المسلمون والحرب الأهلية
د. مي يماني
تُـرى هل أصبح الانقسام بين السُـنّة والشيعة في الشرق
الأوسط الآن أكثر عمقاً من الخصومة بين إسرائيل والعرب؟
قد تَـعْـرُض للمرء تصورات من هذا القبيل نظراً لردود
أفعال بعض الحكومات العربية إزاء قرار حزب الله بشن الهجمات
على إسرائيل. فعلى الرغم من القنابل الإسرائيلية التي
تنهمر على مدينتي بيروت وصور، إلا أن المملكة العربية
السعودية، التي ربما تكون أكثر الدول الإسلامية العربية
ميلاً إلى المحافظة، سارعت علانية إلى إدانة أفعال حزب
الله التي تحرض على امتداد الصراع العربي الإسرائيلي.
والحقيقة أنه لم يحدث من قبل طيلة تاريخ الصراع العربي
الإسرائيلي أن بادرت دولة تعتبر نفسها زعيمة للشعوب الإسلامية
العربية إلى دعم إسرائيل على هذا النحو الصريح.
فضلاً عن هذا فإن ذلك الصدع في العلاقات بين المملكة
العربية السعودية وحزب الله ليس بالحدث الجديد. فقد سبق
لمصر والأردن أيضاً إدانة حزب الله وزعيمه حسن نصر الله
بقسوة، بسب ذلك النوع من المغامرات غير المحسوبة.
تُـرى ما هي الحقيقة وراء هذا التطور المذهل؟ هل نشهد
الآن تحولاً جوهرياً في العلاقات بين القومية العربية
والطائفية الإسلامية؟ وهل بلغت خشية الحكومة السُـنّية
في المملكة العربية السعودية من الإسلام الشيعي الحد الذي
يجعلها تتناسى التزامها بالوحدة العربية والقضية الفلسطينية؟
إن الشجب العربي لحزب الله يوحي بأن الانقسام الطائفي
الإسلامي، الذي بات جلياً واضحاً في العنف اليومي الذي
نشهده في العراق، أصبح أكثر عمقاً وشدة في كافة أنحاء
الشرق الأوسط. وكان الرئيس جورج دبليو بوش يسعى، بمحاولاته
لكسر الجمود السائد في المجتمعات العربية، إلى وضع قوى
الحداثة في مواجهة العناصر التقليدية في المجتمعات العربية
والإسلامية. إلا أنه تسبب بدلاً من ذلك في إطلاق العنان
لأشد القوى رجعية في العالم الإسلامي العربي. وربما كان
في فتح هذه البوابة على الجحيم بداية لعصر جديد أشد بشاعة
من العنف الشامل الذي نشهده اليوم. وقد لا يكون بوسعنا
إلا أن نطلق على ذلك (حرباً أهلية إسلامية).
كان الانقسام بين الشيعة والسُـنّة قائماً منذ فجر
الإسلام، لكن العزلة الجغرافية والعرقية التي يعيشها الشيعة
من غير العرب في إيران، فضلاً عن تحكم الدول العربية السنية
في الأقليات الشيعية، من بين أكبر الأسباب التي أدت إلى
استمرار العداوة والبغضاء بين الطائفتين في الخلفية. وكانت
هذه التوترات قد تراجعت بعض الشيء مع موجة (الأسلمة) التي
خلقتها الثورة الإيرانية، ذلك أن الهوية الطائفية للعرب
كأهل سُـنّة قد تراجعت إلى الخلفية في أعقاب الثورة الإيرانية،
وصاحب ذلك توكيداً معمماً للهوية الإسلامية.
ولقد تغير كل ذلك حين شن تنظيم القاعدة هجماته على
أميركا في الحادي عشر من سبتمبر 2001، وهو ذلك التنظيم
الإرهابي السُـنّي الذي يستند بشدة إلى إيديولوجية المذهب
الوهابي السعودي، ويعتمد على عدد كبير من السعوديين في
تنفيذ هجماته. وهنا برز إلى الوجود رمزاً سُـنّياً جديداً
للإسلام المعسكر. وحين شنت الولايات المتحدة الحرب على
كل من طالبان السُـنّية في أفغانستان والنظام السُـنّي
في العراق، أصبح ذلك التيار السُـنّي المتطرف الجديد أشد
تجسداً.
