هذا الأمر، وإما لأنها بدعية أو مذهبية أو قبورية
أو حزبية.. إلخ هذا الهراء، وإما لأنها لا تنكر كل ذلك.
3 - يلاحظ أن المعالجة الإعلامية المرئية - في شقها
الديني - تعتمد الوعظ في مخاطبة المجتمع، أو مخاطبة جماعات
الإرهاب، أو المتعاطفين معهم من قعدة الخوارج. والمعالجة
الإعلامية المرئية لها دورها الفعال في محاربة تلك الرؤى
المتطرفة وخلق الرؤى المستنيرة، لأنها لا تختص بشريحة
دون أخرى، ولأنها ذات وسائط مؤثرة في أعماق اللاوعي العام
(الجمعي).
3 - يلاحظ أن المعالجة الإعلامية المرئية - في شقها
الديني - تعتمد الوعظ في مخاطبة المجتمع، أو مخاطبة جماعات
الإرهاب، أو المتعاطفين معهم من قعدة الخوارج. والمعالجة
الإعلامية المرئية لها دورها الفعال في محاربة تلك الرؤى
المتطرفة وخلق الرؤى المستنيرة، لأنها لا تختص بشريحة
دون أخرى، ولأنها ذات وسائط مؤثرة في أعماق اللاوعي العام
(الجمعي).
هؤلاء الخوارج لو اقتنعوا أن الذي أمامهم مسلم لم يقاتلوه،
لأنهم يعرفون - كما نعرف تماماً، ولا يحتاجون لمواعظنا
في هذه الناحية - حرمة دم ومال وعرض المسلم والمعاهد.
المشكلة تبدأ، عندما لا يروننا مسلمين، بل يروننا مرتدين،
يجب إقامة الحد عليهم، ومن ثمَّ فكل المعاهدات التي أبرمناها
مع غيرنا معاهدات باطلة، والمعاهدين بواسطتها لا ذمة لهم
وعهود تحميهم. وبهذا يستحلون دماءنا ودماء المعاهدين من
غير المسلمين، ويصبح الوعظ الساذج بحرمة دم المسلم أو
المعاهد نوعاً من العبث، لا يفي إلا في تزجية أوقات الفراغ
التلفزيوني.
إشكالية هذا الوعظ - إضافة إلى عدم جدواه - أنه يدعم
- دون وعي منه - بعض المرتكزات الأساسية التي تحكم مجمل
الوعي الإرهابي، ومن ثمَّ التنظيمات الإرهابية، كمفهوم
الطاعة مثلاً. وهو مفهوم لم يعد له في المدنية المعاصرة
ذات المفهوم القديم الذي يراد تكريسه، ولكن المنظمات الإرهابية
كافة تعمل من خلاله في خلاياها العنقودية التي لا كينونة
لها بدونه.
4 - خطبة الجمعة كمؤثر إعلامي توعوي، وديني في الوقت
نفسه. هذا المجال الإعلامي لا زال يمارس بمنتهى التقليدية
إلا فيما ندر. لا زال الخطاب السلفي التقليدي هو المهيمن،
من حيث مجمل الرؤى، ولا زالت طرق معالجة الحدث الراهن
تنحى منحى لا يمت إلى معطيات الواقع بصلة، بل هو اجترار
للماضي، وقائع وأفكارا. ومعنى هذا: أن الخطبة لا تزال
تعوّد الجماهير على الآلية نفسها التي تعود المتطرف فيها
أن يتناول واقعه ونصوصه. فلا خلاف - إذن - في طبيعة التفكير،
وإنما في توجيهه!
كل من يصلي الجمعة! يدرك أن وزارة الشؤون الإسلامية
لم تكثف رقابتها على خطبة الجمعة، من حيث كونها ليست تعبيراً
عن رأي فردي، ذي طابع فكري عام، لا يجوز تجييره للرؤى
الخاصة. والواقع يحكي أن المنبر الديني العام أصبح مجالاً
لاجتهادات الخطباء الكرام، وكل واجتهاده!. ولا يخفى أن
(كثيراً) منهم يقوده الحماس العاطفي أكثر مما يقوده منطق
الاجتهاد الفكري، هذا إن كان قادراً على الاجتهاد!
