الرمز والترميز في الذاكرة الإسلامية
محمد بن علي المحمود
لم يكن الإسلام استثناء من الأديان السابقة عليه، في
احتفائه بالرموز الدالة، سواء كانت تلك الرموز صناعة إسلامية
خالصة، أو كانت تتعانق مع المشترك الديني في ثقافة الآخر
الدينية. احتفاء الإسلام بالترميز لا يخرج به عن الخصوصية
الإسلامية؛ بقدر ما يدعم بعده الديني في الطبيعة البشرية
التي اعتادت على التعاطي مع الظاهرة الدينية بأكبر قدر
من الترميز الذي يضمن بقاء الذاكرة حية، كضمان لاستمرار
الاستقرار النفسي للجماعة.
الترميز ذو ارتباط بالحالة الدينية في مبادئها العامة،
باعتبارها مبادئ متعالية من ناحية، ومن ناحية أخرى، فهي
مبادئ ذات طابع ثبوتي، تتخذ من القدامة قدسية خاصة، بحيث
تستولي على وعي - ولا وعي - الفرد والجماعة. الدين، بوصفه
الثابت الروحي الذي يحد من ضراوة المتغير الواقعي، ويحفظ
التوازن بين عالمين متضادين من حيث الثبات والتحول، يستعين
بالرمز والترميز؛ ليعطيه هذا الخلود الضروري لعالم الروح.
كون الدين والتدين حالة سابقة للإسلام، يعني ان الإسلام
أتى مرتبطا بما سبق من تصور راسخ للدين - كحالة -. كما
انه - من جهة أخرى - مرتبط بالواقع المتعين اشد الارتباط.
وهذا ما تصوره اسباب النزول، وعلل الاحكام. هذا الواقع
الذي كان - على صورة ما - سببا للنزول، هو واقع محكوم
بشرطي: الزمان والمكان. ولقد كان الزمان والمكان مجالين
واسعين لتصورات دينية سابقة، تصورات رامزة، تملأ فراغات
الروح والواقع. اي ان هناك حالة تدين سابقة، يأتي الإسلام
متقاطعا معها، بكل ما فيها من شمولية وثبات.
من حيث المبدأ، لا بد من دين، والدين لا بد له من رموز.
والبداية لا تكون الا من خلال الاتفاق على هذه الأرضية
(المسلمة) التي لا بد من الاشتغال عليها، والعمل من خلالها،
ولن يكون إلغاؤها إلا إلغاء للدين الجديد. ولهذا، لم يكن
هناك إلغاء عام لفعل الترميز، بل ولا لجميع الرموز السابقة،
بل جرى تحويرها أو تعديلها؛ لتخدم المعنى الجديد.
هكذا كان التعاطي من قبل الإسلام أكبر الرموز الدينية
عند العرب. الرموز الشخصانية، والرموز المكانية. ولقد
كان (الحج) عالما مليئا بهذه الأنواع من الرموز. الخليل
(إبراهيم) و(إسماعيل) - عليهما السلام، كانا حلقة الوصل
بين الإسلام والماضي العربي. هذه الرموز الشخصانية التي
كانت حاضرة بقوة، فضلا عن غيرها من الرموز الشخصانية التي
كانت حاضرة في وعي أتباع الديانتين: اليهودية والنصرانية.
المكانيات: (مكة/أم القرى)، و(الكعبة)، و(الحجر الأسود)،
و(مقام إبراهيم)، و(عرفات)، و(منى)، و(مزدلفة)، (الجمرات).
هي شعائر الله التي تتطلب التعظيم، أي منحها أكبر قدر
من الترميز. أيضاً (المسجد الأقصى) و(الطور).. إلخ عند
غير العرب كانت ولا تزال حاضرة كرموز مكانية. لكن الإسلام
تعانق معها كرموز توحيدية، بصرف النظر عن معناها الرمزي
عند الآخر. كل هذه رموز مكانية كانت موجودة من قبل في
الذاكرة الجمعية، وعزز الإسلام من رمزيتها؛ لأن الترميز
من وظائف الديني التي تمنحه الخلود في ذاكرة الأجيال.
