عائلة تحكم، ولكنها تتملّص من أية مسؤولية أو محاسبة
السعودية وثقافة (ولي الأمر ما قصّر)!
د. مضاوي الرشيد
تستشري ثقافة (ولي الأمر ما قصّر) في المجتمع السعودي،
وكأنها كتاب منزّل لا يقبل التشكيك والإجتهاد، حيث تستحضر
هذه الثقافة عند كل أزمة أو كارثة أو مصيبة أو معاناة
شخصية كانت أم اجتماعية. ترددها ألسن ما يسمي بالنخب الثقافية
والاجتماعية والادارية والدينية، وتستعرضها على صفحات
الجرائد وشاشات التلفاز وفي المجالس العامة والخاصة.
ترتكز هذه الثقافة على معطيات ثابتة:
أولها: الإقرار بوجود شريحة تحكم، ولكنها تتملّص من
أي مسؤولية أو محاسبة. تحلّق هذه الشريحة في فضاء مستقل
منعزل عن المجتمع، بل هي فوق المجتمع، غير مرتبطة بسياسة
تدبير أمور البشر، وتداعيات هذه السياسة على حياتهم اليومية،
وحاضرهم ومستقبلهم.
ثانيا: تعتمد هذه الثقافة على الإيمان العميق بوجود
سياسي مقدّس غير قابل للنقاش أو المساءلة، أهم خصائصه
العطاء اللامتناهي، والكرم اللامحدود، فهو من يهب ويتكرّم،
وإن كانت النتيجة لهذا العطاء لا تعكس مدى النيّات الحسنة
للواهب، فهي انعكاس واقعي للمنفذين والقائمين على تدبير
إرادة الحاكم، لأنّه لم يقصّر في الماضي، ولن يقصّر في
المستقبل.
ثالثا: تستند (ثقافة ولي الأمر ما قصّر) على علم الغيبيات،
إذ أنها مبنيّة على فرضية وثوابت لا يمكن إخضاعها لعملية
حسابية أو إحصائية دقيقة، ومهما كانت الهبة، أو دعم المعاشات،
أو المواد الغذائية، فتظل هذه المكارم منعزلة عن دخل الدولة
وقدرتها الاقتصادية، ولا توجد أي علاقة عضوية بين الهبة
وموارد الدولة، إذ أنها تقطن في عالم الغيب، منعزلة عن
احتياجات البشر ونسبة التضخم ومعدلات انتهاك الحقوق وتفشي
الأزمات.
دور الإستبداد
كيف نمت هذه الثقافة؟ وما هي أسباب تفشيها وتعميمها؟
ولماذا أصبحت جزءا لا يتجزأ من علاقة الحاكم بالمحكوم؟
يلعب الاستبداد السياسي دوراً مهما في تثبيت هذه الثقافة
في الوعي السعودي، إذ أن أي انتقاد للسلطة السياسية بطريقة
مباشرة ودون مراوغة يعتبر تعديا على قدسية الرمز وانتهاكا
لحرمته. ويلقى هذا الانتهاك العقوبة المعروفة من سجن ونفي
ومنع من السفر، الى ما هنالك من وسائل متبعة، حيث يثبت
المقدس هنا أيضا أنه ما قصّر ولن يقصّر في فرض العقاب
الصارم على من خرج عن (ثقافة ولي الأمر ما قصّر).. تماما
كما يعاقب الخارج عن إجماع الأمّة، المشكك في ثوابتها،
والمخلّ بأخلاقياتها وسننها.
أضاف الاستبداد السياسي هذه الثقافة الى أركان الإسلام
الخمسة، وثوابت الإيمان العشرة، بل أنه رفعها الي درجة
عالية من السمو، حيث أصبحت تحتاج الي القلب واللسان والعمل
من أجل تبرئة الذمّة والحفاظ على النفس والمال والبنين
في بيئة تدّعي الإنفتاح والإصلاح تحت مظلّة ولي الأمر
الذي لم يقصّر!
لقد غيّبت هذه الثقافة السائدة إرثاً قديماً يدعو الى
محاسبة المسؤول ومكاشفته ومعاقبته، بل أنها محت هذا الإرث
لدرجة أن استحضاره من مخزون الثقافة أصبح أمرا عسيرا أو
شبه مستحيل. لقد اندثر هذا التراث حين تم استبداله بمقولات
(ولي الامر ما قصّر) وبعد هذا الاندثار تطلع البعض الى
ثقافات اخرى استطاعت أن تنشر فكرا مختلفاً يدعو الى المحاسبة
والمساءلة. فيعتمد بعضهم على المعاهدات الدولية القاضية
باحترام حقوق الإنسان، ومحاربة الفساد، وإنشاء المؤسسات
المسؤولة عن المحاسبة. وتطلع الكثير الى تفعيل هذا الفكر
في بيئات مختلفة، ولكن كان لا بد لثقافة الإستبداد السياسي
أن ترد بحزم، وجاءت الاتهامات التي تطعن بكل ما هو مستورد
من مبدأ أنه يتعارض مع موروثنا المقدّس، وتقاليدنا وعاداتنا.
ولكن الحقيقة هي أن هذا الفكر المستورد لا يتعارض إلا
مع ثقافة الإستبداد المهيمنة والمستشرية.
