مؤسسات دينية غير قادرة على تمثيل الأتباع
اللقاء السعودي ـ البابوي والقواسم المشتركة
مضاوي الرشيد
قد يتساءل البعض عن الخصائص المشتركة التي تجمع بابا
الفاتيكان مع العاهل السعودي في لقاء قصير أخذ أبعادا
إعلامية، صوّرته وكأنه مبادرة لحوار الثقافات، والتسامح
الديني، وتجاوز الأزمة التي خلفتها محاضرة البابا في جامعة
ألمانية، حيث ظهرت صورة الاسلام وكأنه دين عنف. وها قد
وصل خادم الحرمين الشريفين الى الصرح البابوي كمثال للتسامح
رغم الأزمة بين الفاتيكان والعالم الاسلامي، والاحتجاجات
التي صدرت في مختلف انحاء هذا العالم. ولكن يبدو ان المؤسسة
الكنسية في روما استطاعت ان تحتضن الأزمة وتتجاوز أبعادها
عندما استجابت السعودية للدعوة الى لقاء بابوي ـ سعودي.
من أهم العوامل المشتركة بين بابا الكنيسة الكاثوليكية
والعاهل السعودي ينبثق من كون الاثنين ينتخبان بطريقة
سرية، يشارك في انتخاب الأول مجموعة من كاردينالات روما
ويعلن عن الفائز الأول بعد استشارة المجموعة بالشأن الكنسي،
وهكذا هو الحال في طريقة تعيين الملك السعودي القادم،
حيث ثبّت نظام البيعة السعودية مبدأ السرية، وأناط مهمة
تعيين الملك الجديد بمجموعة مغلقة سرية مهمتها الاعلان
عن تنصيب ملك جديد في حالة المرض أو الوفاة.
وبينما ينتخب البابا من قبل الكاردينالات، نجد ان الملك
السعودي القادم سينتخب من قبل مجموعة من الامراء بعد التأكد
من حقيقة الوفاة من قبل طاقم طبي. وهكذا هي الحال في الفاتيكان،
حيث ينادى الكاردينال الكبير البابا المتوفي باسمه ثلاث
مرات، فإن لم يجب، تعلن الوفاة على بقية الحضور، ويتم
استدعاء طاقم طبي للتأكد من الوفاة. بالاضافة الى طريقة
الانتخاب السرية نجد ان هناك ايضا عوامل اخرى مشتركة بين
الكنيسة البابوية ونظيرتها السعودية.
من اهم القواسم المشتركة: تشظي سلطة البابوية والسعودية،
وظهور تيارات دينية جديدة تنبثق عن الكنيسة الرئيسية وتنافسها
في عقر دارها أو في المناطق النائية البعيدة عن المركز
الكنسي. من أخطر ما يهدد سلطة الكنيسة البابوية اليوم
هو تيارات منشقة عنها خاصة في افريقيا وامريكا اللاتينية
وآسيا، حيث لم تعد قبضة الكنيسة المركزية متماسكة ومحكمة،
مما أدى الى تفكك خطابها الديني وسلطتها الروحية على شعوب
تختلف في تركيبتها وتراثها عن ذلك المتواجد في المركز
الرئيسي. ظهرت خلال الستينات والسبعينات من القرن المنصرم
تيارات كاثوليكية انتفضت على الكنيسة الأم، وتحالفت مع
قوى شعبية مناوئة للخط الكنسي، وتمثل هذا التحالف في تبلور
اللاهوت التحرري وتبنيه من قبل ناشطين سياسيين يعارضون
حكم الدكتاتوريات في امريكا اللاتينية والجنوبية، بالاضافة
الى مناطق اخرى كالفيلبين، حيث تحالف بعض القساوسة الكاثوليك
مع التيارات المناوئة للسلطة المركزية، وتبنى هؤلاء خطاب
تحالف مع المضطهدين والمحرومين، وحرضهم على الثورة على
التسلط الكنسي المركزي.
وتعرضت الكنيسة الكاثوليكية بعد ذلك الى منافسة كبيرة
من قبل الكنائس البروتستانتية والتي امتد نفوذها الى مناطق
واسعة كان النفوذ الكاثوليكي فيها مستتبا ومسيطرا بشكل
واضح وصريح. جاء التبشير البروتستانتي في افريقيا وآسيا
وامريكا الجنوبية المدعوم من مركزه القوي في الولايات
المتحدة ليسحب البساط من تحت اقدام قساوسة روما في المناطق
التي انفتحت حدودها امام التبشير الديني خاصة في الهند
وكوريا، والآن يحتدم الصراع في الصين خاصة بعد ان فتحت
هذه الأخيرة أبوابها للدين بشكل عام.
وتجري حاليا منافسة قوية بين شقي المسيحية، وتسابق
واضح على قلوب الصينيين. ويقدر بعض المراقبين ان اكبر
مجموعة مسيحية في العالم ستكون صينية في المستقبل، حيث
قد يستجيب أربعمائة مليون صيني للتبشير المسيحي، وليس
من الواضح ان يعتنق هؤلاء المسيحية الكاثوليكية، وستبقي
المجموعة الأكبر مكوّنة من المسيحيين البروتستانت، وخاصة
التيارات الكاريزمية ومعتنقي مبدأ الايفانجليكل والمسيحي
المولود مرة ثانية. تشظّي المسيحية في العالم وابتعاد
الكثيرين عن الدين المؤسساتي المركزي والمقيد بقرارات
الفاتيكان، يشكلان ظاهرة عالمية قد تسمى ديانة ما بعد
الحداثة، وهي أشبه ما تكون بحالة استهلاكية وخصخصة للروحانيات
تنأى بنفسها عن الديانة المنظمة والمحصورة في مرجعيات
محددّة مسبقاً. ديانة ما بعد الحداثة تنطلق من مرجعية
ذاتية وتنظر للدين كسلعة في سوبرماركت كبير، حيث يستطيع
الفرد اختيار اتجاهات متناقضة يجمعها في سلته الروحية،
ليكون حفنة روحية خاصة به غير مقيدة بتعليمات روما وتوصياتها.