الإسلام يحتفي بالمكان كرمز دال؛ لأن رمزية المكان
ذات طابع ثابت غير منقطع، عكس الزمان الذي لا يرمز إلا
بتقطيعه، وتصنيفه إلى فاضل ومفضول، وإن كان الإسلام يعدل
- أحيانا - من اتجاه الدلالة، إلى درجة التضاد بين الدلالة
الرمزية الأولى، والدلالة التي يخلقها الإسلام من جديد؛
لتتسق مع كلياته العامة التي يسعى لتثبتها عبر وسائل كثيرة،
ليس الترميز بأقلها. يظهر ذلك في: «أحد جبل يحبنا ونحبه).
الحال في الزمانيات: حدث هذا لأشهر الحج، والأشهر الحرم
عند العرب، وعاشوراء عند اليهود، وكموعد: عودة المسيح.
وأضاف الإسلام زمانياته الخاصة الخالصة به، كرمضان، وليلة
القدر، والعشر الأخيرة من رمضان، والأولى من ذي الحجة،
ويوم الجمعة. وبعض هذه الزمانيات، ترتبط بذكريات سعيدة:
انتصارات، نزول القرآن. فهو احتفاء تعبدي بزمن خاص، تحقق
فيه للإسلام والمسلمين أكبر قدر من المكتسبات المعنوية
أو المادية.
الأفعال - أيضاً - تدخل في فاعلية الترميز، كما في
أفعال الحج خاصة. فعل (النحر) كممارسة تعبدية موغلة في
رمزيتها أقرها الإسلام، بل ودعمها، بعد أن قام بتحويل
اتجاهها. قصص الأنبياء (أفعالهم وأفعال الجماعة المؤمنة)
كانت محل احتفاء الترميز الإسلامي، ولم يكن الهدف من إيرادها
تشريعيا، بقدر ما كان ترميزيا «نثبت به فؤادك» فالبعد
الوجداني الذي هو الهدف الأسمى للترميز كان غاية القصص
القرآني.
من خلال كل ما سبق، يمكن أن نؤكد أن الإسلام مع فعل
الترميز من حيث المبدأ، وليس ضده، كما يتوهم بعضنا، أو
كما يريد أن يتوهم. يرفض بعضنا عيد الأم، أو اليوم الوطني،
أو المولد النبوي، أو ذكرى انتصار ما؛ مرتبط بزمان أو
مكان. كل هذا الرفض يتم تحت دعاوى منع الابتداع.
إذا كان الاحتفال بهذه الذكريات الرامزة، يراد بها
بعدا تعبديا؛ فأنا مع السلفي في موقفه الرافض لها. لكن،
ماذا لو كان المراد منها وجدانيا عاما، يعزز البعد الديني
أو المدني، هل يصبح الرفض هو الموقف المناسب. ماذا لو
كان احتفالي بعيد الأم - مثلا - لا أقصد به منحى تعبديا،
وإنما أريد به تعزيز العاطفة نحو الأم، أو تعزيز العاطفة
نحو الوطن، أو نحو النبي أو نحو فن من الفنون - كيوم الشعر..
إلخ، هل يكون محرما في هذه الحال؟
إذن، هذا الترميز، وإن قصد به في النية العامة (وجه
الله) أي غاية نهائية تعبدية، إلا أنه لا يدخل في الديني
الخالص الذي يجب أن يبقى توقيفيا على ما شرع الله. وعدم
الوضوح في هذا الفصل، يجعل الحكم بالابتداع سهلا، ويمكن
أن يطال جميع مظاهر الحياة بلا استثناء؛ لأنها في المقصد
النهائي عند المؤمن تعبدية، حتى وإن كانت مدنية خالصة.
لهذا، فإن الهياج السلفي الذي يظهر عند كل مناسبة من المناسبات
العامة ذات الطابع الاحتفالي، يجب أن يقف عند حدود الديني
الخالص، ولا يمنع الممارسات المدنية - وإن تمظهرت دينيا،
فضلا عن الاحتفاليات المدنية الأسرية والوطنية - بدعوى
الابتداع المحرم، وهي الدعوى التي لا تزال تخنق الحراك
الاجتماعي والوجداني لدينا.
الرياض/ 13-4-2006
|