(ثقافة ولي الامر ما قصّر) هي جزء من (فقه الطاعة)
الذي يسخّر له المستبد ساعات طويلة من البث الاعلامي على
شاشات التلفزة، وصفحات الجرائد، وساعات من التعليم في
المدارس والجامعات ومراكز التوعية، أو بالاصح مراكز التضليل
التي تستمد شرعيتها من مدى قدرتها على ترسيخ فقه الطاعة،
ويقاس انجازها بعدد المتخرجين من الرعية المدجّنة تدجيناً
كاملاً، والتي تصبح بدورها النواة الصلبة لترويض الأجيال
القادمة. ولم تكتف السلطة السياسية بترويض الساحة المحلية،
بل هي تحاول أن تحتكر الفضاء العربي الفسيح لتروج لثقافتها
إقليميا تحت غطاء الاخلاق والفضيلة، تماما كما حصل عندما
تبنت وزارات الاعلام العربي وثيقة الصمت المسماة وثيقة
الاعلام، التي تقيّد الفضائيات العربية وعمل الصحافة تحت
ذريعة الحفاظ على الشرف العربي، وكأن هذه الفضائيات انتشرت
دون تدخل السياسي ورغبته وأمواله.
وهنا فقط ربما نستطيع أن نجزم بأن (ولي الأمر ما قصّر)
عندما سخّر جزءا لا يستهان به من الثروة النفطية لاحتكار
الفضاء حتى أصبح يغص ويختنق من كرمه وهباته.. استطاع ان
يعولم ثقافة عدم التقصير لتنخرط فيها وفي مصطلحاتها شرائح
كبيرة من المتلقين لهذه الثقافة المرتبطة بالاستبداد السياسي
وأبجدياته ومصطلحاته الكثيرة، ومن أجل ان تقبل وتستوعب
الجماهير العربية هذه الثقافة، كان لا بدّ أن تغلف وتسوّق
وكأنها دفاع عن الأخلاق. وهنا يربط المستبد بين السياسة
والفضيلة، ولكن الجميع يعلم أن تسويق البضائع تحت شعارات
الفضيلة إنما هي حملة اعلامية فاشلة، أفشلتها برامج الخلاعة
والرقص والمجون الممولة من قبل المستبد ذاته، ومن قبل
أبنائه وأبناء أبنائه والمنتسبين إليه بالمصاهرة.
تفكيك (ثقافة ولي الامر ما قصّر) محليا على الساحة
السعودية وعربيا، هي مسؤولية مصيرية تقع مهمتها كبند أول
في مشروع نهضة حضارية. لن تتحقق هذه النهضة الا اذا انخرطت
فيها أطياف مختلفة ومتنوعة تنتزع أبجدياتها من قاموس الفكر
العربي والوعي الجمعي للأمة.
انتزاع (فقه الطاعة) من مسلّمات هذه الأمّة، ضرورة
ملحّة، إن لم تنخرط فيها النخب الثقافية، فستختطفها شرائح
أخرى آثرت أن تنتهج استراتيجية العنف، وهي بالفعل الوحيدة
التي قدّمت بديلاً فكرياً ومنهجاً عملياً يقوّض دعائم
(ثقافة ولي الأمر لم يقصّر). وبما أننا نرصد يوميا تداعيات
العنف المسلح على المجتمعات العربية من طنجة الي بغداد،
لا بد أن نذكر بأن مسؤولية هذه النخب هي مسؤولية تاريخية،
ويجب عليها أولا أن تفكّك ثقافة الاستبداد السياسي وتخلق
البديل الذي لا يقطع أوصال المجتمعات وينذر بمزيد من العنف
والعنف المضاد.
تبدأ هذه المهمة أولا بنزع القدسية عن المسؤول والمطالبة
بمحاسبته ومساءلته من خلال المؤسسات المستقلة، والاعتراف
بتقصيره في مجالات متعددة بدءا بالاقتصاد والتعليم والقضاء
والسياسة الداخلية والخارجية. عندها فقط نثبت للعالم أننا
نلتحق بركب الأمم المتحضرة وننتقل من كوننا (رعية) الى
مرحلة (المواطنة) بكل ما تعنيه هذه الكلمة من معان. فالمواطنة
ليست درساً نتلقاه على مقاعد الدراسة، أو شعاراً نتباكى
على غياب تفعيله، إنما هو ممارسة لها آلياتها ومؤسساتها
التي تضمنها وتقرّها، ولن نحصل عليها إلا عندما نقرّ أن
ولي الأمر (يقصّر) ويتمادى في التقصير، وعندما ننزع العصمة
عنه، فانتقادنا له ومحاسبته ليس سباً أو تجريحاً أو براءة
للذمة، بل حقاً مهما لن تغفله الأجيال القادمة، حتى لو
غاب عن أولويات الأجيال الحالية. والمسؤولية اليوم تقع
على الجميع دون استثناء، إذ ان تبعات ثقافة الاستبداد
تطال المرأة والرجل، الكبير والصغير، المثقف والأمّي،
ولا ينجو منها سوى من آثر التبجّح بها وترديدها على مسامعنا
وتلويث فضائنا بها.
عن القدس العربي 26/02/2008
|