فترة حكم عبدالله انتقالية، فهو واجهة لا تحلّ ولا
تربط كثيراً
السعودية: قمع أصحاب العرائض
د. مضاوي الرشيد
يقف إصلاحيو السعودية في الداخل عللا مفترق طرق، فمنذ
ان انتشرت حمى الاصلاح وشعاراته في السنوات الخمس الاخيرة
نراهم لم يكفوا عن كتابة العرائض والبيانات التي تستجدي
القيادة من اجل تقنين الاستبداد والشمولية المطلقة، عن
طريق المطالبة بانتخابات شاملة، وتشجيع المؤسسات المدنية
واصلاح القضاء وتوسيع المشاركة الشعبية. أتت هذه المطالب
على خلفية اقتصادية وثروة نفطية او بالاصح طفرة آنية ربما
تكون مؤقتة. ساعدت هذه الثروة القيادة على امتصاص الكثير
من الغليان في صفوف المثقفين والنخب الاكاديمية ولكن لم
تسكت الاصوات المطالبة بالاصلاح نهائياً.
آخر هذه الاصوات كان مجموعة من المحامين والمثقفين
والناشطين الذين طالبوا مرة ثانية بتعجيل عملية الاصلاح
الداخلي. واجهت القيادة هؤلاء بالاعتقال، وهو اسلوب معتاد
تلجأ اليه كلما ظهر صوت يستجدي القيادة ويناشدها تهذيب
اسلوبها الاقصائي وممارساتها القمعية. اتهمت القيادة هؤلاء
بتهم كبيرة منها التغرير بالشباب وتمويل الارهاب، وان
ثبتت الحكومة هذه التهم فهي بلا شك ستؤدي الى مصير مجهول
ينتظر الاصلاحيين المعتقلين منذ اكثر من اسبوع.
ورغم مطالبة لجان حقوق الانسان الداخلية والخارجية
بالافراج عن المعتقلين، الا ان القيادة السعودية تلتزم
الصمت كالعادة. اختفى هؤلاء بين ليلة وضحاها وتم توقف
الاتصال بينهم وبين ذويهم واهلهم ومنعوا من مقابلة المحامين،
حسب ما نقله بعض ابنائهم واخوتهم للعالم من خلال احدى
القنوات الفضائية العربية الموجودة في لندن.
اعتمد النظام السعودي منذ زمن سياسة ارهاب المثقفين،
الذين وهم وحدهم القادرون على صياغة رؤية سياسية جديدة
تنتشل المملكة من بدائية نظامها السياسي الحالي، وممارساتها
التسلطية التي تحتكرها اجهزة امنية واستخباراتية متعددة
وممولة من مجموعة من الامراء الناشطين في مجال القمع والمتخصصين
بفنه واسراره، التي توفره لهم امكانيات مادية كبيرة وتكنولوجيا
عصرية متطورة.
لا يقبل النظام السعودي بأي رؤية مهما كانت موالية،
ولا يتقبل اي حراك اجتماعي او ثقافي الا اذا كان يصب في
مصلحته الضيقة. جميع العرائض التي قدمت لهذه القيادة تعتمد
اسلوب الولاء والسمع والطاعة، ولكنها تحاول ان تستغل الحيز
الضيق المتوفر لها في الداخل لتطرح رؤية مستقبلية، وتتصدر
القيادة السعودية مركز المحور الرئيسي، اذ ان الاصلاحيين
ما زالوا يذكرون في عرائضهم ان الاصلاح المنشود يعتمد
اولا واخيرا على السلطة الحالية، ولكنهم يطالبون بتطويرها
بعض الشيء حتى تصبح اكثر قبولا وتحضرا مما هي عليه الان.