والحقيقة أن هذا التيار السُـنّي العنيف الجديد ينظر
إلى إسرائيل والغرب باعتبارهما تهديداً واحداً، أما التهديد
الآخر فيشتمل على ما يسمى بـِ (الهلال الشيعي) ـ ذلك القوس
من الأرض التي تمتد من لبنان إلى إيران عبوراً بسوريا
والعراق، والذي تسكنه التجمعات الشيعية. أما حكام المملكة
العربية السعودية، باعتبارهم أوصياء على الحرمين المقدسين
طبقاً للعقيدة الإسلامية في مكة والمدينة، فلربما يستشعرون
هذا التهديد على نحو أكثر حدة.
ففي نظر السُـنّة، لا يتحكم الشيعة في المناطق الغنية
بالنفط في إيران والعراق والمنطقة الشرقية من المملكة
العربية السعودية فحسب، بل إنهم فضلاً عن ذلك ـ من خلال
أفعال حزب الله ـ يحاولون اغتصاب دور (حماة) الحلم المركزي
لكل العرب، والذي يتلخص في التوصل إلى حل للقضية الفلسطينية.
ولأن الأسرة السعودية الحاكمة تستمد شرعيتها من شكل متزمت
من أشكال الإسلام السُـنّي، ولأنها تشك في ولاء مواطنيها
الشيعيين، فقد انقلبت ضد حزب الله.
ومن المفارقات العجيبة أن الولايات المتحدة، التي تتولى
حماية المملكة العربية السعودية منذ مدة طويلة، هي التي
تسببت في تمكين الشيعة حين أسقطت صدّام حسين ووضعت على
رأس السلطة في العراق أحزاباً شيعية. ويبدو أن إدارة بوش،
بعد أن أدركت الدور الذي لعبته في صعود القوس الشيعي في
شرق العالم العربي الإسلامي، تحاول الآن تعزيز حمايتها
للقوس السُـنّي ـ مصر والأردن والمملكة العربية السعودية
ـ في غرب المنطقة. أما إسرائيل التي كانت ذات يوم تشكل
العدو العنيد للقضية العربية، فقد باتت اليوم تبدو وكأنها
تُـدْفَع قسراً لكي تصبح جزءاً من هذه البنية الدفاعية.
لكن هذه الوضعية الدفاعية محكوم عليها بأن تظل غير
مستقرة بسبب المشاعر السائدة في العالم العربي كله. فاليوم
يتسمر عامة المواطنين السعوديين أمام شاشات قناة الجزيرة
والقنوات الفضائية العربية الأخرى لمتابعة الأحداث في
قطاع غزة وجنوب لبنان. وهم يرون دماءً عربية (وليست شيعية)
تراق أمام أعينهم، ولا يرون سوى جهة واحدة تقاتل رداً
على هذه الهجمات الدموية، ألا وهي حزب الله. والآن أصبحوا
ينظرون إلى حزب الله باعتباره نموذجاً بطولياً للمقاومة.
وهذا بطبيعة الحال يقود الدولة السعودية إلى محاولة
تعميق الانقسام بين الشيعة والسُـنّة. ففي أعقاب إدانة
المملكة العربية السعودية رسمياً لحزب الله، دعت الدولة
السعودية رجال الدين الوهابيين الرسميين لديها إلى إصدار
الفتاوى بإدانة حزب الله باعتباره فئة منحرفة من الشيعة
والفاسقين. ومثل هذه الفتاوى من شأنها أن تزيد من حدة
الانقسام الطائفي داخل المملكة العربية السعودية والمنطقة
بالكامل.
ولكن مع تعاظم هذه الخصومة، فهل من المحتمل أن تتصور
الأنظمة السُـنّية الحاكمة أنها في حاجة إلى أحزب خاصة
بها كحزب الله لتقاتل إلى جانبها؟ إذا كان هذا هو الاستنتاج
الذي توصلت إليه تلك الأنظمة فهي لن تضطر إلى البحث طويلاً،
ذلك أن أمثال هؤلاء المقاتلين متوفرون بالفعل، ولم يدخر
تنظيم القاعدة جهداً في تدريبهم.
|