سجال الديموقراطية:
قلق الاستبداد لا يبرر التعطيل!!
عبدالله القفاري
ثمة سجال يتحرك في دائرة القلق، بين المبشرين بالديموقراطية
كحل وحيد لتحريك عجلة الإصلاح وبين مريديها والخائفين
منها في آن.. وليس من المفارقات الغريبة اليوم، أن يكون
بعض دعاة مشروع الإصلاح بالديموقراطية هم أول المذعورين
منها.
ثمة سجال محلي وعربي، يدور بين بعض النخب - وفي أحيان
كثيرة على استحياء - حول مشروع الديموقراطية بكل تجلياتها
وآلياتها، خطواتها الصغيرة أو الكبيرة، حول امكانية أن
تصبح تلك الخطوة نافذة لتحريك عجلة الإصلاح أم تقدم مشروعية
جديدة لتكريس عناصر التخلف أو الانتكاس.. ولأن الديموقراطية
كما نفهمها ويفهمها دعاتها لا يمكن أن تكون سوى تعبير
عن هاجس الأكثرية في قدرتها على إيصال صوتها للمشاركة
في صناعة قرار وطني، يمس مصالح المجموع، وكذلك في الرقابة
الأجهزة التنفيذية والحد من سلطاتها المطلقة أو شبه المطلقة..
فإنها لن تكون في ذاتها اشكالاً يستوجب التنازع سوى في
عقول لا تؤمن سوى بالاستبداد وسيلة لإدارة المجتمعات،
وهذه المجموعات أو التيارات لا علاقة لها بحالة سجال ينطلق
من داخل دائرة الإيمان بمشروع الديموقراطية كحل، التي
هي محور السجال ومادته.
ينطلق السجال من دائرة التيار الليبرالي، فهو لا يمكن
أن يكون ضد الديموقراطية كمبدأ في إدارة المجتمعات، لكنها
يخافها أيضاً، وفي مجتمعات تكاد تكون تيارات الإسلام السياسي
هي الأقرب إلى مزاج الناخب، وهي التي تحركت في الآونة
الأخيرة ونشطت لتقدم نفسها عبر أي صندوق اقتراع ممكن،
تصبح ورطة التيار الليبرالي أشد، فهو لا يمكن أن يرفض
صندوق اقتراع لكنه أيضاً يدرك أن لا ضمانة أن يفرز صندوق
اقتراع غالبية كافية لإيقاف أي مشروع يستهدف بعض المقومات
التي ينطلق منها خطاب ذلك التيار أو تمثل رؤيته في إدارة
المجتمع.. بل إن المخاوف تتسلط عليه عندما يتصور أنه سيضحي
حتى ببعض المكتسبات التي تضمنها له سلطة تعمل على توازنات
لا تخفى ملامحها.. بغض النظر عن الانتهازية السياسية التي
تستهدف - أحياناً - إبقاء المجموع في دائرة القلق.. حتى
لو ترتب على هذا تعطيل مشروع إصلاح تحت ذريعة عدم جاهزية
المجتمع للقبول بصيغة توافق.
ولذا لا يتردد بعض المثقفين الليبراليين عن محاولة
إعطاء دروس تمهيدية لسنة أولى ديموقراطية، تحت أيضاً حجة
أن المجتمعات العربية ليست مهيأة للاستفادة من مشروع إصلاح
يأتي عبر صناديق اقتراع، لأن النتيجة معروفة سلفاً.. ولذا
لا بد من وعي سابق يطال البنية الثقافية للمجتمعات حتى
تكون قادرة على المشاركة في صناعة قراراتها، فلا تستغل
عواطفها الدينية أو نزعتها المحافظة أو علاقاتها العشائرية
للاستيلاء على صندوق اقتراع يبدد حتى المكتسبات البسيطة
التي خلقت حالة توازن تميل أحياناً لصالح تلك المجموعات
أو تلك.
ويظل درس الديموقراطية درساً شائكاً، فلا يقول هؤلاء
من سيهيء عقل ناخب لاختيار الأصلح وفرز وجه المرشح، ومن
عليه أن يقود الآخر، هل هو الوعي الذي لا نعرف من سيعمل
على مشروع تعميمه، أم هي الديموقراطية التي عليها أن تصلح
أخطائها وتمارس تجاربها، وتعيد كل مرة تقييم أدائها وتبدل
وجوه مرشحيها.
