أين شيوخ الفضائيات من فقه الإعتصامات؟
(فقه المقاومة السلمية) مخرجنا من ثنائية فقهي (الطاعة
والخروج)
مضاوي الرشيد
تجري حالياً محاكمة الدكتور عبد الله الحامد، أحد رموز
التيار الإصلاحي في السعودية، بتهمة تحريض نساء المساجين
على الاعتصام والتجمهر أمام مراكز القمع السعودية التي
تحتجز أزواجهن لفترة طويلة، دون تقديم هؤلاء أمام محاكم
تبت في قضاياهم فتصدر الأحكام أو تطلق سراحهم.
يعتبر الإعتصام في بلدة كالسعودية جريمة يشرعن لها
طيف كبير من علماء الدين الذين يعتبرون هذا العمل خروجاً
على ولي الأمر، إذ أن علمهم الشرعي يقتصر على التنظير
لفقه الطاعة، والذي تأصّل في التراث الاسلامي، وتصدّى
لتفصيله وترسيخ نصوصه، وشرحه، مئات من العلماء الذين ارتبطوا
بالسلطة، حتى أصبحت مراجعه كتباً مقدسة لا تقبل التمحيص
أو إعادة النظر، حيث اعتبرها البعض نصوصاً إلهية لا تقبل
التشكيك أو إعادة التفسير. واتهم من حاول ذلك بأسوأ الاتهامات
التي تتأرجح بين النفي من حلقة العلم أو الاقصاء أو حتى
نزع الإنتماء الى الاسلام عن حفنة صغيرة من علماء امتلكوا
الجرأة وشككوا في بعض نصوص فقه الطاعة للحاكم. استغل فقهاء
الطاعة الوسائل الاعلامية التي وفرتها أموال النفط من
أجل تكريس هذا الفقه وإعادة صياغته باسلوب اعلامي مبتذل،
يصل الى شرائح كبيرة من مشاهدي الفضائيات.
والتحق هؤلاء بركب الظاهرة الجديدة التي برزت أول ما
برزت في الولايات المتحدة بتصدّر ما يسمي بالتلي افانجليكل
لمساحات اعلامية كبيرة تحت ظاهرة قنوات الله، وأصبحت شاشات
العرب مرآة لهذه الظاهرة الجديدة. وتنافس مشايخ العرب
فيما بينهم من أجل احتلال مساحة جديدة، بالإضافة الى حلقات
الدرس التقليدية والتي تعودوا عليها سابقا وأبدعوا في
احتكارها. جاءت رسالة هؤلاء مبتذلة مكرسة لفكر يدعو الى
الخنوع الى سلطات قمعية تمتلك أموالا طائلة أفسدت علمهم
الشرعي، إذ أناطت هذه السلطة بشيوخ الفضائيات مهمّة تطويع
المجتمع وتدجينه وتخديره بنصوص وتفسيرات تكرّس الاستسلام
للظلم، بل تحرّم التصدي له بكل الوسائل بما فيها الوسائل
السلمية والمقاومة المشروعة، هذا بالإضافة الى المقاومة
المسلحة التي تؤدي الى سفك الدماء والفتن.
بسبب هذا الاحتكار الإعلامي، وغلبة الخطاب الديني المستسلم،
هاجرت أقلام بعض العلماء وأصحاب المعرفة الشرعية الى الشبكة
العنكبوتية، لا لتفصل فقهاً جديداً يشرعن للمقاومة السلمية
كالمظاهرات والاعتصامات والعصيان المدني، بل لفقه معاكس
يحلّل الخروج على الظلم بالسيف والقتال. فتبلور (فقه الخروج
على الحاكم) في طيات المواقع الالكترونية والاعلام الجديد،
ووجد آذاناً صاغية، ومروجين جادين في نشره وتعميمه واستقطاب
شرائح كبيرة مستعدة لأن تضعه حيّز التنفيذ.
وقفت المجتمعات العربية وقفة تأمل بين (فقه الطاعة)
المدعوم سياسياً وإعلامياً ومالياً، و (فقه الخروج) على
الحاكم الهارب الى مساحات إعلامية تعتمد على ميزانيات
قليلة، وطاقم إعلامي صغير، لكنها تعد أن تصل رسالتها الى
جيل جديد يتمرس في متاهات الشبكة العنكبوتية، حيث يجد
الخطاب الثوري الداعي الى اللجوء الى العنف والقتال كوسائل
مشروعة في مواجهة الظلم والتعسف وهضم الحقوق. جاء (فقه
الخروج) المسلّح كمرآة لـ (فقه الطاعة) اللامحدودة التي
نزعت العمل السياسي من قاموس الإنسان وفكره، وحاولت غرس
مفهوم الخضوع والصبر، وإرجاع القضايا السياسية التي تؤثر
على مسيرة الشعوب الى خالقها ومدبرها.
لن يجد الانسان العربي اليوم منزلة بين المنزلتين،
حيث يطلع على (فقه المقاومة السلمية) ولن يعثر على تأصيل
شرعي جدّي يطرح هذا الموضوع، لا في الإعلام الفضائي الرسمي،
ولا في شبكات إعلامية إلكترونية. لقد اختفي هذا الفقه
من الحيز العام العربي واندثر بين استقطابات المرحلة الحالية
وانقسام المجتمعات وفقهائها، بين متبن لفقه الطاعة وآخر
يروج لفقه الخروج المسلح. وإن ظهر أحد المثقفين الذين
يكتبون في هذا المجال، ويؤصلون له في كتب تنشر بصعوبة
شديدة، سيجد هؤلاء أنفسهم متهمين تستعرضهم السلطة السياسية
وفضاؤها المستقطب في محاكم هزلية تحاول أن تجرّمهم من
منطلقات فقه الطاعة وحدوده الضيقة. وفي نفس الوقت يجد
هؤلاء القلة أنفسهم متهمين من قبل مروجي فقه الخروج المسلح
الذين يتصدرون الرأي الآخر، ويقسون على من لا يشاطرهم
موقفهم وتفسيراتهم ونصوصهم واستدلالاتهم الشرعية.