ولا حل لهذه الإشكالية - فيما أرى - إلا بأن تصاغ الخطب
والأدعية المرفقة على نحو مؤسساتي، منظم من قبل مختصين
- دينياً وفكرياً وسيكولوجيا - دائمين، لا مرحليين، تكون
وظيفتهم كتابة الخطب المتنوعة، والمتباينة طولاً وقصراً.
ولابد أن تكون على مستوى عال من الاتساق فيما بينها، كي
لا يتناقض الخطاب الديني كما هو واقع الحال.
ولن يواجه الخطيب أي حرج، عندما تكون هذه الخطب على
درجة عالية من الكثرة والتنوع، بل ستجنبه حمل عبء أمانة
الاختيار!. كما لن يواجه الجمود الفكري الذي يخشاه البعض،
إذ أن ذلك يستدعي أن يشارك الخطباء المتميزون في صياغة
الخطب المقررة على الجميع، وسيكون الحافز في هذه الحال
أشد، لاتساع دائرة المستفيدين.
بهذا الاقتراح - فيما لو تم تفعيله - نقضي على الاجتهادات
الفردية التي تزرع الاضطراب في الشأن الديني، وهو الشأن
الذي يتغيا - في مقاصده العامة - الاتحاد والاتساق في
الخطوط العريضة (المصيرية). ولا شك أن هذا سيقلل من حجم
السلبيات، التي بقيت الوزارة المعنية عاجزة عن متابعتها
إلى هذه اللحظة.
5 - المؤسسة الأكاديمية لا زالت تواجه الكثير من الحرج،
وخاصة مع بعض الأقسام الشرعية، والعقائدية منها على وجه
الخصوص. لا زال كثير من منسوبي هذه الأقسام - وبعضهم له
جماهيره الواسعة خارج الحرم الأكاديمي - لم يحدد موقفه
على نحو واضح من الإرهاب، وخاصة من شيطان الإرهاب الأكبر
(بن لادن) ويسرون أكثر مما يعلنون، بل يتخذون المنابر
الجامعية التي يتقاضون على سد فراغها أعلى الرواتب قنوات
تأثير في العقول الناشئة، ويجعلون الإرهاب - من خلالها
- جهاداً، أو في أحسن الأحوال، جهاداً في غير موضعه!
لماذا لا تتم صياغة وثيقة عامة تُجرّم الإرهاب، وتدين
المنظمات الإرهابية بأسمائها، وتحدد رؤوس العمل الإرهابي
العالمي بأسمائهم، حتى لا يكون هناك مجال لخلط الأوراق،
وبعد ذلك تعرض على من يتصدون للتأثير في الرأي العام من
خطباء وأساتذة جامعات، ليوقعوا عليها، ومن ثمَّ تعلن أمام
الجماهير. ومن يرفض. فعليه أن يحدد - بوضوح - سبب رفضه،
ليميز الخبيث من الطيب.
6 - هناك (فئة) تعلن عن نفسها بين الحين والآخر، وتزعم
لنفسها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتجتمع في هذا
المكان أو ذاك، لتصدر بيانات الاعتراض، ولتقدح في الأشخاص.
هذه الفئة، هي من مروجي البيانات، ومجمل خطابها يسعى لطلبنة
المجتمع. فمنذ قرار (الدمج/ دمج الرئاسة العامة لتعليم
البنات في وزارة التربية والتعليم) وإلى هذه الساعة لم
يقر لها قرار، وهي - في كل اعتراض - تصور المجتمع في صورة
لا تبتعد كثيراً عن تصوير جماعات التكفير والهجرة لمجتمعاتها.
نشاطها الميداني موجود، وهي خطرة، حتى على علماء الدين
الرسميين الذين لا يوافقونها، كما أن نشاطها عبر وسائل
الإعلام السرية (الإنترنت) أصبح كبيراً، إلى درجة تقترب
من الهيمنة على بعض المواقع. لا بد من تعرية مقولاتها
علانية، كما أنها تطرحها علانية. لا بد من كشف روح الوصاية
التي تتلبس سلوكها، حتى لا ينخدع بدعايتها من تأخذ بلبه
ومضات الزيف، لمجرد أنه موشح بالنصوص.
الرياض ـ 5، 12/1/2006
|