تحجر القيادة في ردود فعلها على عرائض الاصلاح، وحملات
الاعتقال المتوالية والمتكررة والتي تقوم بها الاجهزة
المكلفة بالوضع الداخلي تلفت النظر الى ازدواجية سعودية
تعيشها المملكة منذ تولي الملك عبد الله الحكم في صيف
2005. لقد انيطت بالملك عبد الله مهمة الترويج للمملكة
في السوق الاقليمي والعالمي على انها دولة لها ثقلها ورمزيتها
في التأثير على حرائق المنطقة العربية، من لبنان الى فلسطين
مرورا بالعراق. وما مؤتمر المصالحة في مكة حيث اجتمعت
الفصائل الفلسطينية المتناحرة الا تكريسا للدور الذي تطمح
اليه القيادة السعودية المتمثلة بالملك.
ولكن نرى ان الشأن السعودي الداخلي قد افلت من يد الملك،
لان حقيبة يحملها وزير آخر له السلطة المطلقة في التعامل
مع الوضع الداخلي وغليانه حسبما يشاء.
هذه الازدواجية السعودية اوجدت الوضع الحالي، حيث نرى
اعلاما يروج للانجازات السعودية الرسمية على الجبهات الخارجية،
وتدني الوضع الداخلي الى اقصى درجاته من حيث تهلهل الاجهزة
القضائية واختلال الامن الاجتماعي، وتفشي الاعتقال التعسفي
وارهاب المواطنين بوسائل بدائية وقمعية متعددة الوجوه.
اثبت الملك عبد الله ان فترة حكمه ما هي الا مرحلة
انتقالية حيث اصبح واجهة للمملكة، والدور المطلوب منها
عربيا وامريكيا، وظل الوضع الداخلي وادارته تحت سيطرة
من يحضر نفسه في المستقبل ليفتح صفحة جديدة ربما تكون
اكثر سوداوية وقمعية مما هو حاصل الان. الشرخ الواضح في
القيادة السعودية اضطر ملك المرحلة الانتقالية ان يخرج
عن صمته وينفي ما يسمى بالشائعات عن وجود اختلاف بين اعضاء
الاسرة الحاكمة، وهو خروج لا يمكن الا ان يفسر وكأنه اعتراف
واضح بوجود مثل هذه الاختلافات.
وقد تصل القيادة السعودية الي نتيجة واضحة وهي ان الانبهار
الاعلامي بانجازات السعودية على الجبهة الفلسطينية لن
يطغي على الوضع الداخلي المتأزم، واطفاء حرائق فلسطين
لن يكون بديلا عن اطفاء حرائق استراحات جدة والرياض، حيث
يجتمع الاصلاحيون ويبلورون رؤية مستقبلية. وليس من المستغرب
ان يستغل النظام انجازه في المحيط العربي الفلسطيني كتغطية
اعلامية على فشله التام في التعاطي مع مستقبل النظام على
الصعيد الداخلي. وان ساعدت الطفرة النفطية الآنية هذا
النظام على اطفاء حرائق الخارج الا انها لم تفلح في اخماد
اصوات الاصلاح في الداخل.
سيظل مثقفو السعودية يحلمون باستجابة القيادة لعرائضهم،
ولهم الحق في ذلك، اذ ما اضيق العيش لولا فسحة الامل،
ولكنهم سيصلون الي نتيجة واحدة، وهي استحالة تلبية مطالبهم
في ظل الازدواجية السياسية الحالية حيث يتعايش ملك المرحلة
الانتقالية مع شريحة ملوك المستقبل. هذه الشريحة المنتظرة
بفارغ الصبر للانقضاض على رأس الهرم ستكون عقبة في وجه
الاصلاح الحقيقي كما هي تفعل اليوم.
الشريحة المنتظرة متمرسة في اساليب القمع الداخلي من
خلال تجربة حقيقية مارستها منذ اكثر من اربعة عقود، حتى
اصبح اسمها ملتصقا بالقمع تارة تحت ذريعة محاربة الارهاب،
وتارة تحت ذريعة اخماد الفتن.
