مشكلة الحريات الفكرية والصحفية في السعودية
منصور النقيدان
مشكلة الحريات في السعودية ملتبسة ومعقدة يتداخل فيها
الديني بالسياسي، والأمني بالفكري، وضمن هذه الخلطة يجد
الوشاة والمتزلفون وشيوخ السلطة دائما صيدهم الثمين ويتمكنون
من توجيه حرابهم إلى ظهور الآخرين. والمدهش في الأمر أنه
بإمكان أي شخصية نافذة دينية أو سياسية أن تقوم بالمنع،
ولكن من يسمح بالكتابة بعد المنع هو جهة واحدة. مؤخراً
أصبح المنع غالبا ما يجري إما بتعميم وزارة الإعلام (السرية
للغاية) أو بالتفاهم الشفهي مع الصحف وهو الأغلب، من دون
التعامل المباشر مع الكاتب كما حصل مع الكاتبين السعوديين
أستاذ الاجتماع السياسي خالد الدخيل والروائي تركي الحمد.
وفي حالات نادرة حينما يتمرد الكاتب بأن يتجاوز المنع
خارج الأسوار في صحيفة دولية أو عبر قناة فضائية، يجري
سحب جوازه ومنعه من السفر، كما حصل مع حسن المالكي أحد
نقاد السلفية. وتبقى دائماً إمكانية السجن أو التوقيف
ثم المحاكمة تحكمها مكانة الكاتب، فإن كان مشهوراً ومؤثراً
أو تحت أضواء الإعلام الدولي شكلت تلك حصانة له. أما إذا
كان ثمة شكاوى من شيوخ الدين فإن ذلك يشكل إحراجاً وضغطاً
كبيراً على القادة السياسيين، وفي أحوال نادرة يتم الاكتفاء
بعقد مجلس للكاتب للوصول إلى صيغة ترضي الشيوخ، وإلا جرى
إرضاؤهم بكبش فداء أكثر تواضعاً يذهب غيظ قلوبهم، حيث
تجري محاكمته وسجنه.
في السنوات الأربع الماضية كانت دائماً مطالب الشيوخ
ودعمهم للسلطة في حربها على الإرهاب مقروناً ومشروطاً
بمنع كتاب معينين، أو منع الكتابة عن قضايا دينية معينة.
القضاء كان دائماً ألعوبة في أيدي كبار المسؤولين من جهة،
ومنفذاً للأحكام التي تمليها الأجهزة الأمنية من جهة أخرى.
والمتابع لمجريات محاكمة الإصلاحيين يرى الفوضى التي صاحبت
جلساتها، والتلاعب في الأنظمة واللوائح.
وقبل خمسة عشر عاماً في سجن الحائر (جنوب الرياض) لفتت
انتباهي عبارة كتبت على طبقة رملية رقيقة راكمتها الرياح
فوق أرضية الساحة الإسفلتية، كانت العبارة هي ''قُتل الشهيد
صادق''. بقي الوضع مثيراً للاستغراب بعد تكرار كتابتها
في أماكن عدة. لم يلفت انتباهنا أن الصحف صباح ذلك اليوم
لم تدخل علينا، ولا أن التلفزيون كان مغلقاً مساء الجمعة
ساعة بث نشرة الأخبار الرئيسية والوحيدة يوم 12/9/1992.
بعدها بأيام حصلت لدينا أخبار مشوشة من أحاديث جرت
خلسة وبعيداً عن أعين السجانين مع أبناء المذهب الشيعي
الذي كان السجن يحوي عشرات منهم، ملخصها أن صادق قتل لأنه
كان شيعياً فقط، ولأنه رفض أن يقر ببطلان عقيدته أمام
المحققين والقضاة، بعد سلسلة من الدسائس والوشايات. مرت
الحادثة علينا مرور الكرام لأننا من جهة لم نأسف حينها
على قتل إنسان يحمل عقيدة تمثل بالنسبة لنا مذهباً معادياً
مشبوه النشأة.
بعدها بفترة قصيرة جداً كانت الزنازين قد ضمت بين جدرانها
مؤسسي لجنة الدفاع عن الحقوق الشرعية.. وكالعادة كانت
حزم من التهم مشفوعة بعشرات السياط والعصي قد انهالت على
قدمي د. محمد المسعري أستاذ الفيزياء النظرية السابق في
جامعة الملك سعود، لحمله مكرهاً على الإقرار بأنه يؤمن
بخلق القرآن، ويدين بعقيدة المعتزلة.