هذه المسألة مثل أحجية البيضة والدجاجة، هل الوعي بالشأن
العام والانهماك في مشروعه هو الذي يصنع ديموقراطية جيدة،
أم هي الديموقراطية مهما كانت نتائجها الأولية هي التي
تعالج أخطاءها عبر وعي يتشكل مع الممارسة يتخذ صفة التراكمية
التي تعزز مشروعها ولا تخذله.. لكنا إذا كنا لا نملك مشروعاً
كبيراً يترتب عليه استنهاض وعي الناخب - الذي لا أراه
قاصراً كما يظن الكثيرون تحت دعاوى أن المجتمعات العربية
في هذه المنطقة ما زالت رهينة مشاعرها وعلاقاتها وجذورها
القبلية أو العشائرية أو المذهبية - فلن يكون الحل بعدها
سوى التجربة المتدرجة التي تخضع لبرنامج زمني وتصلح أخطاءها
بالتجربة لا باستباق النتائج وتعزيز دائرة القلق وتوفير
ذرائع التعطيل.
على المستوى المحلي يتردد هذا القلق بين بعض النخب
الليبرالية الضيقة، وعلى مستوى عربي أوسع تظل هناك - وإن
على مستويات مختلفة - ذات المخاوف.. وإذا كان الإصلاح
السياسي والاقتصادي والاجتماعي عبر توسيع دائرة المشاركة
هو الوسيلة الوحيدة اليوم مهما كانت نتائجها، فالتوافق
حول صيغة ديموقراطية وضبط كل تلك العناصر ضمن آلية تستمد
من مشروع ملامح يمكن التوافق عليها هو الأكثر جدوى من
حالة قلق الرؤية التي لن تكون محصلتها النهائية سوى مزيد
من التعطيل والتشكيك دون أن تكون ثمة بدائل أكثر جدوى.
الذين يعتقدون أن النموذج العراقي يقدم إدانة كبيرة
لحالة مجتمعات غير مهيأة للديموقراطية هم يخونون ضمير
المثقف، فالحالة العراقية على سبيل المثال ليست سوى نتيجة
لكشف غطاء المرجل عن عهود طويلة من القهر والاستبداد،
الأمر الآخر أن ذلك المخزون الثقافي الذي شكل توجهات وقراءات
الناخب في عراق اليوم هو نتيجة طبيعة لغياب طويل لأي منظومات
عمل سياسي ومؤسسات مجتمع مدني، وهو إدانة لنظام شمولي
سابق قبل أن يكون لخيارات ناخب لا يميزه الآن سوى وجهه
المذهبي أو العرقي، هو إدانة لعقود من الاستبداد والظلم
وغياب الحريات الطبيعية حتى أصبحت الطائفة أو الجماعة
العرقية هي البديل الأخير والوسيلة الطبيعة للتدرع بها،
فهي بقيت جزءا من تكون وثقافة مجتمع غير قابلة للمحو بينما
توارت كل الفعاليات السياسية وتكوينات المجتمع المدني
التي لها قابلية احتواء أطياف المجتمع تحت ضربات وحصار
نظام الاستبداد ومخاوفه وصراعاته.. الأمر الآخر الذي يتم
تجاهله أن الحالة العراقية اليوم هي أيضاً نتيجة صراع
قوى دولية وإقليمية لم تسلم بعد بوجه العراق الجديد وهي
تملك أوراقاً كثيرة لتجعل من حلم التعددية والحرية والديموقراطية
كابوساً أمام متطلبات الأمن والسلم الاجتماعي.