لن يخرج العالم العربي من مأزقه الحالي، وحالة الاستقطاب
الفكرية بين فقه الطاعة وفقه الخروج، حتى يجد (فقه الاعتصامات)
مكانه المناسب بين هذين التيارين. (فقه المقاومة السلمية)
للأنظمة القمعية يختلف تماماً عن (فقه المقاومة) للإحتلال
واغتصاب الأرض، ولا يجب أن تختلط الأمور في ذهن البعض.
إذ أن مقاومة الإحتلال مشرعن لها، ليس فقط في المجال الديني،
بل في القوانين العالمية والمعاهدات الدولية. نحن هنا
بصدد فقه تحتاجه المجتمعات العربية خاصة تلك التي لا تقع
تحت احتلال واضح وصريح، رغم أنها قد تكون تدور ضمن حلقات
الكولونيالية الجديدة، حيث تشهد هذه المجتمعات أسوأ حالات
القمع الداخلي والاعتقالات والأحكام التعسفية، ليس فقط
ضدّ من يخرج بالسيف، وإنما من يخرج بقلم أو مظاهرة أو
فكر يندد بحالة الظلم التي تسودها.
وتتصدر السعودية مثل هذه الحالات، بالإضافة طبعاً الى
دول اخرى في المنطقة العربية.
لطالما بقي (فقه مقاومة الظلم) بالطرق السلمية مغيّباً
إعلامياً وتربوياً واجتماعياً. ولطالما بقيت المجتمعات
العربية رهينة الاستقطاب الفكري والشحن الاجتماعي. ولطالما
ظل القمع سيد الموقف من جهة، والعنف السياسي من جهة أخرى.
لقد تشبّع العالم العربي بالقمع والعنف لدرجة كبيرة، واندثرت
المقاومة السلمية في متاهات الإستبداد السياسي من جهة،
ودعوات القتل والتفجير من جهة أخرى.
وإذا لم يكن لفقه الاعتصامات والعصيان المدني والتجمعات
والمظاهرات السلمية من نصوص قديمة، فيجب على من يدّعي
التجديد الفكري أن ينبش التراث القديم ويحاسبه على غياب
مثل هذه التنظيرات الشرعية التي تحتاجها المجتمعات في
الوقت الحاضر، حتى تتجاوز مرحلة التسلطية السياسية ومرآتها
التي تدعو الى العنف والاقتتال.
ولكن ـ مع الأسف ـ فإن من يدّعي التجديد الفكري في
هذه اللحظة الحرجة من تاريخنا، مشغولٌ إما بـ (فقه الطهارة
والوضوء) أو بفكر يحارب به أعداء السلطة التي تموّله وتموّل
برامجه الثقافية التي ملّ منها طيف كبير من مشاهدي الفضائيات
العربية. لقد آن لهؤلاء ان يخرجوا من معضلة طاعة ولي الامر
والخروج عليه، الى فضاء فسيح يستطيعون من خلاله غرس ثقافة
جديدة تناسب العصر ومتطلباته، وترسّخ مفهوم المقاومة المشروعة
لمشاريع التعسّف والسجن والإتهامات الباطلة التي تلصقها
السلطة بكل من فكّر بعمل جماعي يبتعد عن مفهوم الخنوع
والقبول بالأمر الواقع.
ولكن ليس من المستغرب أن تتجاهل وسائل الإعلام العربية
بعض الأصوات التي تحاول أن تخرج من (ثنائية الطاعة والخروج)
بوسائل فكرية واضحة وصريحة. وهي المملوكة من قبل سلطات
سياسية تحاول أن تنتزع من المواطن حقّه في قول كلمته،
وتحرمه من العمل السياسي السلمي. تفضل السلطة أن يبقى
العمل السياسي الذي يلجأ الى العنف هو الخيار الآخر حتى
يسهل عليها قمعه وخنقه. وقد تجد حرجاً في قمع مظاهرة سلمية.
ولكنها ـ أي السلطة السياسية ـ لن تجد من يرفع بيرق الإحتجاج
إن هي قتلت من يتهم بقتل الآخرين من منطلق الخروج المسلح.
ستكون حجتها واهية وضعيفة إن هي تصدّت لمجتمع مسالم، ولن
تستطيع أن تحشد الرأي العام ضدّه، وإن كانت ستجد في منظري
(فقه الطاعة) السند والعون، خاصة في محاكمها وقضاتها الذين
أصبحت مهمتهم الأولى والأخيرة، إسقاط التهم على الآخرين
المطالبين بحقوقهم بطرق سلمية تحفظ الدماء وتنصف المظلومين
في سجون القمع والاستبداد.
ستظل مجتمعاتنا العربية رهينة الثنائية الحالية، ولن
يجد الإنسان بصيص نور بين فقه الطاعة وفقه الخروج المسلح،
وسيظل القمع قائماً، والقمع المضاد مستشرياً، حتى تترسخ
ثقافة جديدة تجعل فقه المقاومة السلمية هو السائد. عندها
فقط نستطيع أن نتنبأ بخروج على المعهود الحالي الذي ينبيء
بانفصام إجتماعي عواقبه وخيمة.
القدس العربي 26/09/2007
|