انطلقت هذه الاتجاهات اول ما انطلقت في الولايات المتحدة
وخاصة كاليفورنيا، حيث تشكلت كيانات دينية مستقلة ومخضرمة
بدأت تنتشر في العالم المسيحي بشكل سريع، اذ انها دعمت
بأموال وجهد من قبل القائمين عليها والمشاركين في ترويج
خطابها، واستفادت هذه التيارات التبشيرية الجديدة من الهيمنة
الامريكية على مناطق شاسعة، وعلى توسع النفوذ الامريكي
الاقتصادي والعسكري. تستعمل هذه التيارات زبائن محليين
يقومون بالمهمة نيابة عن المركز الامريكي، وما حصل للتبشيريين
الكوريين في افغانستان، حيث اختطفت مجموعة منهم من قبل
الطالبان، خير دليل على هذا المد الذي بدأ ينتشر في العالم
مهددا بذلك هيمنة الكنيسة الكاثوليكية ومقلصا لحدود خطابها
القديم.
واذا عدنا للسعودية وتصويرها لنفسها انها الحاضنة للخطاب
الديني الاسلامي، والتي تكرس اموالا طائلة لنشره عن طريق
الدعوة والعمل الخيري، سنجد أنها هي ايضا تواجه تحديا
من قبل تيارات اسلامية ترفض مأسسة الدين وتأطيره في مجامع
فقهية محدودة العضوية قد لا يمتثل لفتاويها أو توصياتها
جميع المسلمين، خاصة اولئك الذين يتمردون على المركزية
الدينية. ورغم عدم وجود كنيسة سعودية الا ان تاريخها الحديث
يدل على انها تحاول فرض مركزية دينية هي ايضا لها منافسوها
إما من قبل المنشقين عنها، أو من قبل من هو خارج اطارها
منذ البداية.
يشهد العالم الاسلامي حالة مشابهة لنظيره المسيحي،
حيث يبدو واضحا تشظي الخطاب الديني وتنافس المرجعيات واتباعها
على الساحة الاسلامية. يغذي هذا التنافس الاموال الداعمة
لهذا التيار أو ذاك، بالاضافة الى تململ الشعوب الاسلامية
من هيمنة الخطاب الواحد والذي قد لا يكون مقبولا من قبل
ثقافات محلية متفاوتة ومغايرة لثقافة المركز. ونجد ان
التنافس يتمركز في محاور جغرافية معروفة من شمال افريقيا
الى اندونيسيا، حيث تطورت ونمت ثقافات دينية تختلف اختلافا
تاما عن المركز السعودي في تنظيرها الديني وطقوسها وعباداتها.
ومؤخرا تبلورت ظاهرة الدعاة الاسلاميين الذين يخصخصون
الدين والتقوى مستعينين في ذلك بالاعلام الحديث والتواصل
مع جمهورهم عن طريق اللقاء المباشر والتواصل الشخصي المستمر.
هذا بالاضافة الى التيارات المنشقة عن المركز السعودي
الرسمي والتي انبثقت من رحمه كالتيارات السلفية المتشعبة
المناهضة للاسلام الرسمي السعودي، بل المعادية له خاصة
فتاويه السياسية وحلفه المستمر مع السلطة السياسية، وعدم
قدرته على افراز فكر لا يخضع للسياسة ونفعيتها وآنية قراراتها.
يتضح لنا من خلال هذا العرض المختصر، ان الاديان السماوية
المتمثلة بالمسيحية والاسلام، والمبنية على مرجعية النصوص،
قابلة لتجديد ذاتها من اجل استمراريتها. ومهما حاول البشر
ان يربطوها بمرجعيات بشرية وسلطة مركزية، نجدها تفلت من
ايدي هؤلاء وتحرر ذاتها من سيطرة المراكز البشرية وخاصة
الروحية والسياسية والمالية. وهي بذلك تنتصر لمبدئها وركيزتها
الالهية، متجاوزة بذلك احتكار الانسان لتفسير النص الديني
المدعوم سياسيا والمحصور مؤسساتيا.
وان عدنا للقاء البابوي ـ السعودي سنجد انه لقاء آني،
لن يغير مسيرة أو يقلب سننا كونية. فالبابا اليوم لا يمثل
المسيحية عالميا، وكذلك خادم الحرمين الشريفين ومؤسسته
الدينية. ولا بأس ان يتحاور الاثنان ويلتقيا في روما،
ولكنهما سيجدان انهما اصحاب سلطة تتراجع امام تغييرات
اجتماعية وعالمية ليست في مصلحتهما، بل هي تقلص هذه المصلحة
وتؤدي الى تآكل شرعيتهما شيئا فشيئا. وسيجد الاثنان انهما
في معركة ليست بين المسيحية والاسلام يحاولان تجاوزها،
بل هما في معركة مع ابناء جلدتهما والمنشقين عليهما من
كلا الطرفين. انها معركة الانسان مع من يحاول ان يحتكر
تفسير الدين، وهي معركة أزلية لن يحلها لقاء بالفاتيكان
أو غيره.
عن القدس العربي، 13/11/2007
|