السعودي المهاجر
اصطدام جهاد السلفية بحدود الدولة القطرية
مضاوي الرشيد
من الحقائق التاريخية المعروفة ان النظام السعودي اقفل
باب الجهاد عام 1929 عندما تمت تصفية الاخوان ومشروعهم
الذي كان منذ بدايته لا يعترف بحدود الدولة القطرية. وعندما
جند هؤلاء بعد عملية تلقين امتدت الى اكثر من عقدين، فوجئوا
بأن تجنيدهم لم تكن غايته اعلاء كلمة الدين واعادة المسلمين
الى العقيدة الصافية، بل اعادة عائلة معينة الى الحكم
في اطار دولة كانت قوى عظمى قد رسمت حدودها. اصطدمت السلفية
الجهادية بحدود الدولة القطرية الجديدة وحدث التناحر المعروف
والذي ادى الى تفكيك القوة العسكرية والقضاء عليها. ولكن
رغم الهزيمة التي الحقها النظام السعودي بمجنديه، لم يستطع
هذا النظام ان يقتل الفكر المرتبط بهم والذي على اساسه
تم تجنيدهم، ورغم محاولات النظام ومنظريه اقناع هؤلاء
ان الجهاد العسكري قد اقفل بابه وفتح باب انواع اخرى من
الجهاد الدعوي والخيري، بقي السعودي متعطشا للنوع الأول.
هذا التعطش بقي غير مرتو لمدة خمسين عاماً حتى أتت الفرصة
في الثمانينات مع الغزو السوفييتي لافغانستان. واتضحت
بشكل واضح معالم الهجرة السعودية الجديدة في العصر الحديث.
هاجر السعودي الى افغانستان طلبا للشهادة في سبيل المشروع
الديني كما يتصوره، ومن ثم انتقل الى مناطق متفرقة منها
الشيشان والفلبين ومؤخرا العراق ولبنان، بدءا بالفلوجة
وانتهاء عند شواطئ البحر الابيض المتوسط، وربما هي مسألة
وقت فقط حتى يظهر هذا المهاجر على مشارف مدينة غزة متسللا
اليها من صحراء سيناء، فيشارك في جهاد حرم منه طيلة خمسة
عقود، رغم انه قد ذاق طعمه عام 1948 عندما التحق بالمتطوعين
العرب، وقصتهم معروفة للمعنيين بهذه الحقبة التاريخية
الحرجة.
بعد اقفال باب الجهاد في الدولة القطرية، لم يتخذ النظام
السعودي موقفا موحدا تجاه مشاركة السعوديين في عمليات
جهادية، اذ ان موقفه كان دوما مرتبطا بالسياسة ومتطلباتها،
وليس بالموقف الشرعي من القضية. ورغم ان هذا النظام ارسل
بضع مئات من جنوده النظاميين ليشاركوا في حرب 1948 تحت
راية الملك فاروق، الا ان موقفه من المتطوعين كان غامضا.
وبينما ارسل النظام 1200 من جنوده الى مصر عن طريق جدة،
افادت تقارير بريطانية حينها ان عدد المتطوعين كان اكبر
بكثير. جاء هؤلاء من القبائل التي تقطن شمال الجزيرة العربية
وبلغ عددهم 3000 متطوع، حسب مصادر السفارة البريطانية
في جدة. ونظم هؤلاء انفسهم في فوج بعد ان جاؤوا فرادى.
ويعزي بعض المراقبين حينها ان ترتيب امرهم في فوج سعودي
تحت قيادة فهد المارك كان هدفه قطع الطريق على اي محاولة
لدمجهم في القوات السورية او العراقية، خاصة وانهم اتجهوا
الى مناطق تحت سلطة انظمة كانت السعودية لا تثق بها حينها،
ولم تستطع ان تستقطبها بعد. تذكر ايها القارئ اننا نتحدث
عن عام 1948 وليس 2007!
بعد تجربة عام 1948، بقي السعودي/ الوهابي المتعطش
الى هجرة جهادية محصورا في حدود الدولة القطرية، مترقبا
لفرصة قد تأتي وقد اتت بالفعل في الثمانينات (احتلال أفغانستان)،
وكان الموقف السعودي واضحا وصريحا تجاه المتطوعين، وليس
من الصدفة ان تكون هذه الصراحة نتيجة الضوء الاخضر الامريكي
الذي اعطي حينها. واذا انتقلنا الى العراق المحتل منذ
2003، فسنجد موقفا سعوديا رسميا متقلبا فلم يفتح النظام
ابواب التطوع كما فتحه في الثمانينات للاتجاه الى افغانستان،
ولم يغلقه رغم بعض الاتهامات بأه قد تبنى حالة غض النظر.
وهذا ليس من المستغرب، خاصة وان النظام لم يعترف بان العراق
محتل الا بعد مرور سنوات على الاحتلال. والسبب ان فتح
باب التطوع العلني في بداية الاحتلال قد يؤدي الى فتح
باب جهنم على مصراعيه من قبل الولايات المتحدة على حليفتها
التاريخية. ولكن ليست في السياسة ثوابت بل هي متحركة كتحرك
رمال الجزيرة.