في الحالة العربية لا يمكن أن تكون ثمة ديموقراطية
على نحو يمكن التماس تفاصيلها في برامج وطبيعة ديموقراطيات
العالم الغربي، فللمنطقة تاريخها وثقافتها الفاعلة والمتفاعلة
مع تكويناتها المذهبية والعرقية والطائفية، ما نحتاجه
الاعتراف بتعددية تحترم حق الآخر ولديها قابلية للتوافق
على مشروع وطني يضمن التقدم خطوة للأمام من أجل إقرار
حقوق الإنسان الطبعية في حياة كريمة وحرة، وما نحتاجه
أيضاً شراكة حقيقية في صناعة قرار وطني وتمثيل حقيقي يخرج
المواطن العربي من كربته وحنقه واحتباساته إلى ملء الاعتراف
به مواطناً له حقوقه وواجباته التي يضمنها دستور لها احترامه
وحراسه، ما نحتاجه رقابة حقيقة على الأداء ومحاسبة دقيقة
لمن يتسنم مسؤوليته.. وتلك من العناصر التي تتوافق عليها
كل الأطياف والتيارات الوطنية في أي قطر عربي، وتبقى مساحة
الاختلاف ضمن حدود التوافق وضمن دائرة مشروع، ولا يجب
أن تتحول إلى دائرة قلق تحول دون التقدم بخطوة لابد منها
اليوم ولن يكون تأخيرها أو تعطيلها تحت أي من تلك الدعاوى
سوى التمهيد البعيد لحالة ربما يكون من المتعذر علاجها
بما يمكن أن يكون عليه الحال اليوم.
سجال الديموقراطية، تعززه اليوم حالة مبشرة، فالإسلام
السياسي في أكثر من قطر عربي يقدم استعداده لحالة توافق،
وليس من المنظور أن يتحول إلى حالة استبداد جديد كما يخشاه
بعض الليبراليين المسكونين بالخوف من الآخر والذين يستعيدون
بمناسبة وبدون مناسبة نموذج دولة الطالبان في مقارنات
أقل ما يقال عنها انها لا تعبر عن حقيقة التطور الذي حدث
في منظور الإسلام السياسي الذي تعبر عنه تيارات وأحزاب
وجمعيات تؤمن بالتعددية وتعترف بحق الحرية وتريد شهادة
صندوق اقتراع.. والتيار الليبرالي الذي اعترف بهذه الحقيقة
يحسب له أن يمد يده لتلك الرؤية التي تستهدف تعزيز إجماع
وطني حول الأولويات.. ليس الحديث اليوم عن تيارات مغلقة
وذات نزعة راديكالية.. إنما الحديث حول تيارات ترى نفسها
ضمن محيط عربي يعج بالاختلافات التي لن تحسمها سوى حالة
توافق حول مشروع وطني ولن تكون التعددية والمشاركة والاحتكام
إلى صندوق اقتراع والتوافق حول مفاهيم ديموقراطية أساسية
تحت حماية دستور أو نظام.. لن يكون هذا سوى الحل الوحيد
رغم ما يكتنفه من عقبات وصعوبات.. ورغم ما يثيره البعض
من تحفظات حول نتائج الديموقراطية في مجتمعات غير ديموقراطية..
والدرس الأول في الديموقراطية انها مسؤولة عن إشاعة ثقافتها
ومسؤولة أيضاً عن معالجة أخطائها.. وسواه لن يكون هناك
حل سحري ولا مستبد عادل ولا مشروع شوفيني أو قومي آخر
لطالما أشبع الناس في هذه المنطقة احلاماً.. لكنه لم يوفر
لهم خبزاً أو كرامة..
الليبرالي الجيد، هو ديموقراطي جيد، وعليه أن يعترف
بنتائج صندوق اقتراع، ويحترم إرادة الناخب، ما دامت تلك
النتائج تعمل على حماية مشروع توافق واستنهاض برغم كل
تلك الاختلافات حول بعض التفاصيل، المهم أن لا تتحول نتائج
ذلك الصندوق لحالة استبداد جديد وهذه يمكن ضمانتها بحراسة
الدولة لمفاهيم النظام العام وحق المجتمع وحرياته وصيانة
مكتسباته.. والإسلامي الحركي اليوم يتحول إلى ديموقراطي
جيد طالما اعترف صندوق الاقتراع بحقه في الاختيار، فالمسألة
ليست تشريعاً مخالفاً لنص ثابت في كتاب أو سنة فتلك مسائل
يمكن حسمها، والاجتهاد اليوم في مجال العمل الديموقراطي
اجتهاد من أجل اقرار حقوق والتوافق على مشروع وطن يسع
الجميع ليعيش بكرامة وحرية مهما تباينت التفاصيل وتلك
ملامح علينا أن ننزه عنها تشريعاً مقوماته لا يمكن أن
تضطهد هذا الإنسان أو تحد من حرية اختياره أو تؤطره بمفاهيم
لها طابع الاجتهاد والرؤية لا الثابت والمطلق.
الرياض 23/1/2006
|