بعد اعتقال الاصلاحيين سيجد المواطن نفسه امام خيارين:
اولا، خيار الصمت المطبق وهذا ما سيزيد من معاناة الكثيرين،
او خيار العنف المفضوح. قمع الاصلاحيين يؤدي الي نتيجة
واحدة وهي انتصار خيار العنف. لقد وضعت القيادة السعودية
الشعب امام هذا الواقع المرير، وان كان مصير المسالم الموقع
على عريضة هو الاعتقال او التغييب عن طريق الحجر على الفكر
والمبادرة، فسنجد ان شريحة كبيرة قد تلجأ الي اساليب اكثر
تطرفا وعلنية.
لقد خلط النظام السعودي الاوراق وساوى بين المطالبة
السلمية والعنف عندما اعتقل مجموعة الاصلاحيين واتهمهم
بالارهاب. وقد فتح هذا النظام على نفسه ابوابا لن يستطيع
ان يغلقها بسهولة، خاصة عندما تستولي الشريحة المنتظرة
على عرش البلاد. عندها ستكون المواجهة مفتوحة بين النظام
وليس فقط مثقفيه بل مع شرائح اكبر بكثير من النخب الثقافية.
النظام السعودي هو نظام اقلية من الامراء والتكنوقراط،
يساعده طيف من علماء الدين مهمتهم ليس فقط شرعنة القمع،
بل ايضا تطبيق الاحكام الجائرة على المعتقلين.
وان خرج المعتقلون من زنزاناتهم نتيجة مكارم ملكية
كما حصل مع مجموعة اصلاحية سابقة، الا ان هذا سيكرس نظرة
المجتمع للطاقم الحاكم كطائفة خارجة عن القانون، بل هي
فوق القانون وهي القانون نفسه.
لن يطفيء النفط حرائق الداخل السعودي بل هو كفيل باشعالها.
الكل يعلم ان الغليان الداخلي لا يحصل في مجتمعات معدومة
وفقيرة، بل يحصل في زمن الطفرات الاقتصادية، ومن يطالب
بالاصلاح والتغيير ليس المعدوم المنهمك بتدبير لقمة العيش،
بل هو الذي يعيش رخاء يجعله يفكر بحقوق مسلوبة ومشاركة
سياسية ممنوعة.
التغييرات العالمية السياسية والهزات الفكرية تحصل
فقط في مجتمعات تنعم بشيء من الرخاء. هذا الرخاء يولد
حالة غليان يصعب على اكثر الانظمة القمعية احتواؤه والسيطرة
عليه. لذلك ليس من المستغرب ان تتعالى اصوات الاصلاح في
بلد كالسعودية، والشعب يمر اليوم بمرحلة آنية من الطفرة.
لكن هذه الطفرة عمقت الهوة بين اطياف المجتمع، والكل يحاول
ان يناله نصيب منها بطرق شرعية عادلة، وطالما ظل نظام
الاقلية السعودي مستأثرا بحصة الاسد من الثروة ومتربعا
على مقاليد السياسة، فسيظل المجتمع متململا ومضطربا، وسيحاول
الكثير دخول حلبة المصارعة مع النظام في سبيل توسيع الحلقة
المغلقة، ليس عن طريق الاتاوات وزيادة المعاشات، بل عن
طريق خلق مؤسسات تضمن العدالة الاجتماعية والشورى الحقيقية
والمشاركة السياسية الفعالة. لن يستطيع النظام السعودي
بازدواجيته الحالية ان يستمر في غطرسته، فساعة يشتري الضمائر
وساعة يعتقل الاصلاحيين في الداخل ويحارب من هو في الخارج،
دون ان يدفع ثمنا باهظا. وقمع اصحاب العرائض هو بداية
تفتح الباب على مصراعيه لمواجهة قد لا ينجو منها النظام
نفسه.
عن: القدس العربي، 12/2/2008
|