ويبدو ان الثابت الوحيد الذي لا يتغير هو موقف النظام
من موضوع التطوع في فلسطين ضد اسرائيل. يبقى هذا الموضوع
خطا احمر لم يتغير ولن يتغير في المستقبل، اذ انه يصطدم
بمسلمات امريكا والغرب عموما، ولن يجد السعودي المهاجر
والطامح الى هذه التجربة بطاقة سفر مخفضة، ولا تسهيلات
عملية على الساحة تعجل في مشروع طلب الشهادة على ارض فلسطين.
اذن هذا العرض الموجز يجعلنا نصل الى حقيقتين، الاولى:
متعلقة بالنظام وموقفه من قضية الجهاد. هذا الموقف تمليه
السياسة الرسمية وليس الموقف الشرعي. والحقيقة الثانية:
تنطلق من كون السعودي المهاجر يحدد موقفه من منطلق شرعي
ديني وليس سياسيا مرهونا بالعلاقات الدولية وقرارات مجلس
الامن والارادة الدولية، والتي لا يؤمن بها او يعيرها
اي اهتمام. التباعد بين الموقف الرسمي والشعبي قد يتقلص
كما حدث في افغانستان ولكنه بالضرورة سيصطدم في ساحات
اخرى. وهذا بالفعل ما قد حصل على الساحة العراقية والفلسطينية.
بالاضافة الى ذلك نجد ان الاطياف الجهادية هي ايضا
قد لا تتفق على مكان الجهاد، رغم انها تجمع على ضرورته
في حالة ما. خذ مثلا الانقسام بين الذين يشجعون على الهجرة
الى ما وراء الحدود طلبا للجهاد، والذين يرون ان الاولوية
يجب ان تكون على الساحة المحلية. وقد مثل هذا الموقف احد
منظري الجهاد الشيخ عيسي العوشن عندما نصح الجهاديين بعدم
المغادرة الى العراق، اذ انها حسب رأيه، ساحة متخبطة تفتقد
الى راية واحدة، ويدعم رأيه بقصة من افغانستان حيث جرى
حديث بين جهادي سعودي وافغاني. وسأل الافغاني ـ السعودي
عن وجوده في افغانستان مستغربا هجرته وتركه لبلده مستباحة
من قبل الامريكان. ويستنتج العوشن ان الهجرة السعودية
الى خارج الحدود ليست مناسبة، خاصة وان بيته مستباح في
الوقت الحالي ويجب على السعودي ان يكسر الصلبان في بلاد
الحرمين اولا.
التوتر الحاصل على مستوى النظام والاطياف الجهادية
ينبع من مشروعين: احدهما مشروع سلطة سياسية دنيوية، والآخر
مشروع سلطة دينية. يتبنى النظام السعودي المشروع الاول
رغم انه يدعي عكس ذلك. ولا يختلف هذا النظام عن غيره من
الانظمة العربية الا ببعض التفاصيل والجزئيات، ولكنه في
حقيقته قائم على دعائم تفصل بين الواقع والخطاب المشرعن
لهذا الواقع.
اما المشروع الآخر فهو مشروع غير مرتبط بالوطن ومفهومه
وحدوده. كان هذا المشروع يطمح لهيمنة دينية وليس جغرافية
تحددها الحدود المعترف بها دوليا، ولا يتوق لحمل جنسية
تدعي سعودية. وهذا ما عبر عنه منظر الجهاد المسجون فارس
الزهراني عندما استعرض نسبه وقبيلته متجاوزا بذلك مفهوم
الجنسية السعودية.
ويحاول النظام السعودي من خلال منظرين جدد ان يعمق
مفهوم الوطنية والانتماء للوطن، ولكن لا تتجاوز هذه الحملة
الدعائية الشعارات المرفوعة، اذ اننا بصدد اجيال تربت
على مفهوم يختلف اختلافا تاما بل يتعارض مع مفهوم الوطن
الضيق، والذي لا يستوعب ولا يستطيع ان يحتوي الخطاب الديني
وحتمية رفع رايته خارج حدود الوطن. فكما لم يستطع العوشن
بنظرته المحلية ان يثني القوافل السعودية المتجهة الى
العراق، لن يستطيع النظام ان يقلب المعادلة ويحول الانتماء
من انتماء الى الدين الى انتماء وطني ضيق.
وعندما يصطدم الخطاب السلفي المعولم بالارادة السياسية،
لا بد له ان يبحث عن مخارج تخرج به من القيود المحلية.
هذا الخروج قد يخدم السلطة السياسية في فترة ما، ولكنه
يعود الى موطنه، وعند عودته تكون المصادمة اقوى واشرس.
وهذا بالفعل ما حصل بعد عودة جيل المجاهدين في افغانستان
الى السعودية. وقد تكون المواجهة اكثر حدة عند عودة السعودي
المهاجر من ارض العراق، خاصة وانها ساحة مفتوحة حاليا
اثبتت انها مرتع لاكتساب المهارات القتالية، خاصة وانها
جمعت بين طقوس النحر البدائية والتقنية العالمية المتطورة.
سيظل السعودي المهاجر مصدر قلق لدول الجوار في الوقت
الحالي، رغم ان النظام السعودي قد ينعم بفترة هدوء مؤقتة،
ربما يستغلها في محاولة انشاء جيل جديد يتغنى بالوطنية،
والتي تظل هي ايضا مبهمة، فهو لا يريد الكثير منها، خاصة
ان انقلبت مدلولاتها ومعانيها لتعلم جيلا يؤمن بالجهاد
المحلي وليس الاممي فتقفل ابواب الهجرة وليس الجهاد هذه
المرة.
عن القدس العربي، 04/07/2007
|