لعقود كانت يد الأجهزة الأمنية تطال دائماً بالإيقاف
والاعتقال والتجريم كل من دارت الشكوك حوله أو خرج عن
المألوف سياسياً أو دينياً، أو طائفياً، أو مذهبياً، إما
لمقالة نشرها في صحيفة محلية تمر على حين غفلة من الرقيب،
أو لبحث أو كتاب قام بنشره، أو بسبب كلمة ألقاها في محاضرة،
أو تعليق على ندوة أو محاضرة في مسجد، أو بسبب تعليق في
قناة فضائية. وفي عام 2001 ألقت أجهزة الأمن القبض على
د. سعيد فالح الغامدي بعد مقال نشره في صحيفة الوطن أشاد
فيه بالزعيم المصري جمال عبد الناصر، وقد دوهم منزله وأهين
أمام أبنائه وأوقف أياماً، جرى منعه بعدها من الكتابة.
كانت حساسية الحكم دائماً من أي تجمع ذي صبغة حركية
أو تنظيمية باعثاً لمعاملة أقسى وإجراءات أكثر صرامة وعنفاً،
غير أن أهواء الشخصيات النافذة وأحقاد المسؤولين الفردية
تبقى أيادي خفية ضمن منطقة معتمة يصعب تمييزها عن الأحكام
القضائية المتناقضة الصادرة من جهاز ظل دائماً في انتظار
ما تمليه رغبة ولي الأمر. يوم الاثنين 8/8/2005، استدعى
المدير العام للمباحث إلى مكتبه أربعة إصلاحيين من زنازينهم،
كان قد جرى اعتقالهم لمدد تتراوح بين عشرة شهور وسنة ونصف
السنة، إثر تقديمهم لعرائض تضمنت مطالب إصلاحية تستهدف
جوهر نظام الحكم السعودي، وقال لهم بالحرف الواحد (إن
الملك عبد الله اتصل بي، ويبلغكم السلام، ويأمرني بإطلاق
سراحكم من دون أية شروط أو تعهدات) وهو يقول لكم (أنتم
وضمائركم). وبعد يومين أقلت طائرة ثلاثة منهم الى جدة
وقاموا بالسلام على الملك، وكانت حالة استثنائية تمثل
انقلاباً في تعامل الحكم مع أشخاص كانت بيانات وزارة الداخلية
طول فترة اعتقالهم تصمهم بالتعامل مع الأجنبي، وتلمح إليهم
بالخيانة، وإلصاق شتى التهم التي لم تكن تدعمها إلا الأوهام.
قد تكون وشاية أو شكوى يتقدم بها إمام مسجد أو شيخ
ضد شيخ آخر لا يقل عنه علماً وتقوى، أو كاتب لا يروق له
طرحه، أسباباً كافية لاستدعائه وتوبيخه أو الضغط عليه
لكي يتراجع عن مقالة كتبها. وربما طلب منه أن يتعهد بعدم
الكتابة مرة أخرى وعدم الظهور في أي وسيلة إعلامية وإلا
تعرض لأقصى العقوبات. في ديسمبر 2000 استدعت المباحث عدداً
من كتاب مثلوا طليعة لمرحلة جديدة لجيل من الكتاب، منهم
الكاتب والقصاص محمد الحضيف، والمحامي عبد العزيز القاسم،
ومشاري الذايدي وغيرهم. وبطبيعة الحال اعتبرت تلك الأقلام
أسماء محرمة على الصحف السعودية.
ثمة سقف رمادي على الكاتب أو الشيخ ألا يتجاوزه، يستبهم
عادة على الباحث معرفته لأن وزارة الإعلام أخفقت في توضيحه،
واستغلق تعريفه على نظام النشر والمطبوعات، إذ يختصر أحياناً
بكلمة ملخصها أن (عليك أن تكتب كما يكتب الآخرون، وأن
تبتعد عن إثارة الفتن والبلبلة، وإزعاج ولاة الأمر). وتبقى
بعدها الظروف والتغيرات المحلية والأحداث الأمنية مناخاً
يشكل ذلك السقف الضبابي من جديد، ويعيد صياغته إما إلى
الوراء أو يمنحه دفعاً إلى الأمام، وربما تمخض عن قائمة
محرمات جديدة. في مثل هذه الأجواء يحاول كل من يحمل قلماً
أن يجد له منفذاً، ومع كل ذلك فكثيراً ما يرتكب البعض
أخطاء قاتلة في مسيرته المهنية. وفي هذا السياق يمكن فهم
قيام المفتي عبد العزيز آل الشيخ باستدعاء الشيخ دبيان
الدبيان إثر كتابته بحثاً مختصراً في مسألة جواز الأخذ
مما زاد عن القبضة من اللحية، ومطالبته بالاعتذار وإصدار
اللجنة الدائمة للفتوى التي يرأسها آل الشيخ بياناً يطالبه
بالتوبة، ثم منع كتابه من النشر. كانت تلك الحادثة الطريفة
تمثل الوجه الآخر لقيام المباحث العامة باستدعاء الكاتب
سليمان النقيدان عقب مقال نشره في صحيفة الشرق الأوسط
في مارس 2003 عن وهم الخصوصية السعودية، حيث منع من الكتابة
أو الظهور إعلامياً حتى اللحظة هذه.
|