السعودية: ديمقراطية مجالس التسول المفتوحة
مـأسـسـة الـتـسـوّل!
مضاوي الرشيد
ان كانت للنظام السعودي خصوصية ما فهي تنبع من كونه
النظام الفريد الذي نجح في مشروع (مأسسة التسول) من خلال
ما يعرف بـ (المجالس المفتوحة) والتي يحتضنها رجالات النظام
بشكل روتيني منظم ومنسق حسب قواعد بيروقراطية معروفة.
من منظور النظام تمثل هذه المجالس شبه العامة ركيزة من
ركائز التواصل بين رجل السلطة والرعية، حيث تتمكن هذه
الاخيرة من اختراق حاجز السلطة وتحضر بين يديه شخصيا لتصبح
مثالا للتواصل بين الراعي والرعية بشكل مباشر وعفوي يعيد
الى الاذهان ذاكرة التراث والتقليد وديمقراطية العصور
البائدة المزعومة. وبما ان مثل هذه المجالس تعتبر مفتوحة
للقاء والتواصل من حيث المبدأ، نجد اسطورتها قد دونت في
كتيبات صغيرة زعم انها دراسات في السياسة، هدفها تسليط
الضوء على ممارسات ديمقراطية فذة، وتجربة فريدة من نوعها
في ديمقراطية مزعومة. وبوجود مثل هذه المجالس المفتوحة
يستنتج الباحث ان مؤسسات الديمقراطية المعروفة من مجالس
برلمانية منتخبة وتمثيل شعبي ما هو الا طمس للمجالس المفتوحة
الحالية والتي تضمن التواصل المباشر وتردم الهوة بين الحاكم
والمحكوم الذي يأتي بقضيته مباشرة الى صاحب القرار ليبت
بها حسب ما يراه مناسبا.
واذا امعنا ومحصنا ماهية هذه المجالس المفتوحة المروج
لها، سنجد عالما غريبا عن مفهوم الديمقراطية بل عن مفهوم
الانسانية والكرامة. اثبتت المجالس السعودية المفتوحة
انها مؤسسات تسول بكل ما تعني هذه الكلمة من معان، وخصوصيتها
من كونها رمزا من رموز النظام الحالي والتي من خلالها
يصيب النظام هدفين، الهدف الاول: ابراز اصحاب المجالس
كمحور رئيسي في تدبير شؤون المواطن، وتسيير أموره الشخصية.
الثاني: تنشئة جيل كامل على مفهوم استجداء الحقوق وليس
انتزاعها. يصطف المواطنون عند ابواب هذه المجالس ـ والتي
لها طاقم كبير من السدنة ـ يأتون بصحبة رسائل منها المطبوع
ومنها المخطوط باليد، فيطلب احدهم مساعدة على مرض ألم
به، وآخر يستجدي معونة زواج، او مساهمة مالية لدفع دية
او مهر، تمثل هذه الرسائل عرائض تسول صريحة تقدم لصاحب
الشأن والذي يحولها على مساعد خاص يترأس مكتبا كبيرا له
طاقم اداري متشعب ومتطور. وتوفر هذه المجالس نافذة يطل
منها المواطن على ابهة القصر وسيده، فيصيبه الذهول والرهبة
التي تتحول الى حالة خشوع تتخللها كلمات الدعاء حتى تدوم
النعمة ويعم الأمن والأمان وتسمع السموات ابتهال المحتاج
ومعاناة الفقير ومأساة المظلوم، وان كان المبتهل من المحظوظين
فسيلقي وعدا بالاستجابة او النظر بالقضية بعد سلسلة طويلة
من المراجعات والاستشارات المستقبلية، التي قد تضمن سريرا
في مستشفي متطور، او هبة مالية تنثر هنا وهناك.
وبتطور الحياة وتشعب احتياجاتها تنمو احتياجات المواطن،
فتأتي قرية كاملة تطلب مولدا كهربائيا ينير عتمة مساكنها
وظلمة أزقتها، او ان تطلب طريقا معبدا يربطها بالعالم
الخارجي، او مدرسة تحتضن ابناءها. وبين المطالب الشخصية
والجماعية الاخرى، تتأصل (ثقافة التسول) التي تصبح بدورها
مادة اعلامية متلفزة او مكتوبة، فتكرس لها لقطات طويلة
ومقالات غزيرة تعلم الحاضر والغائب، تشاهد فيها الجموع
كيفية وآلية انتزاع ريشة من ذيل الطاووس المنتفش، والحصول
على حصة ولو وضيعة من مآثر السلطة الكثيرة.
مأسسة التسول أبعد ما تكون عن الديمقراطية، فلا ديمقراطية
مجالس العشيرة المزعومة ولا ديمقراطية اثينا اليونانية
تصمد امام خصوصيتها. لقد نجح النظام السعودي من خلال (المجالس
المفتوحة) في تهميش مشروع مؤسسات الدولة، والتي يجب ان
تكون مناطة بالتعاطي مع احتياجات المواطن المعيشية وحقوقه
الاجتماعية والاقتصادية. ومشروع (المجالس) يظل ناقصا ومفتقدا
للمصداقية، كما ان قدرته على تلبية احتياجات جملة السكان
محدودة. وكيف نلوم المواطن ان هو وجد مؤسسات الدولة التي
تدعي خدمته مثقلة بشخصيات تتعامل مع همه بغطرسة، فيجد
ملاذه الاخير وفرصته الحقيقية في اختراق المجلس المفتوح
طبعا، بعد تجاوز اصحاب مفاتيح الابواب، للوصول الى المركز
بشكل مباشر، عله يحصل بعد رحلة تسول واستجداء طويلة على
نتيجة ملموسة.
من المؤسف ان يتحول شعب كامل يدعي العنفوان والكرامة
والكبرياء الى (رعية متسولة) تعتقد ان حقوقها تكتسب من
خلال ممارسة ثقافة التسول. ومن المؤسف ان تكون الثروة
النفطية قد ساهمت في تبلور هذه الثقافة المستجدية للقوي
والثري. ومن المؤسف ايضا ان جزءا كبيرا من هذه الثروة
قد تحول الى خزائن خاصة يصرف القليل منها على تكريس ممارسات
التسول بدلا من تقوية اجهزة الدولة ومؤسساتها التي تنظر
بقضايا المواطنين دون اللجوء الى مسرحية الاستجداء المتلفزة
والمؤصلة بكتيبات الدعاية السياسية المختبئة تحت ستار
البحوث الاكاديمية في السياسة والاجتماع. لا بد لاثنوغرافية
المجالس المفتوحة الواقعية ان تكتب يوما ما لتظهر الفجوة
بين الواقع والاسطورة اولا، ومن ثم تفضح تأثير ثقافتها
وممارساتها على المسار السياسي الذي ينهض بالمجتمع من
مفهوم المجتمع المتسول الى مفهوم المجتمع الراقي، ليس
بمقولات الكرامة والعنترية بل بالممارسة الفعلية لثقافة
الحقوق والانسانية. هذه الثقافة الجديدة هي وحدها الكفيلة
ببناء دولة المستقبل والتي ينمو فيها المواطن بعيدا عن
التسول ليصبح صاحب حق يناله من مبدأ المساواة والشراكة
في موارد الدولة والثروة القومية. لا تنتج ثقافة التسول
الممارسة في احضان المجلس المفتوح سوى الرؤوس المطأطئة،
والنفسيات الخانعة.
من المستحيل ان تنهض الأمم وهي تعيش ثقافة الاستجداء.
لقد تأصل هذا التراث في النفوس بعد عقود طويلة ساهمت السلطة
السياسية في نشره واحتضانه. ومن المستحيل قيام دولة المؤسسات
وتثبيت مفهوم المواطنة في ظل التسول والاستجداء اذ ان
ليس للمتسول حقوق بل اوهام قد تتحقق او لا تتحقق اذ يظل
ذلك معتمدا على ارادة السياسي. وتبقي ديمقراطية المجالس
المفتوحة خصوصية تسول وماركة مسجلة باسم النظام.
القدس العربي، 7/8/2007
|